الله يسامح الدولة التونسية التي حولتني من باحث علم إلى
"حكواتي حواديث". أغدقت عليّ الدولة مشكورة من أموال الشعب 12 عاما
تعليم عالي: 5 للإجازة و 2 للماجستير و 5 للدكتورا. جلبت لي الأساتذة المشهورين من
فرنسا و مكّنتني من السفر إلى ليون تقريبا عشر مرات بغرض التكوين العلمي في أحسن
الجامعات الفرنسية, جامعة كلود برنار بليون 1. مع العلم أنه يكفي ثلث هذه المدة
لتأدية وظيفتي الحالية كأستاذ تعليم ثانوي. لم ينتدبوني في الجامعة لتدريس اختصاصي
في التعلمية الذي أضعت من أجله 8 سنوات بحث و تمحيص و الأغرب أنني أرى متفقدي
الثانوي يدرسون التعلمية في المعاهد العليا دون أن يقضوا و لو شهرا واحدا في
التكوين الأكاديمي في هذا الاختصاص و الأدهى و الأمرّ أنه يوجد بالجامعة التونسية
قرابة عشرة آلاف من الأساتذة لا يحملون شهادة الدكتورا التي أفنيت عمري للتحصل
عليها. سأحاول القيام بدوري الجديد على قدر المستطاع و سأروي لكم حكايتي مع وزير
التربية التونسي السابق.
عام 1998 و في بداية المرحلة الثالثة من التعليم العالي درست نظرية [ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي ] (Épigenèse cérébrale), هذه النظرية التي تقول بتفاعل الموروث والمكتسب داخل خلايا المخ البشري. الذكاء ينبثق من هذا التفاعل المستمر, فالذكاء إذن هو 100 % موروث بيولوجي و 100 % مكتسب حضاري. لا نستطيع الفصل و لا القسمة بينهما لشدة تشابك عديد المتغيرات. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض الحالات المرضية) لكن قد يصبح الإنسان ذكيا إن توفر له المحيط المناسب و إن كد و اجتهد و قد يبقى عاديا إن لم يتوفر له المحيط المناسب. تعلّقت بهذه النظرية التي تعارض تأليه الجينات أو المورّثات و تنسب لهم عن خطأ متعمد كل القدرات الذهنية البشرية من ذكاء و موهبة و فن و تفوّق و غيرها. لا تدرّس هذه النظرية في تونس لا في الثانوي و لا في الجامعة و قد بدأ تعليمها في فرنسا سنة 2001 في السنة ثالثة ثانوي, عام قبل الباكلوريا.
ذهبت إلى مقر وزارة التربية التونسية و اتصلت بمكتب الضبط و طلبت مقابلة الوزير. طلب منّي الكاتب تعمير استمارة فيها الاسم و اللقب و عدد بطاقة التعريف و سبب المقابلة. كتبت في خانة السبب ما يلي: سيدي الوزير أطلب مقابلتك شخصيا حتى أحاول إقناعك بإدراج نظرية "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي " في برنامج علوم الحياة و الأرض سنة ثالثة ثانوي, عام قبل الباكلوريا.
بقيت أنتظر ما يقارب شهرين حتى رن جرس هاتفي القار
بمنزلي بحمام الشط على الساعة الثانية عشرة, رفعت السماعة فقالت لي كاتبة الوزير:
"أنت محمد كشكار", قلت: "نعم", قالت: "السيد الوزير
ينتظرك في مكتبه حتى الساعة الثانية بعد الزوال". ركبت سيارتي فورا و بعد نصف
ساعة كنت عند باب الوزير فوجدته مفتوحا على مصراعيه. طرقت الباب و دخلت و قبل أن
أسلّم عليه قلت له: "قال فيك صديقيّ و طلبتك سابقا, أستاذ التربية البدنية و
أستاذ العربية, رئيس فرع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالزهراء و رادس و حمام
الأنف, أنك يساري و مثقف جدا و قد كانت قاعة محاضراتك في الجامعة تغصّ بطلبتك و
غير طلبتك. أما أنا فعلميّ التكوين, يساري الأهداف, ديمقراطي الوسيلة, علماني
الهوى و نقابي قاعدي يكره كل المحترفين و المحترفات في النقابة و الدين و السياسة
و الرياضة و الغناء و حتى في حقوق الإنسان و خاصة الخبراء المقاولين و المحللين
السياسيين نجوم الفضائيات العربية و أحترم ابنتي المحجبة [ أتمنى فقط أن لا تتنقب]
و أخوتي و أخواتي و أبناء أخواتي و بنات أخواتي و أصحابي و أقاربي و قريباتي
المتدينين و المتدينات و المحجبات منهن و غير المحجبات حتى لو اختلفت معهم أو معهن
حول موقف العلمانية [بفتح العين] من الدين عموما". قال لي الوزير:
"ظننتك كندي" [Canadien ]. لا أعرف لماذا حشرني في زمرة
الكنديين, المتعلمين المدنيين المتحضرين و اللطفاء الكرماء الطيبين و أنا من
الكنعانيين لا أحمل أي صفة من صفاتهم و لا أشبهم إلا في عدد الكروموزومات الـ46 و
حتى هذه الحقيقة العلمية كان في نفسي منها بعض الشك حتى اكتشف طبيعتهم و عددهم
العالم الألماني الذي أعجز و أخجل حتى عن كتابة اسمه بالعربية [ Wilhelm von Waldeyer-Hartz, 1891] . دخلت و جلست قبالته و هو يدخّن
"المارس ليجير" و بدأت في الحديث: "سيدي الوزير هل تعرف نظرية [ما
بعد أو ما فوق الوراثي المخي ]؟ قال بكل تواضع العالم و صراحته: "لا".
قلت: "سأشرحها لك" و توسّعت في الشرح و قدّمت له نسخة من البرنامج
الرسمي الفرنسي الذي ينصّ على تدريس هذه النظرية في الثانوي و طلبت منه ما جئت من
أجله و هو إدراج هذه النظرية في برنامج العلوم. أخذ مني الوثائق بكل لطف و انبهار
و قال لي: "أول مرّة يأتيني نقابي بمثل هذا الطلب العلمي المجرّد من كل أغراض
مادية في الزيادة في الشهرية". حين لمست تجاوبه و إعجابه بطرحي و فكري تماديت
و أطلقت العنان لجنوني و همومي البيداغوجية و التعلّمية و بدأت أحدّثه في مواضيع
لا علاقة لها بغرض الزيارة لا من بعيد و لا من قريب. حكيت له عن آخر تكوين في
الإعلامية و علوم الحاسوب تلقيته في مدينة نانسي بفرنسا و وصفت له قاعات الدرس
الفرنسية المجهّزة بالحواسيب لتدريس العلوم. نقلت له تطبيق "بيداغوجيا
المشروع" في فرنسا على تلامذة الثالثة ثانوي و كيف رأيتهم بأم عيني يعرضون
مشروعهم المتمثل في "دراسة تأثير الأمطار الحامضة على النباتات" و
يدافعون عليه حتى خلتهم طلبة المرحلة الثالثة عندنا يعرضون أطروحتهم أمام لجنة
الامتحان. عرضت عليه أيضا و دون مقدمات وجهة نظري في عملية الغش في الامتحانات و
قلت له أن للغش حلولا علمية و نحن نطبق الحلول التأديبية فقط و أضفت: "سأتجرأ
سيدي الوزير و أقول رأيي في الموضوع بصراحة". أجابني باحترام و فضول:
"قل". قلت له: " سيدي الوزير, لو ضبطنا تلميذا يغش في الامتحان
فأنت أوّل من يمثل أمام مجلس التربية في المعهد لأنك أنت المسؤول الأول عن الأسباب
التي دفعت التلميذ إلى الغش و من بينها اكتظاظ الأقسام و كثافة البرنامج و طوله و
عدم تسليح المدرس بالعلوم الضرورية لأداء مهمته مثل الابستومولوجيا و علم التقييم
و علم نفس الطفل و تاريخ العلوم و البيداغوجيا و التعلمية". ابتسم و قال لي:
"هذا رأيي, أردّده دائما". بقيت ساعتين تقريبا و أنا أهذي بكل ما يخطر
على بالي من نظريات تعلّمية تعلمتها حديثا. أنصت إلي بكل احترام و تعاطف و لم
يقاطعني حتى هدأت عاصفتي و خفت حماسي فودعني بعد ما وعدني بالنظر في طلبي. خرجت من
عنده و أنا مزهو و معتد بقدرتي على الإقناع, ألم أقنع وزيرا؟
رجعت إلى حمام الشط و انتظرت على الجمر موعد جلسة المقهى
حتى أروي لأصدقائي ما دار بيني و بين الوزير و انفش ريشي كالطاووس طربا و أتباهى
عليهم و أقول كما قال عبد المنعم مدبولي في مسرحية [ريّة و سكينة]: "ناسبنا
الحكومة".
بعد شهر تقريبا من المقابلة و أنا داخل صباحا إلى معهد برج السدرية بالضاحية الجنوبية لتونس العاصمة حيث أدرّس علوم الحياة و الأرض, اعترضني المدير مبتسما و قال لي: "تعال و شاهد ما أرسل لك الوزير". دخلت مكتب المدير فوجدت عشرة حواسيب. لم أصدّق في الوهلة الأولى حتى أكّد لي المدير أن الهدية تخصني شخصيا. كتبت رسالة شكر بسيطة باسمي الشخصي و بعثتها إلى الوزير عن طريق التسلسل الإداري. استدعاني المدير الجهوي السابق ببنعروس و طلب مني إعادة كتابة رسالة الشكر و قال لي : "تكتب الرسائل إلى الوزراء بالقلم الأخضر". أملى عليّ نصّا فيه تنويه كبير بالتسهيلات الكبيرة التي قدمتها لي الإدارة الجهوية لتأسيس أول مخبر تدريس علوم الحياة و الأرض بالحاسوب في الجمهورية التونسية. امتثلت لأوامره مجاملة و إنصافا لأن هذا المدير الجهوي رحّب بي ترحابا مبالغا فيه بعد ما علم بعلاقتي مع الوزير و سأحكي لكم ما حدث بيني و بينه من وقائع. قبل أن أطلب مقابلة الوزير أردت أن أتبع التسلسل الإداري و طلبت مقابلة المدير الجهوي فرفض طلبي. استدعاني بعد ما أصبحت حسب تقديره من حاشية الوزير و كنت واعيا بهذا الضعف فيه فدخلت عليه مكتبه و تصرفت و كأنني رئيسه في العمل و عاتبته بشدة على رفضه السابق فقام من كرسيه و استقبلني بالأحضان و استدعى كل رؤساء الأقسام السابقين في الإدارة الجهوية و أوصاهم باستشارتي في كل ما يخص الإعلامية و علوم الحاسوب و كأنني خبير في الميدان و أنا في الواقع لا أعرف إلا استعمال الحاسوب للكتابة و الإبحار مثل أي مبتدئ.
بسرعة غريبة و غير معهودة في وزارتنا, تجنّد كل أعوان الإدارة الجهوية و كل فنّيي [المعهد الوطني للمكتبية و الإعلامية] و جهّزوا لي قاعة و ركّبوا العشر حواسيب و "أصبح للعرب قمر" و كان أول مخبر حواسيب لتدريس علوم الحياة و الأرض في إفريقيا و الشرق الأوسط و ممكن قبل الباكستان و بنغلاديش أيضا.
أثناء أشغال تجهيز المخبر الوحيد من نوعه كان الوزير يتصل بي شخصيا في المعهد للاطمئنان بنفسه على سير الأشغال و كان يرفض التحدث إلى المدير ليسمع مني مباشرة دون وساطات.
علا شأني و صعد طالعي و سطع نجمي عند موظفي وزارة التربية و كانت مديرة التعليم الثانوي تتصل بي هاتفيا في منزلي لتطلب مني مدها بقائمة متفقدي علوم الحياة و الأرض الذين سيتم استدعاؤهما في الندوة التي ستقام في [مركز التكوين المستمر بريانة] و طلبت منّي إعداد محاضرة ألقيها في الندوة حول تجربتي الجديدة. كنت مغتاظا من متفقد قفصه لأنه أسقطني في امتحان ترقية عام 86 لخطأ علمي تافه فطلبت استدعاءه ليحضر تدخلي و يعرف أن الخطأ ليس عائقا في سبيل التعلم و قد أخطأ كبار العلماء ومن أخطائهم استفادت البشرية و تقدم العلم.
أعددت نفسي جيدا كعادتي و قلت في نفسي: "اليوم يومك يا كشكار مع بعض المتفقدين الذين أهانوك و استنقصوا من قيمتك العلمية". كان جمهور المتفقدين صامتا و أنا أكيل لهم النقد و الوصف الدقيق و قلت فيهم ما قال مالك في الخمر, لا أخشى في الحق لومة لائم و من كان الوزير سنده فمن سيتجرأ و يعانده: "جلهم لا يحمل أي شهادة في الاختصاص أعلى من شهادة الأستاذ و أغلبيتهم لم يحصلوا على تكوين أكاديمي لا في البيداغوجيا و لا في التعلمية و لا في الابستومولوجيا و لا في علم نفس الطفل و لا في علم التقييم, فكيف سيدي الوزير سيستفيد الأستاذ من حلقات التكوين التي يشرفون عليها؟ كان أجدر بهم استدعاء أهل الاختصاص و ليس انتحال صفتهم" و انتحال الصفة كما تعلمون جريمة يعاقب عليها القانون. كنت استرسل في الحديث و عينا الوزير المليئتان بالإعجاب تقولان لي زدهم و سمّعهم ما لم يسمعوه طوال حياتهم المهنية و أثأر لمئات الزملاء من بعض المتفقدين الذين أذلّوهم و أحبطوهم و لخبطوهم بوصفاتهم البيداغوجية الجاهزة و أرهبوهم بزياراتهم الفجئية و المخابراتية و الانتقامية.
بعد المحاضرة, صافحني الوزير و شكرني. لامني متفقدي المباشر على ما قلت في حق زملائه فأجبته: "هل تستطيع و تتجرأ أنت أو أحد زملائك و تقول للوزير ما قلته أنا: "إذا غشّ تلميذ في الامتحان, نحيلك أنت على مجلس التربية قبل التلميذ" قال: "لا". قلت: "احترم نفسك إذا و لا تناقشني". مع العلم أن متفقدي هذا لا يشمله نقدي بل على العكس تتوفر فيه الشروط التي أطالب بها لأنه الوحيد "حسب علمي" من بين متفقدي علوم الحياة و الأرض في الجمهورية التونسية الحائز على شهادة الدراسات المعمقة في علم الوراثة و على ديبلوم الدراسات المعمقة في التعلّميّة [لا مجاملة في الشهائد العلمية].
رجعت إلى بلدي حمام الشط و إلى أصحاب المقهى و أنا مزهو بانتصاري الأدبي على بعض المتفقدين المتنفذين و المسيطرين على التدرج المهني للأساتذة. احتفاء بي, نظّم أصدقائي على شرفي جلسة أنس و ضحك و فرح و مرح [و في مثل هذه المناسبات فقط يستقيم و يجوز جمع المفهومين معا] و أثناء السهرة كان صديقي, الناشط الحقوقي المعروف على المستوى الوطني, , مثقف المجموعة و قد كان اثقف من الوزير نفسه, يتحرك كثيرا فنهرته ساخرا منتحلا صفة الوزير شخصيا: "إلزم مكانك و إلا نقلتك نقلة عقاب إلى معهد ببنقردان في الجنوب التونسي".
كنت ضيف شرف في كل الاجتماعات الهامة حول مشروع "مدرسة الغد" الرائع في نصه و الواعد في شعاراته مثل تطبيق المدرسة البنائية لبياجي و فيقوتسكي حيث يبني التلميذ معرفته بنفسه بمساعدة المدرس و الأقران. لكن شتّان ما بين النظري و التطبيقي, رفعت الدولة شعارات تقدّمية و لم توفّر لها البني التحتية اللازمة لتنفيذها في المدارس و المعاهد و الجامعات فبقي القرار حبرا على ورق و دار لقمان على حالها لا بل ازدادت سوءا.
حضرت اجتماعا هاما حول التنشيط الثقافي في المعاهد, تدخل أحد المسؤولين الكبار في وزارة التربية و بالغ في تثمين مجهودات الوزارة في هذا الميدان و بدأ يعطي الإحصاءات المضخّمة و يعدّ النوادي بالآلاف في كل نواحي الجمهورية التونسية. أخذت الكلمة و قلت: "سيدي المسؤول, كل ما ذكرتموه صحيح, لكن مع الأسف على الورق فقط, كل النوادي تقريبا موجودة افتراضيا في تقارير المديرين حتى يوهموكم بكثرة نشاطهم و ينالوا رضاكم بالتزييف و التملق أما أنا فرجل ميدان و أمارس هذا النشاط فعليا في معهدي فلا تركنوا سيدي إلى تقارير بيروقراطيتكم و لا تصدقوا الأوراق و انزلوا إلى الميدان حتى تراقبوا بأنفسكم أو عبر من يمثلكم". التفت كاتب الدولة يمينا و شمالا سائلا مساعديه: "مع من أتى هذا المتحدث بلسان غير خشبي و من يتبع و من استدعاه أصلا إلى الاجتماع؟" تنصل كل الحاضرين من تبعيتي لهم حتى دخل في هذه الآونة بالضبط صديقي و مشجعي على التنطّع و النقد و الهجوم على الرداءة السيد الوزير فحيّاني من بعيد و بهت كاتب الدولة. عندما يدخل الوزير المنتدى تنشرح الأسارير لا لطلعته البهية و هي بهية بالفعل لكن لسبب آخر. كان الوزير لا يصبر على التدخين حتى أثناء الاجتماع و عندما يأخذ سيجارة يقلده كل المدمنين فتمتلئ القاعة دخانا من كثرة التدخين.
دعيت إلى اجتماع في الحمامات حول تدريس الإعلامية في الإعدادي و الثانوي. أجلسونا كل أستاذ على حاسوب لاستقبال الوزير. جاء الوزير و بدأ يتجول بيننا متحدثا لكل واحد منّا على حده حتى وصل إليّ و كنت عابسا فقال لي: "ما بك يا كشكار متجهما؟" أجبته: "أنا مستاء جدا من تصرف بعض مديري المدارس الإعدادية الذين يخبئون الحواسيب و يغلقون عليها القاعات و لا يتركون التلاميذ يستعملونها خوفا عليها من الإتلاف, فكيف سيتعلم هؤلاء التلاميذ الإعلامية إن لم نتركهم يستعملون الحاسوب". تعجّب من كلامي لكن صدّقه و أمر على الفور مساعديه أن يطلبوا من جميع المديرين فتح قاعات الإعلامية للتلاميذ و تحرّرت منذ تلك اللحظة آلاف الحواسيب من الإقامة الجبرية بقرار وزاري طبّق بحذافيره بعد أسبوع.
دعاني الوزير مرة إلى العشاء معه في نزل النهضة بضواحي تونس العاصمة و أكلت لأول مرة و آخر مرة في حياتي ملعقة قهوة من "الكافيار" [سرء السمك المحضّر أو بيضه]. كان العشاء مقاما على شرف رجل أعمال و مثقف كويتي و تجاذبنا الحديث, نحن العشرون مدعو, و اقترحت على الوزير أثناء النقاش تدريس المنهجية, اختصاصه الذي كان يدرسه بالجامعة, في الثانوي و قد كنت صادقا و جادّا في طلبي.
اشتهر مشروعي و مخبري وبلغ صيته الاتحاد الأوروبي و زارني في قسمي نائب من البرلمان الأوروبي فقدمت له نبذة عن نشاطي التربوي.
استضافتني قناة 7 للتلفزة التونسية في حصة "نسمة الصباح" أنا و زميل في الرياضيات له نفس المشروع. قبل الدخول إلى مبنى التلفزة وجدنا باكرا المدير العام للمعهد الوطني للمكتبية و الإعلامية في انتظارنا ليحذرنا من مغبة الخروج على النص و التقيد بموضوع الحصة و هو تدريس الرياضيات و علوم الحياة و الأرض بالحاسوب. تمت الحصة الوحيدة بخير و أصبحت من نجوم التلفزة أو هكذا تراءى لي.
قدمت مطلبا للإدارة الجهوية للتعليم لتعييني مديرا في معهد أو مدرسة إعدادية و كتبت التماسا للوزير طالبا مساندته الشخصية. أجابوني بالموافقة و عينوني مديرا بالمدرسة الإعدادية بحمام الشط. كنت حينئذ أمرّ بأزمة نفسية حادة نتيجة تردّدي في مواصلة دراسة دكتورا التعلمية. تتالت عليّ التعاليق, نصحني أصحابي النقابيون مثل الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي بحمام الأنف و عضو النقابة الجهوية للتعليم الثانوي السابق ببنعروس, بترك المسؤولية و تقديم استقالتي لما تحمله الإدارة من تخل عن المبادئ النقابية و شجعني بعض الأصدقاء الحميمين على التشبث بالإدارة لما تحويه من منافع مادية مثل السكن المجاني و الهاتف المجاني. قدمت استقالتي إلى رئيس مصلحة التعليم السابق في الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس فقال لي معاتبا حتى يثنيني عن قراري: "الوزير بنفسه و بقلمه الأخضر أشّر على اسمك". شكرته و رجوته تبليغ شكري للوزير و كتبت استقالتي و رجعت إلى منزلي خفيفا مرتاحا بعد ما نزعت هذا الحمل الثقيل عن كتفي. اتصل بي في الدار صديقان و طلبا مني بكل لطف و محبة أن أسحب استقالتي. سحبتها. جاءني شقيقي الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي للشغل بطبرقة و نصحني بالتمسك بالاستقالة للتعارض الواضح بين العمل الإداري و النشاط النقابي. قلت في نفسي "سأعقلها و أتوكل" كما يفعل المجاهدون في فيلم عمر المختار للمخرج الأمريكي السوري العقاد عندما يعقلون ركبتهم بحبل متين و هم يواجهون العدو حتى يستحيل عليهم الفرار من ساحة المعركة. اتصلت بالأخ الكاتب العام السابق للاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس و طلبت منه أن يتصل بالمدير الجهوي السابق للتعليم ببنعروس حتى يعفيني من هذا التعيين الثقيل على قلبي و ضميري و في الغد ذهبت إلى الإدارة الجهوية للتعليم و قدمت استقالتي الثانية و النهائية و رجعت إلى حمام الشط فرحا مسرورا و ذهبت مباشرة إلى شط الجهمي بولاية نابل صحبة صديقي و زميلي الكاتب العام الحالي للنقابة الأساسية المحلية المتنطعة بحمام الشط حتى أغسل هواجس الخوف و الهروب و التأفف من المسؤولية التي يتسابق على نيلها الآلاف و تقدّم من أجلها القرابين. قال لي مرافقي في الشط, المشهور بإخلاصه و صدقه و نضاليته النقابية الشفافة: "لعب بك الوزير" فأجبته: "غنم أولاد الشعب بمعهد برج السدرية بالجمهورية التونسية عشرة حواسيب ستساهم في محو الأميّة في الإعلامية و علوم الحاسوب" و هذا ما تم فعلا و "سردكت" أنا [فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية الفصحى] عاما كاملا على بعض المتفقدين و بعض المسؤولين و قلت صراحة و علنا ما أفكر فيه بمباركة و تشجيع أثقف وزير في الجمهورية التونسية.
بكت ابنتي البالغة من العمر ثمانية عشر سنة و حزنت عائلتي لفقدان المنصب المرموق في نظرهم. أحسست قليلا بالذنب حيالهم و قلت في نفسي, ما ذنبهم حتى أحمّلهم اعوجاج تفكيري و مثاليتي المبالغ فيها في هذا الزمن الرديء.
في آخر السنة الدراسية منحني الوزير "وسام الاستحقاق التربوي" جزاء على تنفيذ المشروع العلمي المتمثل في تدريس علوم الحياة و الأرض بالحاسوب لكن بقي المشروع وحيدا و يتيما إلى يومنا هذا 2010 و رجعت أنا أستاذا نكرة في معهد برج السدرية و منذ ذلك اليوم لم أدع لأي اجتماع هام أو غير هام و لم أر الوزير مباشرة و لا في التلفاز لأنه أعفي من مهامه الوزارية و عيّن سفيرا.
ملاحظة 1: صدفة مريحة, بعد مدة من نقدي اللاذع لتكوين المتفقدين تأسس معهد المتفقدين بقرطاج الذي استجاب للتكوين البيداغوجي و التعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. أقترح أن لا يقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرزون" في اختصاصهم.
ملاحظة 2: أمضي مقالاتي بصفة مواطن العالم لأنني بالفعل
أحمل بطاقة تعريف مواطن العالم عدد 185608 الصادرة في 30/11/2007 و انتمائي
العالمي يكمّل و يجمّل و لا يتعارض تماما مع انتمائي لبلدي تونس.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 15 ماي 2010.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire