وُلِدت الفلسفةُ العقلانيةُ
بعيدًا عنّا في الغربِ وتحديدًا في اليونان منذ 25 قرنًا، خمسة قرون قبل ميلاد
المسيح وإحدى عشر قرنًا قبل هجرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى
المدينة.
عادَتْها الحضارةُ الغربيةُ
المسيحيةُ، حاربتها بشراسة وضراوة أكثر ألف مرة مما فعل معها المسلمون: قمعت دُعاتَها
ورموزَها وشرّدت تلامذَتَهم وأتباعَهم ومريدِيهم، نفت أكثرَهم، قطعت ألْسُنَ
بعضهم، رَمت بِبعضهم في قاع البئر حتى الموت البطيء، شَوَتْ لحمَ بعضهم على نارٍ
هادئة وهم أحياء مقيّدِين معلقين مصلوبين على رؤوسهم وقتلت أكثرهم، وليس بِبعيدٍ -
أي في القرن 17م - حاكمت وأدانت وفرضت الإقامة الجبرية على أفضلهم، مُكتشفُ كروية
الأرض عالِم الرياضيات الشهير ڤاليلي (المصدر: هاشم صالح).
خاصمتها دون هوادةٍ طِوال 17
قرنًا اعتقادًا منها أن الدين أتاها بالأجوبة الشافية والكافية لكل أسئلة الحياة
ولم تعد في حاجة لعقول الفلاسفة واستغنت عن تشغيل العقل واستبدلته بوصفات النقل،
وصفاتٍ جاهزةٌ بسيطةٌ مطمئنةٌ ومريحةٌ لِضميرِ الغني والفقير، الأول يفرح ويستفرد بِغناه
والثاني يرضى بِفقره بل يراه ابتلاءً ويعتبره تكفيرًا عن أخطائه الوهمية وتخفيفًا
من العقاب يوم القيامة ورحمةً من السماء.
بدأت تتراجع عن موقفها وترجع
عن زَيغِها وتهتدي إلى الطريق المستقيم إثر صدمة محاكم التفتيش في نهاية القرن 15م
في إسبانيا والبرتغال. تراجعت تحت وقعِ مطارِقِ الفلاسفة وسلّمت بالضربة القاضية
وانسحبت من السلطة مكرهة لا بطلة وجبرًا تصالحت مع غريمتها وابنتها الفلسفة
العقلانية الإغريقية وعلى أساسها شرع الغربُ الحديثُ في البناء والترميم والإصلاح
وبدأ نهضته مع نبيه البشري العبقري الموهوب المنبثق من بيئته الأرضية غير المبعوث
من السماء، الفيلسوف ديكارت. اللهم يا حنّان يا كريم ابعث من بيننا ديكارتًا مسلمًا
عربيًّا من صُلبِنا يكشف لنا العقلانية الكامنة في رسالتك المحمدية ما دمنا لم
ننتجه بأنفسنا كما نبهتنا وحذرتنا في قرآنك الكريم يا أرحم الراحمين، ألم تقل لنا
"لا يغير الله ما بِقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم" فلماذا لا نفقه هذه
الحكمة ولا زلنا ننتظر خلاصًا من السماءْ دون جُهدٍ ولا عناءْ ونتوهم قدومَ مهديٍّ منتظرْ لا يُرجَى من انتظاره غير الكسلِ
والشرْ.
للأسف لم تجنِ الحضارة الغربية المسيحية من انتصار العقلِ على النقلِ إلا
الربحُ والرفاهُ المادي لفائدة أقلية من البورجوازية على حساب أغلبية من الأجراء
المفقرين عمالاً وفلاحين. باسم العقلانية الباردة والمتوحشة استحوذت البورجوازية
بالقوة على ثروات العالم الأحفورية والمكتسبة بعرق الأجراء، أقنانُ الحداثة وعبيدُها
الجُدُدُ.
أما قصةُ الحضارة العربية
الإسلامية مع الفلسفة العقلانية الإغريقية فمسارٌ مختلفٌ ومخالِفٌ. حقبةٌ جاهليةٌ في
الجزيرة العربية، ثوّرها الإسلام ونوّرها فتوهمنا مثل اليهود والمسيحيين أن الخلاص
كله يأتي من السماء وحدها وليس لنا إلا الدعاءْ وكما ذكرتُ أعلاه الانتظارُ دونَ
جُهدٍ أو عناءْ. اكتشفناها في القرن 9م، أي قبل الغرب بخمسة أو ستة قرونٍ، وتحديدًا
في عهد المأمون خلال الخلافة العباسية مؤسس جامعة بيت الحكمة سنة 830م. نشطت
الترجمة في دار الإسلام وعمّت الحداثة (المصدر: أدونيس) وانتشر حب المعرفة بغض
النظر عن مصدرها. استفدنا منها أيما استفادةٍ ووظفناها أفضل توظيفٍ، شجرة أقلمناها
وكيّفناها ووزرعناها وسقيناها ورعَيناها وطورناها، وبفضل عقولِ فلاسفتنا المسلمين
عُجمًا وعربًا أثمرت في ربوعنا رياضيات ولوغاريتمات وفضائيات ومِعماريات وفلاحيات
وطِبًّا وعلومًا لأول مرة تجريبية. دام الزواج والود والوئام بيننا وبينها قرابة
الثلاثة قرون ثم حصل ما لم يكن في الحسبان، دَبَّ الشقاق وحصل بسرعة الطلاق،
رجمناها ومِن بلادنا وأمخاخنا شر طردةٍ طردناها، واحتفاءً بِنفيِها في نهاية القرن
12م، أشعلنا نارًا وقودُها كُتُبُ ابن رُشد. ومنذ ذلك التاريخ المشؤوم، أي منذ
ثمانية قرون، دخلنا في عصرِ النكبة ودخل الغرب عصرَ النهضة، والمفارقة الكُبرى أن
نكبتَنا بدأت على أنقاض جثة ابن رشد ونهضتِهم شُيِّدت على كَومَةٍ من كُتُبِ ابن
رشد، الفيلسوف العربي والقاضي الشرعي المسلم.
خاتمة:
طردناها فذهبت ولم تعُد، ولم
تطأ قدمها أرضنا منذ ذلك التاريخ المعلومْ والمَكلومْ. فإلى متى سيدوم بيننا
وبينها الخصامْ، ولماذا لا نستعجل بيننا وبينها الوئامْ؟ ولماذا لا نعتذر عما
صَدَرَ منا في حق صاحبة العقل التمامْ، ونطلب عفوَ عالية المقامْ، ونعقد عليها من
جديد ونستقبلها في ديارنا بالزغاريد والأنغامْ، لعل الله ذو الجلال والإكرام يمنّ
علينا بِذرية أصلح من ذريتها مع أولاد الأعمام، ونحقق بمعيتها تصالحَا بين العقل
والنقل وبين العلم والإيمان؟
إمضائي
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر"
(جبران)
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، الخميس 6 أفريل 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire