رفاقي وأحبابي، أيها
المثقفون اليساريون التونسيون الحزبيون، لن أنكركم ولن أتنكر لكم لكنني في نفس الوقت لن أتنكر لأهلي ولن أنكرهم أيضًا ما حييتُ، اعذروني فَهُمُ في مَعَزَّتِكُم أو أكثرَ قليلاَ: ألا مَن كان يعبد منكم لينين أو ستالين أو ماو، فإنّ ثلاثتهم قد ماتوا وسقط جدار برلين وتفتت الاتحاد السوفياتي وتبرجزت
الصين الشعبية وتحالفت الجبهة الشعبية انتهازيًّا مع رموز التجمع - أعداء الأمس
والشعب واليوم - في جبهة الإنقاذ ودخل العمال والفلاحون أفواجًا في الأحزاب
الإسلامية واعتنق الشبابُ السلفيةَ الجهاديةَ - عن قناعة وتصحّر فكري أنتم أحد
صُنّاعِه - ولم تنفع فيهم لائكية فرنكوفونية منبتّة ومستوردة. أما مَن كان منكم صادقًا
ونزيهًا ويريد خدمة العمال، فإن العمال في الحقول والمصانع
والمساجد والجوامع وليسوا في المنتديات اليسارية أو الأحزاب الماركسية أو الكتب
النظرية. ومَن كان منكم ينتظر خلاصًا من
الطبقة البروليتارية التونسية، فإن العمال التونسيين لا يمتلكون حتى اليوم وعيًا
طبقيًّا بقوتهم ووحدتهم. فما أنتم اليومَ فاعلون؟ وهل ستظلون على انبتاتكم مُصِرّون
ولأهلكم مُقصون ولبيئتكم متنكرون؟ أفلا
تتعظون وتتفكرون إن كنتم بالفعل لشعبكم خادمين كما تدعون؟ ألم يحن الوقت أن تصبحوا
لمستقبل شعبكم بنائين ومن تراث أجدادكم تحتطبون ومع هُويتهِم متصالحين؟ كفاكم
تفحصًا في كُتبٍ مستوردة وانظروا في واقع بلدانكم لعل الحل فيه تجدون؟ ومَن يكره هُوية
أمه وأبيه فلا خيرَ يُرجَى منه لأهله وذويه! ومَن يعترف بذنبه فلا تثريب عليه!
ومَن يزاوج ويصالح بين فكره وواقعه، يطوّر فكرَه ويغير بإذن الله واقعَه! ومَن
يتنازل لِـبَنِي قومِه، يتعالى في عيونهم ويكسب ثقتهم! ومَن يتنكر ليساريتِه يفقد
مصداقيتَه! والمرء يُعرّف بتعدد هُوياته فهي تُغنيه وتُثريه ما لم تتناقض مع
مكتسباته وموروثاته! والإنسان ابن بيئته، فيها خُلِقَ وفيها ترعرعَ وفيها جذورُه
حتى ولو عانق فكرُه السماء!
أصْدُقُكُم النصحَ،
ولست بأعلمِكُم وقد أكون أقل نضالية من أصغرِكُم، لا شيء يُنتظر من ثورة بروليتارية
كلاسيكية، لا اجتماعيًّا ولا ثقافيًّا ولا اقتصاديًّا ولا سياسيًّا، جرّبها نصف
العالَم ومن حسنِ حظه فَشَلْ. هذا لا يعني أن الليبرالية الرأسمالية هي نهاية
التاريخ كما يدّعي مُنظِّروها وفلاسفتها واقتصاديوها ومثقفوها ومرتزقتها. يبدو لي
أنه ما زال لليسار الديمقراطي في البلدان العربية الإسلامية مستقبلٌ، يسارٌ متصالح
مع هُوية مجتمعِه، يتكلّمُ بلسانِه وينطقُ بمنطقِهِ ويقدّسُ رموزَه، ولنا في
الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الأسكندنافية نموذجٌ يُحتذى به دون استنساخ
أعمى. يجب علينا إذن تصوّر استراتيجيات جديدة للنضال والفعل السياسي، استراتيجيات
تكون مبتكرةً ومتأقلمةً مع تراثِنا الثقافي والحضاري والديني وفي نفس الوقت غير
متناقضةٍ مع التراث المعرِفي والحقوقي في العالم.
واهمٌ مَن يتصور أن كل
السلطة محتكرة من قِبل النظام الحاكم (Le macro-pouvoir) ولو أزحناه فُزنا بالجنة الأرضية. غشاوةٌ نزعها عن أعيننا
"فوكو"، بارك الله فيه وجازاه الله خيرًا له ولذرّيته مِن بعده. فالسلطة
مبثوثة في مفاصل المجتمع ومتنقلة في عروقه وهي أقرب إلى كل واحد فينا من حبل
الوريد (Le
micro-pouvoir)، في الشرطي والحاجب، في المدرّس
والقيّم، في الجزّار الخضّار، في الطبيب والممرّض، في الأجير والمؤجّر، إلخ. تمسِك
بنا ولا نمسِك بها، تتحكم فينا ولا نتحكم فيها، لكنها يدٌ معلومةٌ وليست
يدًا خفيةً أو قوةً غيبيةً تدير شؤونَنا وتقرر مصائرَنا كما تشاء، هي ليست إلاهًا
مجردًا متعاليًا، فالله واحد أحد لا شريك له ولا وريث ولا وَلدْ، هي ملموسةٌ في
الواقع وليست هُلاميةً ساكنةً في غول اقتصاد السوق كما يحاول أن يوهمونَنا أصحابُ
السوق مصّاصو الدماء وأعداء الإنسانية.
إمضائي
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر"
(جبران)
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، الأحد 2 أفريل 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire