جمنة الخمسينيات تعطي درسا في الرحمة: سِيدِي المبروك، أبٌ لمَن لا أبَا لَهْ وحبيبُ المحتاجين
حَسَنُ الوجه، جميل الهندام، يرتدي غالبا جبة بيضاء. مواطن جمني يقطن في
مدينة ڤبلي. موظف بالشركة الجهوية للنقل ڤبلي-ڤابس. يقصده العابرون، صباحًا مساءً
ويومَ الأحد ولا يردّ أحد، القاصي والداني، القريب والبعيد، الكبير والصغير،
السليم والمريض، يرتاحون، يبيتون أو بالقيلولة يكتفون، يشربون، يأكلون، يأخذون أو
يقترضون وأكثرهم لا يُرجعون والبسمة لا تفارق ثغره حتى يفارق ضيفه.
كلما سافرتُ إلى مدينة ڤبلي لقضاء حاجة في سوق الثلاثاء، لا يفوتني إلا أن
أسلّمَ عليه في داره أو في مقرِّ عمله. في الستينيات، كنتُ تلميذًا بيّاتًا في
إعدادية سيدي مرزوڤ بڤابس وعمري لم يتجاوز خمسة عشر عامًا بعدُ، وعند بداية كل سنة
دراسية كان المبيت يبعث لي قائمة ملابس داخلية إلزامية (Trousseau
obligatoire)، ولقِلّة ذات اليد كانت أمي تحتار في توفير المطلوب
فتبعثني دون تردد أو سابق إعلام إلى سيدي المبروك، أسلِمه القائمة، يرافقني إلى
المغازة، أرجع لأمي فرحًا مزهوَّا.
لِسِنينَ كنتُ أظن أنني الوحيدُ المستفيدُ من هذا المخلوق المسخَّرِ
ربّانيًّا لخدمة الفقراء واليتامَى أمثالي حتى تعرّفتُ على غيري مِمَّن شملهم
كرمُه الحاتِمِي. بلغني مرّةً أن شرطيًّا جمنيًّا تجرأ عليه وصفعه في مركز الشرطة
بڤبلي. كانت تربطني بهذا الشرطي علاقة صداقة طفولة وشباب، تُوُفِّيَتْ صداقتُنا مذ
وصلني الخبر. لكن وبعد مرورِ عقودٍ من الزمن، التقيتُ به صدفةً، سألته عمّا ارتكبه
من جُرمٍ في حق مَن انتدبه التاريخ ليقدّمَ مساعدات مادية عينيّة لوجه الله خالصا
لا ينتظر من وراء صنيعه هذا، لا جزاءً ولا شَكورَا. أجابني: تُقطَع يدَ مَن نَوى
أو فعلْ حتى لو كان أبي أو أخي أو أي رَجُلْ، ثم أردف وكله وَجَلْ: لو كان القائل
مهبولا يكون السامع أعقلْ، بالله عليك هل
تصدّق أنني كنت قادرا حتى ولو أردتُ على أن أصفع مَن معي مثلما معك فعلْ؟ صدّقتُه
وعلِي لا يكذب ولَمْ يومًا يزِلْ.
ماتت زوجته الصحبيّة الطيبة البهيّة وهو في سن متقدمة نسبيَّا فتزوج وأنجب
زوحًا من الذرِّيّة. قال حسن: لا يحق للشيوخ أن يتزوجوا بعد وفاة زوجاتهم إلا
سِيدِي المبروك، لا لأنه في ذاك السن في الزواج هو الأْفضلُ بل لأن نسلَه في ڤبلي هو الأجمَلُ.
ارتوتْ نفسُه بالإيمان وخدم المحتاجينَ جميعًا فسَمَوا به وبهم في العلياء
سَمَا.
يا سِيدِي المبروك، لستُ مِن صُلبِك لكنني أحببتُ وأنا طفل أبوَّتَك،
واليوم في شيخوختي ما زالت ذكراكَ بعد مماتِك تمدّني بنسيمٍ عليلْ، لا أعرف هل هو
الحنين إلى جيلْ أو الاعتراف بالجميلْ.
سيدي المبروك، كرمٌ جمنيٌّ فاق الكرمَ الحاتميَّ.
سيدي االمبروك وعمتي رڤيّة كانا أحنَّ الأقارب عليَّ بعد والِدَيَّ.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire