هل كان جان جاك روسو مسلما ؟ أو مقتنعا، على الأرجح، بدين الفطرة، بعدما أصدر
منتصف القرن 18، وتحديدا سنة 1762 كتاب "دين الفطرة" ؟ وهل يتبنى عبد الله
العروي عقيدة روسو، بعدما نقل إلى العربية كتابه "دين الفطرة"، آخر ما
صدر عن المركز الثقافي العربي سنة 2012 ؟ هل نُقَوِّلُ الرجلين العالمين ما لم
يقولانه، ونؤوّل كلامهما ؟ أم نلتزم الحياد، على نحو ما فعله العروي، وهو ينقل لنا
"دين الفطرة" إلى العربية ؟ وهل يبحث لنا العروي، عبر روسو، عن
"إسلام مناسب" من خلال نقل هذا الكتاب الاستثنائي ؟
جان جاك روسو مسلما ؟
كتاب "دين الفطرة" لجان جاك روسو هو الجزء الرابع من كتابه
"أميل"، أو "في التربية"، من أصل خمسة أجزاء. وقد أصرّ روسو
على طبع كتاب "دين الفطرة"، منفصلا ومستقلا، قبل أن يجعله جزءا من
خماسية "أميل" في التربية. وقد فعل روسو ذلك اعتقادا منه أن معاصريه
"أكثر استعدادا لقبول إصلاح ديني منه للمصادقة على تحليلاته السياسية"،
يقول العروي. وهي التحليلات الواردة في الأجزاء الأربعة من "أميل"، وفي
كتابه الشهير "العقد الاجتماعي"، الذي صدر في السنة نفسها (1762).
"عقيدة قس من جبال السافو" هو عنوان الكتاب الذي نقله العروي إلى
العربية تحت عنوان "دين الفطرة". ويأتي الكتاب في صيغة خطاب "يلقيه
قس من جبال السافو على مسامع شاب فقد الإيمان وكاد يتحول إلى صعلوك زنديق بسبب
المآسي التي عاشها". وقد لجأ الشاب إلى تسجيل الخطاب ليتأمله على مهل، وليرسل
نسخة منه إلى أستاذ كان مكلفا بتربية تلميذ يدعى "أميل". ويفترض العروي،
طردا، أن الأستاذ المذكور في الكتاب ليس سوى روسو، غير أن هذا الأخير "لا
يفعل سوى نقل خطاب القس، كما توصل به من مواطنه الشاب، و"يلحقه بمؤلفه
"أميل" كوثيقة تربوية تساعده على تهذيب ضمير تلميذه "أميل"
عندما يتقدم في السن، ويصبح قادرا على فهم دقائق الجدال الفلسفي والديني".
ولماذا كل هذه "الحواجب والستائر" ؟ يتساءل العروي، والحال أن
"تجربة القس ورفيقه هي بالحرف تجربة روسو كما يرويها مفصلة في كتاب "الاعترافات".
صدرت اعترافات روسو في بداية سبعينيات القرن 18، وتحديدا سنة 1770. فبعد صدور
"دين الفطرة"، سوف يواجه روسو شغب الفلاسفة ورجال الدين، بسبب إيمانه
الديني، حيث أدانه الفلاسفة على لسان فولتير، والكاثوليك على لسان أسقف باريس
والبروتستانت على لسان رئيس كنيسة جنيف، فاضطر إلى مغادرة فرنسا هربا من السجن،
ولجأ إلى سويسرا، وحظي بحماية سلطاتها، شريطة أن لا يخوض في مسائل العقيدة. عاش
الرجل مشردا ووحيدا معزولا، إلى درجة أنه ندم على التخلي عن حرفة أبيه وامتهان
الكتابة، وأصبح راسخ الاعتقاد بأن ثمة مؤامرة تريد أن تنال من شخصه وأفكاره في
محياه وبعد وفاته، فأصدر كتاب "الاعترافات"، ثم كتاب
"حوارات"، أو "جان جاك يحاكم روسو" سنة 1776. فهل كانت
الاعترافات عبارة عن "مراجعات" من روسو لعقيدته، أم كتبها مضطرا غير
باغ، خاصة وأن الرجل سيجد، كما يخبرنا العروي، قدرا من الاستقرار والراحة، شهورا
قليلة قبل وفاته، كما يشهد على ذلك آخر مؤلفاته "متاهات السائح
المتوحد"، سنة 1778. والعهدة، هنا، على العروي، في هذا الكتاب الذي لم نطلع
عليه بعد.
عبد الله العروي ناقلا
اختار العروي، على نحو ما فعله القدامى، عبارة "نقله إلى العربية"
على "الترجمة" أو "التعريب". يقول العروي عن كتاب روسو:
"فامتنعت عن "تعريبه" أو "أسلمته"، بل اكتفيت بنقله إلى
العربية بصفة محايدة. الحياد هو ما يصبو إليه عبد الله العروي، في ما يشبه الموقف
الفكري، وفي محاولة للوصول، ما أمكن، إلى النموذج المستحيل في "الترجمة"،
مثلما يرفض العروي القيام بأية ممارسة تأويلية تترجم الكتاب إلى المفاهيم الدينية
الإسلامية، وهو ما يقصده بالامتناع عن أسلمته. وإن كان العروي يصرح، في تقديم
الكتاب بأن "دين الفطرة"، كما هو لدى روسو، يبدو أقرب إلى دين الإسلام.
وينبهنا عبد الله العروي إلى أن قارئ روسو، وهو يقرأ ردود روسو على الفلاسفة
الماديين، "يستحضر في الحين الغزالي" وكتاب "تهافت الفلاسفة".
ومن يقرأ نقده لليهودية "يتذكر توا ابن حزم وكتابه الفصل"، ومن يقرأ
"تخيله فردا يعيش وحيدا في جزيرة منعزلة يسترجع حالا ابن طفيل وقصة حي بن
يقظان". "يقرأ كلامه عن دين الظاهر ودين الباطن، عبادة الجوارح وعبادة
القلب، فيستذكر في الحين أقوال ابن رشد ومحمد عبده ومحمد إقبال". ثم ينبهنا
العروي، في نهاية المطاف، إلى أن في الأمر تعسفا، وفيه "تسطيح وابتذال".
إذا كان ابن رشد قد تحدث عن الحكمة والشريعة باعتبارهما مسلكين للوصول إلى
الحقيقة، ومعرفة الذات الإلهية، فإن مسلك روسو هو الوجدان، قريبا من تجربة حي بن
يقظان، دون أن تكون هي كما هي. يرد روسو على الماديين، فينكر عليهم أن تولد مادة
أو تتحرك من غير روح، ومن غير قوة خارقة. الوصول إلى الحقيقة طريقه الوجدان، وليس
العقل. هكذا، يرد روسو على الفلاسفة. "نحن لنا عليهم ميزة تتمثل في صوت
الوجدان". هذا الوجدان الذي يعمل وفق مبدأ يسميه روسو "الضمير"
يعقب روسو، على لسان القس، طبعا: "نحن لنا عليهم ميزة تتمثل في صوت الوجدان،
في شهادة الضمير لنفسه". هذا الضمير هو الذي يحس وجود الخالق ويدركه، كما
يقول روسو، وليس العقل والاستدلال. "الضمير ! الضمير ! غريزة رباينة وصوت
علوي لا يخفت". ويقول في موضع آخر إنه "يوجد في سر النفوس مبدأ يولد مع
الإنسان، على ضوئه يحكم الفرد، ولو صدم ذلك ميوله الشخصية، على تصرفاته وتصرفات
غيره، فينعتها بالصالحة أو بالفاسدة. وهذا المبدأ هو الذي أسمّيه أنا
الضمير". يرجّح روسو، على لسان القس، كفة الضمير على كفة العقل، ويختار مسلك
الأول لا الثاني. ويجزم القس في موضع آخر: "أصدق دليل عندي هو الضمير".
"الضمير هو صوت الروح و الشهوة صوت الجسد"، كما يقول: "كثيرا ما
يخدعنا العقل، أما الضمير فلا يخدع أبدا، هو الدليل الأمين". تأمين الخطاب
عند روسو يزيد من صلته بدين الفطرة، كما تحدث عنها دين الإسلام أيضا. ويضعنا روسو،
من خلال خطاب القس في نهاية مثيرة للغاية، عندما ينتهي الكتاب بعبارة
"آمين"، التي توقف عندها عبد الله العروي طويلا في مقدمته.
يخوض القس في موضوعات وقضايا كلامية نظير التي نجدها في التراث الفكري العربي. من
ذلك كون الإنسان مخيرا أم مسيرا، مجبرا أم حرا في أفعاله، وينتصر روسو/ القس
للمبدأ الثاني. يتحدث روسو، على لسان القس عن الجوهر، عن ثنائية الجسد والروح، عن
العقل الإلهي والعقل البشري، عن الخالق، عن صفاته، كما يدركه بطريق الوجدان،
وبإعمال مبدأ الضمير، وما لا يدركه ويعترف بعجزه عن إدراكه. يرى القس/ روسو أن
الطريق إلى دين الفطرة لا تحتاج إلى وسيط، ولا إلى رسالة. لا هدف للعروي من وراء
كل هذه التقابلات والطباقات التي نوردها. يصدر العروي في تقديمه لهذا الكتاب، كما
في نقله إلى العربية، عن أطروحة مفادها أن "الفكر الغربي لم يقترب من تمثل
الفكر الإسلامي إلا مرة واحدة، وذلك أواسط القرن الثامن عشر. قبل ذلك التاريخ، كان
الحاجز المعتقد الديني، وبعده كان المانع سدَّ الاستعمار". وفي الختم، الهدف
من نقل الكتاب إلى العربية وقراءته هو "القيام بتجربة ذهنية معينة تساعدنا
على فهم كتاب روسو وكتابات إسلامية شبيهة به".
الخلاصة أن روسو إنما يرسم لنفسه في هذا الكتاب "عقيدة بسيطة، بَيِّنَةً،
صادقة، توفق بين العقل والوجدان، تضمن للفرد الطمأنينة، وللمجتمع الوحدة
والاستقرار"، يختم العروي مقدمته، ويبدأ كتاب "دين الفطرة" لجان
جاك روسو.
تاريخ أول إعادة نشر على الت: حمام الشط في 16 فيفري 2013.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire