كتاب "مفهوم الحرية"،
تأليف: عبد الله العلروي، الناشر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب،
الطبعة السادسة 2002. 114 صفحة.
نص عبد الله العروي
صفحة 73
يقول الهيغلي: المطلق هو
الدولة، و يقول الماركسي: هو الطبقة، و يقول الوجودي: هو الوجدان الفردي. فترد
الكلامية الجديدة (نعني بالكلامية الجديدة على وجه الخصوص مدرسة كارل بارث
البروتستانتية): هذه كلها أصنام. المطلق إنما هو كلمة فارغة استعملت استحياء محا
كلمة الله. يجب الآن استعمال الكلمة الملائمة. إذا لم نؤصّل الحرية في القدرة
الإلهية فإننا أما نتركها ضحية للصدفة و الاتفاق كما يفعل الليبراليون حيث يفترضون
بالدوام اتفاق العقلاء في تعيين المصلحة المشتركة، و أما نصبح عبدة أصنام كالدولة
و الطبقة و الوجدان، و الأصنام لا تنفك تنفي الحرية في الآن و تؤجلها إلى نهاية ما
لا نهاية له.
من الواضح أن هذا المنطق غير
متعلق بدين معين. فليس من الغريب أن نرى بعض الكتّاب المسلمين في السنوات الأخيرة
يتقمصونه و يسيرون في اتجاه مشابه للكلامية الجديدة. و السبب في ذلك هو فقط اكتشاف
تناقضات الحرية الليبرالية و خطرها على الموروثات. فالمنطلق الواحد يؤدي حتما إلى
نتائج مماثلة، مهما كان التغاير في التراث اللغوي، الثقافي و الفكري.
صفحة 97
و نهتم بجماعة أخرى من
المفكرين يعتمدون على الإسلام لا لهدم مفهوم الحرية بل لتركيزه و تأصيله. فنلاحظ
عندهم إرادة واضحة لهضم ما جاءت به الهيغلية و الماركسية و الوجودية، أو بعبارة
أخرى إرادة واضحة لتناول مفهوم الحرية بجد، و أساس تفكيرهم هو أنه إذا كان الإسلام
لا يعير أهمية كبرى للحريات السياسية و الاجتماعية فليس لأنه ضدها، بل بالعكس من
ذلك لأنه يتعداها ليصل إلى حرية كونية أعمق و أشمل. يقول أحد هؤلاء الكتّاب:
"إن التحرر الاقتصادي كما يراه الشيوعيون لا يكفي إن لم يكن تحررا وجدانيا و
ذلك في الإسلام بتوحيد الله القاطع و نفي كل كهانة و وساطة" (هامش 32: سيد
قطب. العدالة الاجتماعية في الإسلام. القاهرة، 1952.). لهذا السبب نراهم يرفضون
التأويل الليبرالي الذي سحبه على الإسلام مصلحو القرن الماضي إذ يرون فيه تبسيطا و
تشويها لروح الإسلام الحق. و يرفضون بالأخص حصر الإسلام الصحيح في الاعتزال. إنهم
لا يقرّون بأن المعتزلة و من تأثر بهم من الباطنية كانوا من دعاة الفكر الحر و
أنصار العقلانية الخالصة. بل يعتبرونهم ممثلين لمدرسة من المدارس الكلامية التي لم
تُوفّق للتعمق في مضمون الدعوة المحمدية و الأمر الإلهي، فتراءت لها مفارقات لفظية
لم تتغلب عليها بسبب تسامحها في ضبط استنتاجاتها، فمن أراد أن يدرك المقصد العميق
للأمر الإلهي، حسب هؤلاء المفكرين، عليه أن يرجع إلى الأصوليين من الفقهاء و
المتصوفة. لا شك أن هذا النقد الموجه ضد تأويل الإسلام الليبرالي - تأويل أحمد
أمين و تلاميذه – يصيب الهدف في كثير من الأحيان و ينم عن معرفة أوثق بالتراث
الإسلامي، بل عن شعور أدق بمشكلات الليبرالية الغربية ذاتها. إن هؤلاء الكتّاب
يشعرون بأن الليبرالي الحقيقي لا يمكن أن يكون جديا حينما يتناول مسائل دينية لأن
الليبرالية تسير حتما في طريق اللاأدرية. من هنا تحامله على طه حسين و كتاباته
الإسلامية.
إن نقد الليبرالية يقود في كل
الأحوال إلى ضرورة وضع المطلق كأصل للحرية البشرية، أتجسد ذلك المطلق في الدولة أو
في القانون الطبيعي. المطلق في عين الجماعة التي نتكلم عنها لا يمكن أن يكون سوى
الله الواحد. إن الأمر الإلهي يعني بالضرورة الحرية المطلقة و لا حرية للإنسان إلا
به. فهو أصل الحرية البشرية و ضامنها. هذا منطق شبيه بما كشفنا عنه عند الهيغلية و
الماركسية و الوجودية، و به تتكون عند هؤلاء المفكرين المسلمين نظرية الحرية.
كثيرون هم المؤلفون الذين
يسيرون في الاتجاه الذي نحن بصدده، بحيث يزيد أو ينقص تعلقهم بالحرية لكنهم يلجئون
إلى تأويل واحد. نذكر من بينهم رجلين فقط هما علال الفاسي و حسن حنفي.
صفحة 85
على مستوى
الواقع تنقلب الدعوة إلى الحرية المطلقة فتصبح تبريرا للخضوع المطلق فلا يبقى مجال
حتى لتلك الحريات الليبرالية التي لم تدّع أبدا العمق و الإطلاق، غير أنها حافظت
على شيء من الواقعية
هكذا يتضح
لنا أن نظرية الحرية لا تثبت بأي حال واقع الحرية. بل يمكن القول أنها في الحقيقة
تخفي نفي الحرية من الحياة اليومية فهي تعبر عن الجدلية الملاحظة في التاريخ:
تتضخم الحرية في الفكر بقدر ما تضمر في الواقع. هذا هو النقد الذي توجهه
الليبرالية إلى نظرية الحرية. تقول الليبرالية: استبدال النظرية بالوضعانية في
مسألة الحرية ليس عجزا، بل هو ضمان للحرية ذاتها.
صفحة 86: خاتمة
هل يجوز
لنا أن نقف عند هذا الحكم القاسي و نقول إن نظرية الحرية (أي إطلاقها) خطر على
الحرية ؟
لا بد من
التذكير أن النظرية الهيغلية و الإسلامية المعاصرة، تقول أن المهم ليس نجاح النقد،
نقد الدولة و نقد الأصنام، في كل محاولة. المهم هو المحاولة ذاتها و تكرارها عبر
التاريخ رغم الإخفاقات المتتالية. إن المحاولة دليل على منبع الحرية الكونية. إن
الدولة اللامعقولة لا تنقلب إلى دولة معقولة بسهولة، و كل صنم مكسر يخلفه صنم
جديد. لكن لماذا الإنسان لا يمل ؟ لماذا لا يكف عن المحاولات ؟ و السؤال لا يتعدى
ملاحظة جهد الإنسان المتواصل لتحقيق الحرية.
نستخلص من
هذا التحليل أن الحرية في مفهومها تناقض و جدل: توجد حيثما غابت و تغيب حيثما
وجدت. و النظرية هي الكشف عن ذلك. فالنظرية من جهة لا يمكن أن تنفي ذاتها لتقف
موقف الليبرالية و تأخذ الحرية شعارا بديهيا (إن الليبرالية تنفي البحث في نظرية
الحرية عن قصد لأنها تخاف من نتائجها كما أوضحنا ذلك. ليس في الليبرالية دليل منطقي
على عدم شرعية النظرية) و ليس في مقدورها من جهة أخرى أن تضمن وجود الحرية في
التاريخ و المجتمع و الدولة. كل ما تقوله النظرية هو أن الحرية لكي تتحقق يجب أن
تُعقل، و لكي تُعقل يجب أن تُطلق.
نظرية
الحرية إذن في غاية الأهمية و في نفس الوقت في غاية التفاهة.
إمضائي
"أنا أعتبر نفسي
سليل الفكر الإسلامي و القومي و الماركسي و الليبرالي و الإنساني معا فليس هناك
تمثل من دون نقد. فأنا أعتبر نفسي ثمرة النقد المثلث للإرث الإنساني الليبرالي و
الماركسي و القومي و لا أعتبر نفسي غريبا عنه في مكوناته المختلفة. و أنا سليل هذه
المكونات الفكرية بمعنى أنني ثمرة لها و في الوقت نفسه ثمرة التأمل النقدي فيها"
برهان غليون.
إضافتي: أعيد الترتيب و أقول: أنا أعتبر نفسي سليل الفكر
الماركسي و اليساري الليبرالي الإنساني النقدي و الإسلامي.
تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 19 فيفري 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire