كتاب "مفهوم الحرية"،
تأليف: عبد الله العلروي، الناشر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب،
الطبعة السادسة 2002. 114 صفحة.
تنبيه ضروري
ما أنشره في هذه السلسلة من
نقل و تعليق، تحت العنوان المشترك "فكرة قرأتها في كتاب"، لا يمثل
بالضرورة موقفي الفكري بل هو عبارة عن مذكّرة خاصة، أعتمدها شخصيا عند الرجوع إلى
الكتاب الأصلي. لا تغني هذه الاقتباسات عن قراءة الكتاب كاملا. يجب إذن توخّي
الحذر الشديد في التعامل مع ما ورد فيها لأن لا تصل إليكم فكرة الكاتب ناقصة أو
مشوّهة. أنشر هذه السلسلة مساهمة مني في رد الاعتبار لفن ثامن في طريق الانقراض،
اسمه "مطالعة الكتب" و فكرة الكتاب تلزم الكاتب و لا تلزم الناقل دون أن
نتغافل عن كون
الأفكار هي وقائع فكرية تستقل عن قائلها.
لمحة صغيرة عن حياة جون
ستوارت ميل
جون ستيوارت ميل هو فيلسوف واقتصادي بريطاني، ولد في لندن عام 1806 م. زاول كتابة المقالات والنقد، وحمل عبء الحركة النفعية على
كاهله، وكانت مقالاته مصدر شهرة واسعة
له، مما جعله خبير في الشؤون العامة. لقد امتدح ما كان أبوه امتدحه من قبله،
العقلانية والمنهج التجريبي، و الديمقراطية والمساواة، وهاجم، ما كان يهاجمه النفعيون، التعصب الديني والإيمان
بالحقائق البديهية التي لا يمكن إقامة الدليل عليها ونتاجها اليقينية التي أفضت في
رأيه إلى التنازل عن المنطق.
نص عبد الله العروي
1.
بعض أقوال ميل المشهورة و المأثورة
صفحة 43
يقول جون ستوارت ميل:
"إن مشكلة الحرية تطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية.. بقدر ما تزداد
الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية".. "لقد رجحت كفة
المجتمع على كفة الفرد و الخطر المحدق الآن بالبشرية ليس في فرط الميول الشخصية بل
بالعكس في قلتها".."كلما تعين ضرر، واقع أو محتمل، إما للفرد و إما
للعموم، ينزع الفعل الذي قد يتسبب في الضرر من حيز الحرية ليلحق بحيز الأخلاق أو
بحيز القانون".
صفحة 44
يقول طوكفيل، أحد أقطاب
الليبرالية في القرن التاسع عشر: "إن معنى الحرية الصحيح هو أن كل إنسان،
نفترض فيه أنه خلق عاقلا يستطيع حسن التصرف، يملك حقا لا يقبل التفويت في أن يعيش
مستقلا عن الآخرين في كل مل يتعلق بذاته و أن ينظم كما يشاء حياته الشخصية".
يرى ميل أن الدولة الصناعية
الديمقراطية تتجه نحو هذا الاتجاه الخاطئ و يقول: "إذا كانت الطرق و السكك و
البنوك و دور التأمين و الشركات بالمساهمة و الجامعات و الجمعيات الخيرية كلها
تابعة لإدارة الحكومة و إذا أصبحت، زيادة على ما سبق، البلديات و الجماعات المحلية
مع ما يترتب عنها اليوم من مسؤوليات، أقساما متفرعة عن الإدارة المركزية، إذا كانت
الحكومة هي التي تعين موظفي تلك المصالح و تكافئهم بحيث يعود أملهم في تحسين
معاشهم معقودا عليها، إذا حصل كل هذا، حينئذ تصبح الحرية اسما بلا مسمى، رغم
المحافظة على حرية الصحافة و على انتخاب المجلس التشريعي بالاقتراع العام".
هذا النقد اللاذع و المسبق لجميع أنواع التأميمات و التنظيمات الاشتراكية يفسر
اهتمام الأوساط الثقافية الأمريكية بكتاب ميل في السنوات الأخير.
بيد أن ميل لا يعارض فقط
توسيع دائرة الدولة. إن تخوفه من المجتمع الديمقراطي لا يقل عن تخوفه من سطوة
الدولة على حرية الفرد. يلاحظ أن المجتمع في إنجلترا و أمريكا الشمالية يعرف نوعا
من الإجماع الأخلاقي بحيث يمارس الرأي العام سلطة مطلقة على أذهان الأفراد. يقول
عن أنجلترا: "ليست هذه البلاد وطنا لحرية الفكر". حين يتم الإجماع
يتصالح الناس و ينتهي الشقاق و التخاصم، لكن يؤدي الإنسان على ذلك الصلح ثمنا
باهظا، إذ يفقد كل جرأة في التفكير و التعبير و يعود ينظر إلى الابتكار كعلامة على
الانعزال و الشقاق. يزيد ميل موضحا رأيه: "عندما نقبل أن تكون المبادئ مسلمات
لا تحتمل النقد و أن تكون المسائل الكبرى التي تهم البشر موضحة بدون نقاش مجدد،
حينذاك يضمر النشاط الفكري الذي طبع الفترات الذهبية من تاريخ الإنسان"، (تعليقي:
"و الفترة الذهبية في تاريخنا العربي الإسلامي، على حد علمي، هي الفترة
العباسية حيث كثر الجدل الفكري و ساد التسامح مختلف المذاهب الدينية و ترجمت
الفلسفة اليونانية و..."). يرى ميل أن النقاش المتجدد في جميع المسائل ضروري
للتقدم البشري و لا يعتد بالاعتراض القائل أن الحقائق الرياضية و الهندسية ثابتة
لا تقبل النقاش و يعتبره في غير محله. يرى أيضا أن النقاش المفيد هو المفتوح الذي
لا يعرف مسبقا النتائج، غير المناظرة الكلامية المعروفة في القرون الوسطى و
المبنية على النمط التالي: إذا قيل كذا فالجواب كذا. يلخص ميل رأيه في العبارة
البليغة التالية: "لو كانت الإنسانية كلها مجمعة على رأي عدا فرد واحد فلا
يحق لها أن تسكت الفرد المخالف لرأيها، كما لا يحق لذلك الفرد، لو استطاع، أن يسكت
الإنسانية المعارضة لرأيه".
يتضح هكذا أن مخالفة الجمهور
و حيوية النقاش و بلورة الشخصية الفردية هي أصل التطور و ضمان مواصلة التقدم. يقول
ميل: "إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخا بالمعنى الحقيقي لأنه يئن
تحت وطأة الاستبداد"، (تعليقي: "التاريخ يكتبه المؤرخون المأجورون
لفائدة أسيادهم الحكام الأقوياء أما المستضعفين المستغَلين فلا مؤرخين لهم و لا
تاريخ مكتوب، يسجل بطولاتهم و يحفظ للأجيال القادمة تضحياتهم في مقاومة الاستبداد".
حيثما كان الاستبداد توقف
التاريخ و التقدم. هذه خلاصة تفكير ستوارت ميل. يجب أن نذكر في هذا الصدد أن حرية
الرأي و التأويل كانت دائما من أصول الليبرالية. يقول روسو متعرضا لحركة الإصلاح
الديني في أوروبا أن منطق ذلك الإصلاح: "هو قبول كل تأويلات الكتاب المقدس
سوى تأويل واحد، ذلك الذي يرفض حرية التأويل". و يعلق: "إن ماهية العقل
أن يكون حرا، و لو أراد أن يخضع لسلطة الغير لما تسنى له ذلك.
2.
موقف ميل من بعض
المحرّمات في الإسلام
صفحة 46
قبل أن
نبحث في قضية مدى استيعاب المفكرين العرب للمذهب الليبرالي علينا أن نرى كيف كان
ينظر الليبراليون الغربيون إلى الإسلام. يكفي أن نسرد في هذا الصدد آراء ستوارت
ميل نفسه.
نستنتج من
التحليل السابق أن ميل كان يرى أن المجتمع الإسلامي غير ليبرالي ليس فقط في نظام
الحكم الذي كان فرديا و استبداديا، بل في النظام الاجتماعي العام المؤسس على
الإجماع في الرأي و على تحريم النقد و النقاش المفتوح.
بيد أن ميل
لا يخص الإسلام بهذا الحكم. إنه يطلقه على كل المجتمعات السابقة للعهد الحديث في
أوروبا، عهد نهضة العلوم اليونانية و الإصلاح الديني. يقول بكل وضوح: "يمكن
إهمال تلك المجتمعات المتأخرة التي ما زال الجنس الإنساني فيها دون الرشد".
ينقد ميل
كل مجتمع متزمت، متشدد في قوانينه الأخلاقية و الدينية التي يضعها فوق أي نقاش.
ينقد المجتمع الأنجليزي و الأمريكي، و على نفس الأساس ينقد المجتمع الإسلامي. يذكر
صراحة الإسلام عندما يتعرض لمسألة تحريم تجارة الخمر. يقول أن التحريم يمس حرية
الفرد لأنه يفترض أن الفرد لا يعرف مصلحته. يعارض ميل التحريم الذي كانت تطالب به
جمعيات في أنجلترا لنفس السبب الذي دعاه إلى نقد التشريع الإسلامي في هذا الموضوع.
و ينتقد كذلك تحريم أكل الخنزير في الإسلام. فيقول أن للمسلمين الحق في تجنبهم لحم
الخنزير لأنهم يعافونه، لكنهم عندما يحتقرون غيرهم ممن لا يعافه و يأكله، فإنهم
يمسون بحرية ذلك الغير. إن ميل في واقع الأمر يعارض أساسا نظام الحسبة و لسبب عام
هو أن المحتسب يضع نفسه في موضع الله و يعاقب أخاه الإنسان الذي لا يطيع الأوامر
الإلهية. يقول ميل: "إن الناس عندما ينهون غيرهم عن المنكر يعتقدون أن الله
لا يكره فقط من يعصي أوامره، بل سيعاقب أيضا من لم ينتقم في الحال من ذلك
العاصي". و هذا في نظره اعتقاد خاطئ لأنه افتئات على القدرة الربانية. إن ميل
ينظر إلى الإسلام من هذه الزاوية، و يراه أولا و أخيرا كنظام مجتمعي متزمت مشيد
على الإجماع و محاربة الانشقاق، و بالتالي مخالفا لأصول المجتمع الليبرالي.
صفحة 53
و في
المجتمع المتقدم نفسه مَن يضمن لنا أن يكون المرء دائما عاقلا ؟ يطرح ستوارت ميل
الأسئلة التالية: هل يجوز السماح ببيع السم أو التبغ أو الخمر؟ هل يسمح للمرء أن
يبيع نفسه لغيره ؟ هل يجب إجبار المرء على التعليم ؟ هل يجب تحديد النسل ؟ في واقع
الأمر لم يكن من المنتظر أن يطرح ميل هذه الأسئلة إذا تذكرنا الحجج التي بنى عليها
انتقاده للحسبة في الإسلام. لقد رفض مبدأ الحسبة لأنها تفترض، خطأ في رأيه، أن
الإنسان لا يعرف مصلحته، و ها هو الآن يرجع إلى المنطلق الذي كان الفقهاء المسلمون
يبررون به نظام الحسبة. يقول ميل في كل قضية من القضايا السابقة أن عدم تدخل
الدولة قد يؤدي إلى أن يضر المرء نفسه بنفسه: أن يبقى جاهلا أو أن يبذر ماله أو أن
يسمم أقرباءه أو أن يبيع نفسه، لكن إذا تدخلت الدولة و منعت بعض الأنشطة، فسيكون
المنع بالنسبة للرجل العاقل تجنيا على حقه في التصرف الحر. يتردد ميل ترددا واضحا
و لا يعطي رأيا جازما في هذه القضايا. يقول مثلا فيما يتعلق بتحديد النسل في كتابه
حول الاقتصاد السياسي: إذا كانت الدولة مسؤولة على تغذية الفقراء فلها الحق أن تحد
من النسل، أما إذا تركت الناس ينجبون كما شاؤوا فليس عليها أن تعيل الفقراء.
إمضائي
"لا
أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه
إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه...لأن في التماهي
شرط التحقيق، أي شرط المرور من التصور إلى الواقع، من الفكر المجرد إلى الحياة"
(عبد الله العروي)
تعليقي: للوصول إلى التماهي مع
المجتمع يجب استعمال خطاب غير جبهوي و غير صادم لأن الخطاب الجبهوي والصادم ينفّر
و لا يبشّر.
تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 20 فيفري 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire