كتاب عبد الله العروي "السنّة والإصلاح"
الطبعة الأولى 2008 , المركز الثقافي العربي, بيروت, 224 صفحة.
تنبيه ضروري
ما أنشره في
هذه السلسلة من نقل، تحت العنوان المشترك "فكرة قرأتها في كتاب"، لا يمثل بالضرورة
موقفي الفكري بل هو عبارة عن مذكّرة خاصة، أعتمدها شخصيا عند الرجوع
إلى الكتاب الأصلي. هذه الاقتباسات لا تغني عن قراءة الكتاب كاملا. يجب إذن توخّي
الحذر الشديد في التعامل مع ما ورد فيها لأن لا تصل إليكم فكرة الكاتب ناقصة أو
مشوّهة. أنشر هذه السلسلة مساهمة مني في رد الاعتبار لفن ثامن مهدّد بالانقراض،
اسمه "مطالعة الكتب.
نص عبد الله العروي
غلاف الكتاب
على شكل جواب على تساؤلات امرأة أجنبية مسلِمة،
يكتب العروي هذا الكتاب. وهي تساؤلات تتناول صورة الإسلام. وكيف يقدم نفسه، وكيف ينظر إلى الأديان
الأخرى، خاصة وأن السيدة: مسلمة، بحكم الانتماء، وتعيش في محيط تتعدد فيه الأديان. عبر الرد يطرح العروي تصوره الشخصي، الفردي،
متجاوزا ما يمكن أن نسميه ثوابت، إلى رحابة حرية التفكير والفهم، أمينا لمنهجه
التاريخاني الذي يعني اكتشاف الواقع المجتمعي الذي لا يدرك حقا إلا في منظور التاريخ،
فما يحرك المجتمع ليس الحق بقدر ما هو المنفعة.
صفحة 149
في نقطة معينة من التاريخ، علينا أن نحددها
بدقة، يقوم رجال السنّة، أنصار التقليد ودعاة الإتباع، بعملية زبر وتجذيب وترتيب.
كل ما علا وظهر، أو فاق وفاض، كل ما تجاوز وتعدّى، وكل ما لم يقف عند حد معلوم وجب
التخلص منه . والحد المعلوم ما هو ؟ في جملة واحدة هو تأويل سادة مدينة الرسول
لسيرته الدنيوية بعد
الانتهاء من عملية الزبر هذه، يلتفت أهل السنة إلى الماضي ويفعلون به ما فعلوا بحاضر
أيامهم. يتصرفون كما لو أن ما كان وتحقق لم يكن سوى أضغاث أحلام يجب محوه بالكامل
من ذاكرة الجماعة على أساس قاعدة صارمة: كل مخالف معدوم ثم بعد الماضي يتطلّعون إلى المستقبل ويتخذون
الترتيبات اللازمة لكي لا يخضرّ مجددا ما يبس ولا ينتعش ما خنق. من أعلى المنابر
المحتكرة لهم، في المساجد والمدارس الممنوعة على خصومهم، يقررون ما يجب القيام به
حتى يُضمن البقاء والاستمرار، جيلا بعد جيل، لنفوذ أمثالهم وغلبة تأويلهم الخاص
لكلام الله وهكذا
يمكرون بمكر التاريخ. باسم فترة زمنية وجيزة، فترة مسطّحة ومختزلة، مصحّحة ومنقحة،
يُطلب من التاريخ أن يتوقف هو الآخر عند حده، يُؤمر أن لا يتجدد أبدا ولا يتميز،
لا يتنوع ولا يتطور، بعبارة أوضح يُلزم بأن يتنكر لمضمونه ومغزاه. يفعل أهل السنة
ما يفعلون ولسان حالهم يقول: ما الفائدة من تكرار ما قد تحقق بالفعل، إذ ما تحقق
هو الحق الجامع المانع، الكافي الشافي ؟ و بالطبع تحت هذا الضغط الهائل يتعثر
التاريخ. ما تبقى له من قوة يستهلكها في ممانعة التغير حتى يحافظ على الوضع
المتعثر عندها لا
يمكن استئناف الحركة إلا بدافع خارجي، دافع دنيوي أعني (الهامش 10 صفحة 150: كثيرا
ما تُحرر الهزائم العزائم. حدث ذلك في روسيا وتركيا والصين). قبل أن يحصل ذلك تغزو
السنّة، أي ذهنية التقليد والإتباع، كل مظاهر الحياة، الفكرية والسلوكية، بل تفرض
هيمنتها حتى على من قاوم نشأتها كالخوارج والشيعة وروّاد الحكمة.
تؤسس كل جماعة سنّة خاصة بها،
فتتوحد النتائج اجتماعيا وتاريخيا والغريب هو أن هذا التعميم التدريجي يُعدّ في حد ذاته
دليلا قطعيا على صحة منهج السنّة.
صفحة 159
المادة المطروحة على أنظارنا، ليست مجموعة
وقائع، وإنما هي نظرية و تأصيل لما أفرزه تاريخ مبسّط، محجّم، مختزل إلى القليل
الأقل، تاريخ تراجُع وخذلان. المحصّلة نسميها تجاوزًا الإسلام التاريخي، إسلام
الجماعة، الإسلام السنّي، نجعل منه مثالا ونقيس عليه كل ما سبقه وأعقبه، عند العرب
وعند غيرهم، أي أننا نتصرف في ماضينا وماضي الغير حسب هوانا.
صفحة 160
المذهب الظاهري هو التنظير القوى والأمتن
لموقف السنّة وهذا الموقف هو خاص لجماعة معينة، نخبة اجتماعية وسياسية. عندما فقدت
هذه النخبة سيطرتها على السلطة حافظت على المذهب (نقول اليوم حافظت على
الإيديولوجيا) الذي يتوافق مع وضعها الجديد أتم التوافق. هذا ما يعترف به ضمنيا علماء وشيوخ المذهب
…كم تهون الحياة ويسعد المرء إن
هو تشبث بالمظهر فقط وابتعد عن كل جدل عقيم حول اللطائف والشبه، إذا ما اختار أن
يتصرف في علاقاته بإخوانه من بني البشر على أساس أقوال وأفعال جامعة ثابتة دون
أدنى تطلّع إلى حل ألغاز الغيب.
صفحة 162
قبل أن تنتصر كانت السنّة تزعم أن الفرق كلها
في النار سوى واحدة، بعد أن انتصرت، ورغبة منها في التسامح والاحتضان، عادت وقلبت
الحكم بالقول إن كلها ناجية سوى واحدة.
لمسائل التي طرحتها الفرق بشأن مشكلات
واقعية، سياسية واجتماعية، نلخصها فيما يلي اعتمادا على ما جاء في كتب الكلام - الحق مقابل الباطل -
الإيمان مقابل الكفر -
الإمامة مقابل المُلك -
السنّة مقابل البدعة -
التقديس مقابل التجسيم -
الجبر مقابل القدر -
العدل مقابل الجور.
الروح مقابل المادة …اكتفت السنّة بالتحذير من اقتحام تلك المجاهل.
كتبت على الباب: حدٌّ لا يُتجاوز لم يعد اليوم مبرر للتحذير. لم يعد هدفنا التبشير
بالقناعة، تشجيع الأمية باعتبارها عنوان البراءة والإيمان الفطري. الظرف التاريخي
يفرض علينا فرضا أن نغامر ونتقدم في الحقول الملغومة. (إضافة مواطن العالَم:
عندما يصطفّ الأستاذ الجامعي في الشريعة والطبيب والمهندس وعالم النفس وعالم
البيداغوجيا والطبيب النفساني والسياسي المحنّك، يصطفّون كلهم ببراءة الأطفال
يصلّون بخشوع يوم الجمعة وراء إمام متواضع التكوين ويستمعون إليه بانتباه في درسه
وخطبته وهو يفتي وينظّر في مسائل تخصّ شؤون الدين والدنيا. أيفتى ومالك في المدينة
؟ أيتكلم ويشرح الإمام غير المختص والمصلي المختص موجود ؟ عشنا ورأينا العالم
يتعلم من الجاهل ! أأكثر من هذا تشجيع على الأمية ؟).
صفحة 167
السنّة ملازمة لمفهوم البراءة.
ليست المسألة هل الرسالة موجهة لشعب أمّي
بقدر ما هي هل صحّتها مشروطة بتلك الصفة، وعندئذ تكون الأمية مطلوبة على الدوام والاستمرار …من يسلّم بهذه المقولة ويربط صحة الرسالة
بالأمية الفطرية، ألا يستخلص ضمنيا، ولو لم يعلن ذلك، أنه يحسُن بالنخبة المثقفة
أن تعمل على أن تبقى الأغلبية أمية ؟ والمقصود هنا ليس اللاثقافة، العجز عن
الكتابة والقراءة، بل البراءة، السذاجة الفطرية، القناعة الخُلقية، التواضع
الأصلي، الإقرار بالعجز والحاجة، العفة الغريزية، الاستغناء عن توسّع الفكر وتفنّن
الذوق القناعة
محمودة في كل حال، في شؤون الجسم كما في شؤون العقل تُؤسس السنّة بالرفض والإقصاء وتنتعش وتنمو
بالانتقاء والتزكية.
صفحة 169
السنّة دائما حذرة، دائما متأهبة. تخشى باستمرار إما
هجمة الخارج وإما مروق الداخل، فتتصرف كالسلحفاة، كلما استشعرت الخطر تقوقعت
لتستمسك وتصمد.
تخشى غير المعهود، حتى البسيط التافه، في
الملبس أو المأكل أو الأثاث أو النطق، وقبل وفوق تخشى الجديد في الفكر والوجدان …قد يقال كل شيء عن السنّة سوى أنها تفتقر إلى
المنطق والاتساق. إنها في الواقع غاية التناسق، كل جزء منها يأخذ برقاب الأجزاء
الأخرى …يستحيل
إذن، إذا ما وقفنا خارجها، أن نعتبرها مرادفة للدين أو العلم أو التاريخ. هذه
مفاهيم تتخطاها من كل جانب. يتجدد التاريخ بالتراكم، العلم بتمحيص المبادئ، الدين
يتهذيب الشعور وتعميق الوجدان لا شيء من هذا يؤثر في السنّة إذ تتقوقع وتتحصّن.
صفحة 189
خاتمة: المجاهدة والذوق
لقد حذرتِني، أيتها المسائِلة الكريمة. قلت وأكدتِ:
"كلمني في أي شيء، حدثني بما تشاء، لكن لا تحاول أبدا إقناعي بأن العلم سراب،
الديمقراطية مهزلة والمرأة أخت الشيطان. في هذه الموضوعات الثلاثة لا أقبل أي نقاش".
صفحة 191
السنّة تكوّن مستمر. في كل من أطوارها تتأثر
بحادث وتعمل آليا على طمسه. هذا ما نستخلصه من وقائع فترة المدينة (يثرب)، الفتنة
الكبرى، الثورة العباسية، تفكك الخلافة، الهجمة الصليبية، الغزو العثماني،
الاستعمار الأوروبي، الاستيطان الصهيوني إلخ.
كلما اتسع مسرح الأحداث و تعدد المشاركون،
كان أكبر وأعمق تأثر السنّة بالحدث، شكلا ومضمونا:
-
كان واردا أن تضمحل اللغة
العربية وتخلفها لغة أخرى. لم تندثر العربية، غير أنها انفصلت عن الخطاب اليومي.
-
كان واردا أن ينقرض الشعب
العربي مع اختلاطه بالعجم. لم يحدث ذلك، حافظ العرب على هويتهم، غير أنهم فقدوا كل
مبادرة.
-
كان واردا أن تذوب نخبة قريش
في جموع الموالي. لم يحصل ذلك. ظلت تشكل طبقة متميزة، لكن كشاهد على الماضي.
هذه عوامل ثلاثة تحمل في آن طابع الضرورة وطابع
الاتفاق وبذلك تفسر استمرارية السنّة وتعمّقها المتزايد.
بما أن أشراف مكة لا يزالون يتمتعون بالجاه والنفوذ،
لا لسبب غير عراقة النسب، فمن الطبيعي أن يتشبثوا بمفهوم الإرث والتقليد.
صفحة 192
السنّة التي "تتجدد" على رأس كل
قرن، كما يُروى، أي تَحرر من الشوائب، هي بالطبع غير السنّة السابقة عليها. فهي
بالمعنى الحرفي، سنّة مبتدعة، أو لنقل في استعمال اليوم "نيو- سنّة".
أولا تستحق النعت بمجرد أنها تعمل في محيط مختلف ؟ ذلك الحدث الذي يغير المحيط
(الهجرة، الفتنة، الثورة، الهزيمة، الغزو، الاحتلال، الاستيطان…) يزيد السنّة
انتقاء وصفاء، اتساقا وعمقا. فهو بالضرورة فاصل بين قبل وبعد داخل المجرى السنّي
نفسه. وهو ما تنفيه السنّة بالتأكيد، إذ لا تعترف أبدا بأي عامل داخلي أو خارجي في
تشكل أي من أوجهها.
بعبارة اليوم، ونستعملها عن قصد، الحدث يميز
ما هو "نيو"، وما هو "بوست".
والسنة، في أية لحظة من تكوّناتها، "نيو
– سنّة"، وهو ما لا تقول به أبدا.
والسنّة في أي لحظة من تاريخها، "بوست –
سنّة"، وهو ما ل تعي به قط.
صفحة 193
وعند الجميع تستقر السنّة وتتقوى بمضمون جديد
وأسلوب جديد.
الهامش 3 صفحة 193: كل سُنة تتقوى
بإخفاقاتها. لم تختف اليهودية بعد هدم المعبد وسقوط الدولة. لم تضمحل المسيحية
الأرتودكسية بضياع القسطنطينية، لم تنحل الكثلكة بظهور البروستنتينية ولم تقض
الحرب الصليبية على الإسلام.
إمضائي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري
من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من
قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم
بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى
وعلى كل مقال سيء نرد بمقال
جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
التاريخ: حمام الشط في 20 أكتوبر 2010.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire