يبدو لي أن حِرصَ الكثير من الأولياء على ضمان تعليمٍ
أفضلَ لأولادهم (تعليم خاص في تونس أو بِعثات
دراسية للخارج على الحساب الثقيل الخاص أو دروس خصوصية - Étude)، حرصٌ خَلَقَ -دون قصدٍ منهم- تعليمًا يمشي بسرعتين مختلفتين (enseignement à deux vitesses): الخاص
يحث الخطى والعمومي يَعْكُزُ.
مَن المسئول؟
مَن يصنعُ الفشل المدرسي في
تونس؟ (حوالي 100 ألف تلميذ "فاشل" تَلفظهم المدرسة في نهاية كل سنة
دراسية، وذلك منذ
عقد من الزمن على الأقل، مئة ألف يعودون في أغلبهم وبعد سنوات للأمية المطبقة).
مَن المسئول؟
-
المسئول الأول، هو الدولة، الدولة التي تخلت عن دورها
التربوي وعن مدرسة الجمهورية (L’école républicaine)، مدرسة المِصعد
الاجتماعي، المِصعد الطبقي الوحيد المُتاح للفقراء (L’ascenseur social des pauvres)، مدرسة الاستقلال
التي تعلمتُ فيها أنا (58-74)، حيث المبيت مجاني للمعوزين أمثالي، والأكل مجاني،
والأدوات المدرسية كلها مجانية (مثل فنلندا حاليًّا أو أفضل قليلاً
Nous étions bien servis, bien logés, bien nourris et bien blanchis).
-
المسئول الثاني، هم مدرّسو المدرسة العمومية أنفسهم، هم
ولا أحد غيرهم، هم مَن يتحمّل القسط الأكبر من المسئولية بعد الدولة.
كيف؟
-
الإغراء المادّي للساعات الزائدة في الـﭬاراجات أو في
المدارس الخاصة (قد يصل المدرس-تاجرالعلم- إلى مضاعفة مرتبه على أقل تقدير، وفيهم
مَن يكسب 10 أضعاف مرتبه)، جشعٌ أنهَكَ المدرس خارج المدرسة، مما نتج عنه في عديد
الحالات إهمالٌ مضاعَفٌ: انخفض الأداء البيداغوجي للمدرّس خلال عمله الرسمي داخل
المدرسة، وانخفض مستوى إعداده لدروسه خارج المدرسة. لا أعمّم وأستثني بعض المربين
غير الجشعين الذين يلتجئون إلي "الأوتيد" (L’étude) اضطرارًا، أي الذين يُراعون
القناعةَ في هذا المجال، وهم فئةٌ قليلةٌ جدًّا.
-
يخطئ المدرس عندما يصنّف تلامذته إلى أذكياء وأغبياء، مع
الإشارة إلى أن عالم الوراثة والفيلسوف ألبير جاكار قال: "لا نستطيع أن نصنّف
الذكاء" (on ne peut pas catégoriser
l’intelligence). الذكاء ليس شيئًا جامدًا حتى
نقيسه في زمن محدّدٍ (QI :
Quotient Intellectuel)، بل هو قدرة ذهنية (performance intellectuelle)، قدرة
مجرّدة متحركة وقابلة للتغيير للأفضل أو للأسوأ حسب الجهد الشخصي والمحيط المادي
والذهني للتلميذ (المدرس، الأقران، البرامج، المستوى المادي والفكري للوالدَين
والإخوة، الفضاء المدرسي والعائلي، الشارع، إلخ).
-
يخطئ المدرس عندما يدرّس معارفَ تفوقُ بكثيرٍ مستوى
التلميذ فتعوقه عن الفهم، أو معارفَ دون مستواه فيملّ الدرس ويزدري المدرس. حسب
عالِم النفس والبيداغوجيا، لاف فيـﭬوتسكي، يجب على المدرس أن لا يدرّس معارفَ
تفوقُ بكثيرٍ ولا معارف أقل، بل يدرس معارفَ تفوقُ بقليل حتى يجذب اهتمام التلميذ فلا
يملّ الدرس ولا يزدري المدرس، ويركّز المدرس عمله في "المنطقة الأقرب للنمو الذهني للتلميذ"
(ZPD : Zone Proximale de
Développement mental)، لأن ذكاءَ التلميذ ذكاءٌ متحركٌ
بالتفاعل مع المحيط (L’épigenèse
cérébrale : l’interaction entre l’innée et l’acquis ou entre l’ADN et
l’environnement)، فلو تغير محيط التلميذ إلى
الأفضل فقد يتحسّن ذكاؤه (الإصلاح التربوي المرجو والموعود الذي طال انتظاره
طويلاً).
-
يخطئ المدرس عندما يؤنّب التلميذ المخطئ متجاهلا أن "خطأ
التلميذ هو محرّك القسم" (L’erreur de l’élève est le moteur de la classe): خطأ
التلميذ في القسم يستفيد منه أقرانه (يفهمون أكثر بالتكرار) ويستفيد منه أيضًا
المدرس (يكتشف الخلل في درسه وقد يفهم لماذا تلميذه لم يفهم -
Le grand épistémologue Gaston
Bachelard a dit : Les professeurs ne comprennent pas
que leurs élèves ne comprennent pas)
Pour en savoir
plus sur
ce sujet, je vous invite à lire mon deuxième livre [Le système éducatif au banc
des accusés ! «Les professeurs ne comprennent pas que leurs élèves ne
comprennent pas»], Édition libre, 2016
-
يخطئ المدرس عندما يعمل أكثر مع مجموعة من التلامذة
النجباء (نجباء لظروف مختلفة) ويهمل التلامذة الذين يتعرّضون لصعوبات تعلمية (يتعرّضون
لها لأسباب مختلفة favorise les
favorisés)، لو عَكَسَ المدرس طريقتَه
البيداغوجية لأصاب، وما خُلِقَ الإصلاح التربوي إلا لمساعدة هؤلاء الأخيرين، أعني
بهم التلامذة الذين يتعرّضون لصعوبات تعلمية (Il aurait du favoriser les défavorisés).
المفارقة تكمن في أن العدلَ البيداغوجي في القسم يتجسم -عكس ما يفعلُ عن حسن نية
الكثيرون من زملائي- يتجسم
في العدل الفارقي (La justice différenciée)، أي على
المدرس أن يهتم بالتلامذة الذين يتعرّضون لصعوبات تعلمية أكثر من اهتمامه
بالتلامذة النجباء.
-
حقيقةٌ أرددها ولن أكلَّ ولن أملَّ حتى ولو أغضبتُ بعض زملائي، معذرة أيها الأحبة،
كشكار في المقهى أكبر مجامل، لكنني في الفكر والعلم لا أجامل: حوالي 90% من المدرسين (ابتدائي،
إعدادي، ثانوي وجامعي) لم يتلقوا أدنى تكوين أكاديمي في علوم التربية الضرورية
للتدريس
(Je ne prends pas en considération les
stages aux CREFOC avec des inspecteurs dont la majorité n’ont pas de diplômes
universitaires en pédagogie ou en didactique : maîtrise, master ou doctorat -
لا أعمّم وأستثني بعض المتفقدين الحاصلين على ديبلوم في
الديداكتيك، وهم فئةٌ قليلةٌ جدًّا.). المدرسون لم يتلقوا أدنى تكوين أكاديمي في علوم مثل الإبستمولوجيا (معرفة المعرفة أو
نقد المعرفة)، تاريخ العلوم، البيداغوجيا، الديداكتيك (اختصاصي)، علم نفس الطفل، علم التقييم (الامتحانات والتقييم التكويني - L’évaluation formative)، علوم الإعلامية
والتواصل الخاصة بالتعليم (TICE : Techniques d’information et de communication dans
l’enseignement)، إلخ. لكن، وللأسف الشديد، تونس تُعَدُّ من البلدان
القلائل التي لا توجد فيها كلية تربية، صحيح عندنا المعهد الأعلى للتربية والتكوين
المستمر بباردو (ISEFC ou Université virtuelle) الذي تخرّج منه مئات
أو آلاف المختصين (لا أعرف العدد بالضبط)، مختصين
في شتى علوم التربية، وأنا واحدٌ منهم بالتوازي مع دراستي ماجستير ودكتورا
بجامعة كلود برنار بمدينة ليون بفرنسا (UCBL1, Doctorat en didactique de la biologie, 2007).
-
حتى
لا أطيل عليكم، أنهِي بأهمّ سبب لتدهور مدرستنا العمومية، حسب تقديري طبعًا، ألا
هو غياب النظام الصارم داخل مدارسنا (je veux dire
la discipline)، انضباطٌ كان سائدًا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وللأسف الشديد
تخلينا عنه في العقود الأخيرة (Un grand pédagogue a dit : l’absence d’autorité
chez les enfants est une forme de maltraitance).
لتعرفوا أكثر وجهة نظري حول النظام التربوي التونسي، بكل
لطفٍ أدعوكم لقراءة كتابي الرابع والأخير: "الإشكاليات العامة في
النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)"، طبعة حرة، 2017، وشكرًا.
إمضائي (مواطن
العالَم، أصيل جمنة ولادةً وتربيةً، يساري غير ماركسي حر ومستقل، غاندي
الهوى ومؤمن بمبدأ "الاستقامة الأخلاقية على المستوى الفردي" - Adepte de l’orthodoxie spirituelle à l’échelle
individuelle):
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك، فدعها إذن إلى فجر آخر"
(جبران)
À un mauvais discours, on répond par un bon discours
et non par la violence. Le Monde diplomatique
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 3 أكتوبر 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire