بعد الاستقلال، ودون
تَبَصُّرٍ أو تَدَرُّجٍ، اتخذت النخبة، فرنسية اللسان المهيمِنة في الجزائر،
قرارًا فوقيًّا ومتسرِّعًا بتعريب جميع المواد، الأدبية والاجتماعية والعلمية، في التعليم
الابتدائي والثانوي، وأبقت على الفرنسية كلغة أجنبية أولى. عَرّبت تعليمها من أجل فك الارتباط مع المستعمر
الفرنسي ومن أجل ترميم "الشخصية الوطنية". لكن، ويا للمفارقة، واصلت هذه
النخبة التواصلَ فيما بينها بلغة المستعمر، وذلك للتمايز على الطبقات الشعبية،
فأصبحت خطاباتها غير مفهومة من أغلبية الشعب المعرّبة. نخبة انتهازية مخاتِلة،
تفرض التعريب على أبناء الشعب وفي نفس الوقت تبعث أبناءها للدراسة في فرنسا.
عملتُ في الجزائر كأستاذ علوم
متعاون من سنة 1980 إلى 1988، فصادفت أساتذة علوم معرَّبين. ودون بحثٍ علميٍّ أو
تعميم، سأسوق لكم أمثلةً من بعض ما عاينتُ:
1.
زملاء، مدرِّسو علوم الحياة والأرض بالإعدادية (يتخرجون
بعد عام واحد تكوين وبالعربية بعد الباكلوريا)، لا يتقنون الفرنسية، ويعجزون عن
قراءة أي مجلة علمية باللغة الفرنسية مثل (Sciences & Vie ou La
Recherche)، وللأسف لا توجد مجلة علمية محترمة واحدة مكتوبة بالعربية في
الثمانينيات. كيف سيُحيِّن هؤلاء المدرسون معلوماتهم وبماذا سيُفيدون تلامذتهم؟
2.
دراسة الطب في الجامعة مفرنسة، طلبة السنة الأولى القادمون
من شعبة علمية تعليم ثانوي معرّبة 100%، لا يتقنون الفرنسية ولا الأنڤليزية، يشتكون من
صعوبة الاستفادة من المراجع الطبية في الجامعة وكلها بالفرنسية وبعضها
بالأنڤليزية.
3.
في 1980، مدير إعدادية زيروت يوسف بقسنطينة، التي اشتغلتُ
فيها زمن ذروة التعريب، كان لا ينطق في الاجتماعات إلا بلغة فولتير.
ما هي حصيلة نصف قرنٍ من التعريب
الإيديولوجي القومي العربي المتعصب الشامل والعاجل في الجزائر؟ حصيلة ضَحْلَة
وهزيلة جدًّا، لا عُمْق فيها ولا حِكْمة!
1.
أغلبيةٌ
معرّبةٌ لا تتقن الفرنسية ولا الأنڤليزية،
فلا تستطيع إذن -حتى ولو رغبت في ذلك- الاطلاع على
الإنتاج المعرفي الجيد في مجالات العلم والأدب والفكر والفلسفة والفن، فتتجه
مكرهةً إلى المطالعة بالعربية، فلا تجد أمامها
إنتاجًا جديدًا يُذكر فيُشكر إلا المؤلفات الدينية، ولكن حتى في هذا المجال الأخير
فهي لِفهمه تحتاج إلى الاستعانة بالمقاربات الحديثة في علوم الأنتروبولوجيا
والإبستمولوجيا والسيميولوجيا
الصادرة بلغة أجنبية، إلخ.
2.
وفي
المقابل، نخبة مثقفة أغلبها ناطقٌ بالفرنسية، أشهر كُتاب الجزائر اليوم يُبدِعون
باللغة الفرنسية، أذكر من بينهم اثنين: كمال داوود، الحاصل أخيرًا على أكبر جائزة
أدبية فرنسية، جائزة "ڤنكور"،
والروائي يسمينة خضراء، الأكثر شهرةً ومَبِيعًا في العالم، يقول أن عدد قرّائه في
سَنْغَفورَة، المدينة-الدولة، يفوق مجموع عدد قرّائه في الشرق العربي الجاهل
باللغة الفرنسية. هذا لا
ينفي وجود نخبة مثقفة ناطقة وكاتبة بالعربية.
استنتاج:
يبدو لي أن حصيلة "تونس التعريب الجزئي والمرحلي" بدأت للأسف تقتربُ من
حصيلة "جزائر التعريب الشامل والعاجل"؟
إمضائي
"المثقفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ
العمومية" فوكو
"إذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
"لا
أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين، بل
أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى، وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد"
مواطن العالَم
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، السبت 23 ديسمبر 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire