جلدٌ للذات و ليس نقدًا
للذات: نحن العرب، نتمتع بكفاءات عالية جدا و تخطيط مُمَنهج و مُحكم جدا في إهدار
طاقاتنا العلمية و العملية! مواطن العالَم د. محمد كشكار
مقدمة ذاتية جدا و لا تلزم
أحدا غيري
لماذا أكره الربيع، الفصل الطبيعي
و الزمن الثوري العربي؟
شعور انطباعي ذاتي وقتي، لا
يلزم أحدا غيري من النفزاويين (سكّان ولاية ڤبلي بالجمهورية التونسية):
انطلاقا من شعوري بالإحباط و
باليأس ممّا يحدث أمام عينيَّ في الشارع و في التلفزة، أحس بالتقيؤ و الدوران و
أنا أرى في عالمنا العربي، ملايين ساعات علم و عمل تضيع يوميا بسبب انشغالنا في
مظاهرات مليونية موالية و معارضة، طاقات رهيبة تُهدَر يوميا بعد الربيع العربي،
ربيع دون زهور كربيع مسقط رأسي "جمنة" بولاية ڤبلي بالجنوب التونسي
الغربي ، ربيع لا يأتي إلا بالرياح الرملية المزعجة، ربيع نكرهه و لا نحبه و لا
ننتظره و نتمنى قرب نهايته و لا نأسف على رحيله، ربيع يحرّك الرمال الصحراوية القديمة
السلفية المتراكمة و يدفعها في اتجاه المدنية و العمران و الاخضرار، ربيع يوسّع من
مساحة الصحراء و يقلص من مساحة الزراعة. حبّات رمله تدخل عنوة تجاويف آذاننا و
أنوفنا و تسكن شعرنا و تختلط مع عَرَقنا و تحسّسنا بالقرف إلى درجة أننا
أصبحنا نكره أجسامنا و لا نطيق ثيابنا و جعلتنا نلعن ظرفيا جدودنا
الذين من فرط ذكائهم أو من قلة حيلتهم أو من جور سلطانهم، لم يجدوا مكانا يكون فيه
الربيع أفضل، ربيع تزهر فيه الأرض فتلبس أجمل حللها المزركشة بألوان قوس قزح، ربيع
يُخرج أحلى ما في الأرض و ليس ربيعا يهاجمك بصلف و وقاحة في وجهك بحبات رمل أصلب
من الفولاذ، حبات مذببة راكمها الربيع بنفسه على مر القرون على شكل كثبان رملية
تحاصر مسقط رأسي جمنة و كأنها جيوش غازية تنتظر الفرصة لكي تنقض علينا بِغُلِّ و
حقد، و متى تهجم؟ يحركها كل عام الريح الربيعي فتهجم و لا تفرّق بين الصباح و بين
المساء و لا قبل الصباح و لا بعد المساء فتنغص راحتنا و تفسد عطلنا و سفَرَنا و
أعيادنا و خاصة عندما تتزامن مع العيد الكبير فتختلط بالكسكسي و تدخل في مسامّ اللحم النيئ و اللحم و المشوي
على قلته و ندرته. أنا أكره الربيع الطبيعي منذ طفولتي و كرهته أكثر عندما أصبح ربيعا
عربيا ثوريا.
أعلمكم أيها القرّاء الكرام
غير النفزاويين أن الريح الربيعي لا يلقّح أزهار نخيلنا و أخص بالذكر منها صنف
"دڤلة النور"، المنتوج الاقتصادي الأساسي و الحياتي في نفزاوة. أزهار
النخيل الأنثى المنتجة للتمور الذهبية العسلية، نلقّحها نحن بأنفسنا بأزهار النخيل
الذكر من عرقنا أو من ميزانيتنا. و أعلمكم أيضا أنه ليس لنا إنتاج يُذكر من القمح
أو الشعير أو الأشجار المثمرة أو الخضر و لا نربي نحلا و لا نرعى غنما أو بقرا و
نتطاير حتى من نزول الغيث - خاصة عند اصفرار عراجين "الدڤلة" - لأن هذا
الأخير يكون غير نافع و قد يُفسد صابة التمور أو يقلّل من جودتها و يخفّض سعرَها
في السوق!
على سبيل الذكر لا الحصر،
أورد عليكم بعض الأمثلة من الطاقات العربية المهدورة في دول الربيع العربي
-
بعد نجاح الثورة، ملايين من العرب تخرج يوميا إلى الشارع
للتظاهر و التجمع و الاحتجاج و الاعتصام و الإضراب و قطع الطريق، يساريون و إخوان
و سلفيون و ليبراليون و قوميون و مواطنون غير مسيسين أو غير مأدلجين أو غير منتمين،
موالون و معارضون، حكومة و أحزاب، كهول و شباب و أطفال و شيوخ، نساء و رجال، أميون
و مثقفون، حضريون و ريفيون، عمال و معطلون، كلهم في إهدار الطاقة مشتركون لأنهم
بفعلهم هذا لم يغيروا من الواقع الردئ شيئا يُذكر بغض النظر عن الأسباب المعطِّلة
خارجية كانت أم داخلية
أنا
من أول المشاركين في المظاهرات قبل الثورة و قد أتت أكلها و أسقطت قمة النظام و من
أول المشاركين أيضا في المظاهرات بعد الثورات رغم إيماني بعدم جدوى هذه الأخيرة،
فبعد تكرر التجربة يصبح من المفروض أن يتعظ البشر و لا يعيدوا الخطأ مرتين و
ثلاثة... و ألف مرة دون تفكير حول الممارسة الخاطئة و غير المجدية. حسب رأيي
البسيط غير العلمي و غير العارف بخبايا الظواهر الاجتماعية المعقدة: أنا أرى أنّه لو
اقتنع كل هؤلاء مثلي بعدم جدوى التظاهر و انصرفوا مثلي للعمل و غرس كل واحد منهم
شجرة أو علّم أميّا حرفا أو قرأ كتابا أو حرث أرضا أو زرع قمحا و شعيرا أو جنا
ثمارا لأصبح عالمنا العربي جنة فوق الأرض، جنة عامرة بالأشجار و خالية من الأمّيين
و لََحققنا اكتفاءنا الذاتي من القمح و الشعير و لَشغّلنا الملايين من العاطلين و
لَما احتجنا لقروض بنك النهب الدولي. و يحضرني هنا أحسن دليل تونسي على وجاهة ما
أقول: لو اشتغل الحوض المنجمي في ڤفصة بأقصى طاقته و لو لم تتعطل الصناعة
الكيميائية في ڤابس لكسبنا ملايين الدولارات من بيع الفوسفاط و مشتقاته خاصة و هو في
ذروة غلاء سعره العالمي و لَما مددنا أيدينا نقترض من "لِلّي يَسْوَى و لِلّي
ما يَسْوَاشْ" من أمثال قطر و اليابان و أمريكا
-
كلية منوبة للعلوم الإنسانية بطُلاّبها الثمانية آلاف،
تعطلت الدراسة فيها على مدى أشهر طوال بسبب خلافات إيديولوجية عقيمة سخيفة رجعية و
ساذجة، داء حادث جديد لم يصبنا حتى في زمن انحطاطنا أو فترة استعمارنا
-
أهدرنا مئات من ساعات العمل و أضعناها في التفاوض لمدة
أشهر من أجل تحوير وزاري لا يُرجى منه خير أو تغيير و أهدرنا ملايين الدنانير على
مجلس تأسيسي و دستورنا حاضر و مكتوب منذ سنة 1959
-
أهدرنا ملايين من ساعات الدراسة التلمذية و الطلابية في
التغيب الإرادي عن حصص التكوين و التحصيل العلمي و أعتبر هذا الإهدار أكبر خسارة علمية
مُنِيت بها تونس ما بعد الثورة و أصنفها كجريمة في حق الإنسانية، جريمة لا تموت
بالتقادم
-
أهدرنا
ملايين الدينارات من المال العام في تكوين تلامذة المعاهد النموذجية التونسية و في
الآخر نرى جلّهم يهاجرون و يتجنّسون و يعملون في الخارج و يفيدونا غيرنا بخبراتهم
التي تعلّموها في تونس مقابل مرتبات خيالية مقارنة بالأجر الأدنى لدافعي الضرائب
التونسيين الذين صرفوا على تعليم و تأهيل هؤلاء النجباء الناكرين للجميل من قوتهم و قوت أولادهم.
-
أهدرنا في المجال العلمي أيضا ملايين من ساعات العمل
العلمي الذي كان من المفروض أن ينجزه مئات الآلاف من المجازين المتخرجين منذ عشر
سنوات، درّسناهم و صرفنا على تكوينهم العلمي الأكاديمي ملايين الدينارات من أموال
دافعي الضرائب من أمثالي و أمثالك و أبقيناهم عاطلين عن العمل فمثلنا إذن كمثل
دولة تشتري محركات كهربائية لإنتاج الطاقة و عوض أن تشغلها، تتركها في المخزن حتى
يأكلها الصدأ
-
قبل و بعد الثورة، هاجر من العرب إلى الغرب مئات الآلاف
من العلماء و الباحثين و الأساتذة و الأطباء و المهندسين المكوَّنين في البلدان
العربية، فأصبح مثلنا كمثل فلاح يغرس و يرعى الشجرة و يسقيها و يغذيها و يقلّمها و
عندما تزهر و تثمر، يأتي السارق و يقطفها فيموت الفلاح بحسرته خاصة عندما يكون
السارق إرهابيا محترفا و مدججا بالصواريخ و الطيران و النووي و الكيميائي المزدوج
مثل السارق المحترف الذي شُهِرَ باسم أمريكا أو قريبه الذي شُهِرَ باسم أوروبا
-
بعد الثورة، طغت علينا الشفافية و استفحل الداء فينا
فانتعشت الرشوة و المحسوبية في بلادنا بعد ما وفرنا - و الحمد لله الذي لا يُحمد
على مكروه سواه - للفيروسين الأخيرين مناخا "ثوريا" و "تأويلا رجعيا
دينيا" مناسبا كما لم يتوفر لهما مناخا مماثلا طيلة ستين عاما من الاستبداد
البورقيبي و البنعليّ
-
بعد الثورة، طغت علينا حرية الإعلام و النشر فتفوقنا - و
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه - على أكثر البلدان ديمقراطية و أهدرنا
ملايين الساعات من النقاشات البيزنطية و الحوارات في قضايا ثانوية (هدم الزوايا،
تجاذبات سياسية، مجلة الأحوال الشخصية، فضائح شخصية لمسؤولين مباشرين، عَلمانية،
لائكية، سب و شتم و ثلب لرموز في السلطة رغم معارضتي لهم ديونتولوجيا، إلخ.) و لم
نطرح الإشكاليات المجتمعية الهامة و الأولية كإصلاح المنظومتين الحياتيتين،
التعليمية و الصحية و لم نحل بالحوار السياسوي أي مشكل فعلي واحد و عجزنا حتى عن
إيجاد حل لمعضلة تكدس القمامة في شوارع مدننا و قرانا
-
بعد الثورة، أنجزنا انتخابات ديمقراطية، حسدنا العالم
الأول علي شفافيتها و تنظيمها فطغت علينا الشرعية ، لكننا و و للأسف الشديد، زدنا
بعدها فُرقة و تشرذما و قبلية و طائفية و تخلفا و عصبية و عنصرية و إقصاء و فقدت مؤسساتنا كل شرعية و تراتبية ضرورية و
صحية، فأصبح أنصار الحزب الحاكم يتظاهرون في الشارع عوض أن يخدموا المواطنين،
مثلهم كمثل صاحب مصنع يُضرب عن العمل في مصنعه و هذا الأخير يمر بأزمة مالية و
اجتماعية خانقة و لا يعرفون أن سيد القوم خادمهم فأصبح رئيس حزبهم يخطب في شارع
الحبيب بورقيبة عوض أن يحاضر كمنظِّر في المنتديات الثقافية كما كان يفعل قبل
الانتخابات و أصبحت نائبة رئيس المجلس التأسيسي تُقصي المعارضة التجمعية في الشارع
عوض أن تقصيها في البرلمان و بالقانون و أصبح وزير النقل في الحكومة الحالية يخطب
فوق عربة و كأنه شي ڤيفارا في زمانه عوض أن يلتفت إلى عمله و ينظم حركة المرور و
يعتبر و يتعظ بقولة عمر بن الخطاب: لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عليها يوم
القيامة لأنني لم أمهّد لها الطريق
-
بعد الثورة، طغى علينا الشعور الوطني و الإحساس
بالمسؤولية و تشدق و تغنى بالشعارين الأخيرين، المسؤول و المواطن، لكننا في
المقابل تكاسلنا كلنا في العمل، مسؤولين و مواطنين، موالين و معارضين، إسلاميين و
يساريين و قوميين و ليبراليين، و تغافلنا
عن أداء الواجب المهني المباشر فخنّا وطننا و أسأنا له أيما إساءة من حيث كنا نظن
أننا بفعلنا هذا نحسن إليه
-
بعد الثورة، طغت علينا المادة و الربح السهل حتى أصبحت
الحكومة الإسلامية التونسية متناقضة مع مرجعيتها عندما حللت لنفسها التمعّش من ريع
بيع المشروبات الكحولية و نحن نعرف أن
الشريعة الإسلامية تحرّم شرب و بيع الخمر سرا و علنا
-
بعد الثورة، طغى الطمع المادي على نوابنا و وزرائنا و
رئيسنا و مستشاريهم فقرروا إسناد مرتبات خيالية لأنفسهم مقارنة بالأجر الأدنى
التونسي و مع هذا يدّعون دون حياء أنهم من جنس الذين يخافون ربي و كأن باقي الشعب
التونسي العَلماني لا يخاف ربي! لو كانوا يخافون ربي بصدق لفعلوا مثل ما فعل الطيب
البكوش، وزير التربية الأسبق في حكومة السبسي عندما رفض قبض مرتب وزير و اكتفى
بمرتبه كأستاذ جامعي متقاعد و رفض أيضا حصته من البنزين الشهري المجاني، أو لفعلوا
مثل ما يفعل وزراء دولة السويد "الكافرة بالإسلام" الذين لا يتمتعون قانونيا
بسيارة وظيفية و لا بسكن وظيفي و يدفعون
من مالهم الخاص ثمن أي وجبة يتناولونها في مطعم الوزارة مثلهم مثل أي موظف عادي
-
مثال أخير و شخصي، أنبه القارئ أنني عندما أشتغل على
ذاتي فهذا لا يعني البتة نرجسية مرضية أو تضخما في الأنا و الذات و قد سبق لي أن جَلَدْتُ
ذاتي جلدا بصرامة علمية لا رحمة و لا عاطفة فيها و انتقدت نفسي علنا و نشرا و
أبرزت عيوبي و فضحت نقاط ضعفي، و إنما هو اشتغال علمي على الذات يأتي من باب
المعرفة بالشيء و ما دمت لست باحثا اجتماعيا أكاديميا و لا تتوفر لديّ أي مادة أو
معلومات موثقة على الآخرين لكي أشتغل عليها، لا يوجد في متناولي إذن غير تجربتي الشخصية التي لا أطرحها كنموذج
ناجح بل أعرضها للنقد العلني كنموذج فاشل بامتياز و فشلها يفسّره تفاعل متواصل و
مستمر في الزمان و المكان بين الأسباب الذاتية و الأسباب الموضوعية الخارجة عن
نطاقي و من هذا التفاعل تنبثق شخصيتي، فهي إذن ملكي و ليست ملكي في آن
1.
منذ 1998، خسرت الدولة التونسية عليَّ و على زملائي في
المرحلة الثالثة ملايين الدنانير و الأوروات لتكوّن منّا مختصين في علم جديد نسبيا
اسمه تعلّميّة البيولوجيا و بعد تحصلنا على شهادة الدكتورا من أرقى الجامعات
الفرنسية، وظفت منّا في الجامعة 9 على 13، كلهم يدرّسون في غير اختصاصهم و بقيتُ
أنا و زميل آخر على الرف، "شيء من الحنّة و شيء من رطابة اليدين". و في
المقابل نرى أن اختصاصنا الذي أمضينا فيه 8 سنوات بحث علمي متنقلين بين تونس و
فرنسا، نراه يُدرّس من قبل متفقدي ثانوي لم يدْرسوه أكاديميا و لو يوما واحدا
2.
و أغرب ما رأيت في باب إهدار الطاقات العلمية أن يُعيَّن
أستاذا مكوّنا غير مختص في التعلّميّة و
لا في البيداغوجيا، يكوّن أساتذة الثانوي في
التعلّميّة و البيداغوجيا و أُستَدعَى أنا المختص لحضور حلقات التكوين التي
يشرف عليها غير مختص. كان زميلي المكوّن المحترم السنباتيك - و الذي أحييه
بالمناسبة على المجهود العصامي الذي بذله لاكتساب مهارات في هذين الاختصاصين -
يجاملني و يطلب موافقتي بالإيماءة الرأسية على كل ما يقوله و لذلك اضطرّ لمغادرة
الحصة في أولها احتراما له و تجنبا لإحراجه علميا أمام الزملاء المتلقين، أستاذ
يدرّس و لو على غير صواب أفضل من أستاذ متردد في إلقاء درسه
الخلاصة
بعد الربيع العربي لم يعد
يستقيم أي تحليل سياسي و لم أعد أنا أفهم أي شيء و لم أعد واثقا من أي شيء إلا من
وثوقي التام أنني لا أفقه في السياسة حرفا و اعتراف الجاهل بجهله طريق إلى التعلم
و هذا ما أحاول فعله بكل جدية و جهد لكن السياسيين التونسيين، سلطة و معارضة،
يرتكبون أخطاء و حماقات كبيرة لا يراها إلا أعمى البصيرة و لست كذلك على ما أظن و
الحمد لله
يبدو لي أنّ، عوض المشاركة في
المليونيات العربية الموالية و المعارضة بعد الثورات و التي لم تغير شيئا في
الواقع العربي السياسي و الاجتماعي و الثقافي المتردي، يكون من الأفضل و الأصلح و
الأنفع لو نفخ كل متظاهر عربي في كير
حداد (آلة تقليدية يستعملها الحداد لإذكاء النار التي يصهر فيها الأدوات الحديدية
كالمنجل و المحراث) أو قرأ كتابا أو شغّل عضلاته و أدار عجلة درّاجة و أنتج طاقة
عضلية، يحولها الـ"دينامو" إلى طاقة كهربائية ثم يخزّنها (الدينامو هو مولّد
كهربائي صغير و مستقل، مثبت في العجلة، يخزّن الكهرباء ثم يضيء به مصباح الدراجة
الأمامي في الليل). لو فعلنا كل هذا الجهد النافع لأَذبنا كل حديد العالَم و لاَنقرضت الأمية من
"أمة اقرأ" و لأَضئنا العالَم نورا كهربائيا و قهرنا الظلام و الظلامية و
لََغيرنا تاريخنا بعلمنا و عملنا كما فعلت كوريا الجنوبية، الدولة التي كانت أفقر
و أجهل منّا في الخمسينات
قال لنا العالَم - و صدّقناه
- أنه مُعجب بثورتنا و قال لنا أيضا - و صدّقناه لسوء حظنا أيضا - أننا أسقطنا نظام
بن علي حين خرجنا ببعض الآلاف من المثقفين المعارضين يوم 14 جانفي 2011 أمام مقر
وزارة الداخلية بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة و هتفنا بحناجرنا و أشرنا بأيدينا
مرددين كلمتنا السحرية "ديڤاج" (ارحل) فخلعنا الطاغية و هرب مدحورا
مذعورا إلى السعودية، وكر الرجعية و منفى الطغاة
و في هذا الإطار بالذات يتنزّل
سؤالي و تندرج إشكاليتي التالية: لو كان هذا التشخيص العالمي سليما فلماذا عجزت
مليونياتنا العربية العديدة و المتكررة في اليمن و تونس و مصر عن أن تجبر الحكومات
الإسلامية الشرعية عن التحقيق التدريجي و لو لهدف واحد من أهداف الثورة أو التبشير
بتحقيقها على الأقل و هذا أضعف الإيمان مع الإشارة أن أهداف الثورة ليست كثيرة:
الحرية و الكرامة و التشغيل و العدالة الاجتماعية و السلامة البدنية من
"الرش" و "الماتراك" و الإهانة و التعذيب في الشارع و مراكز
الأمن و السجون
الخاتمة
لقارئ مخلص و صادق أن يحتج
عليَّ و يقول: و لماذا جلد الذات؟ ألا يكفي النقد و الانتقاد؟ أجيبه: نحن نستأهل
أكثر من الجلد و حالتنا "المِتِعْبَة جدا" تتطلب تشريحا، يليه استئصال
لأورامنا الأركيولوجية (عمرها 14 قرن، أي منذ موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه) الخبيثة
و المتمثلة في معاداة الحب و الجمال و الفن و الفلسفة و الإبداع و عشق الجهل المقدّس
و هواية الكسل و التحيّل عن أداء الواجب و تفشي ضعف الإيمان بالقدرات المحتملة في
الإنسان و انتشار انعدام الضمير فينا دون استثناء و قلة الخير المكتسبة في
مجتمعاتنا، مسلمون يدّعون أنهم يخافون ربي و مَن لا يعرف ربي لا يخافه بل يخافوا
الذين يعرفونهم جيدا كرئيسهم في العمل، أما وزرائنا فلا يهابون إلا حلفائهم الأجانب، الدول الإمبريالية
المانحة للقروض المجحفة، الكبيرة منها و الصغيرة، مثل فرنسا و ألمانيا و اليابان و الصين و أمريكا
و السعودية و قطر
ثلاثة سيناريوهات
محتملة لمستقبل الربيع العربي، معشّشة في خيال مواطن العالَم د محمد كشكار:
1. أتشاءم
و أقول السيناريو الأفظع و الذي يخيفني جدا و يتسبب لي في كوابيس ليلية مرعبة: تمخّض الربيع الأمريكي الأوروبي الخليجي،
فولد فوضى هدامة دائمة حتى الآن في تونس و مصر و اليمن و سوريا و أُجزم أن أمريكا
لم تدخل بلدا عربيا إلا و دمرته بأموال خليجية و منعت بناءه و إعماره من جديد كما
فعلت في العراق و الصومال و عكس ما فعلته في ألمانيا و اليابان و كوريا الجنوبية و
يوغسلافيا حيث هدمتهم في حروبها الاستباقية الظالمة ثم ساعدتهم على النهوض من جديد
لغرض في نفس العم سام.
2. أتشاءل
و أقول السيناريو الأقل فظاعة: ستتحالف أوروبا مع تونس و مصر و تساعدهما على النهوض من جديد، ليس من أجل
سواد أعينهما بل تنازعا على النفوذ و السيطرة على النفط و السوق في شمال إفريقيا
بينها و بين حليفها العسكري الولايات المتحدة الأمريكية و الذي يمثل في الوقت نفسه
منافسها الاقتصادي الأكبر و الأخطر.
3. أتفاءل
و أقول السيناريو الذي أتمناه من كل قلبي لتونس و مصر و اليمن و سوريا: سوف تعتمد هذه البلدان النامية على طاقاتها البشرية
الذكية الذاتية الإسلامية و العَلمانية اليسارية منها و الليبرالية و القومية و "تعيش رغم الداء و الأعداء كالنسر فوق القمة الشماء" و "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا
بد أن يستجيب القدر...و لا بد للظلم أن ينجلي و لا بد للقيد أن ينكسر" كما قال شاعر تونس الأول أبو القاسم الشابي.
الإمضاء
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم
بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا
بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي أو بالحيلة، لأن الحيلة تُعتبر عنفا مقنّعا و
غير مباشر
الكتابة بالنسبة لي، هي
مَلْءُ فراغ، لا أكثر و لا أقل، و هواية أمارسها و أستمتع بها، متعة ذهنية لا يمكن
أن تتخيلوها
تحية دائمة و متجددة لزملائي المربين: في ألمانيا المعلمون أعلى دخلاً في البلد، وعندما
طالب القضاة والأطباء والمهندسون بالمساواة ؛ ردت عليهم ميركل: كيف أساويكم بمن
علّموكم؟
قال ويليام بلوم: لو كان الحب أعمى فـالوطنية الشوفينية
الضيقة الإقصائية و المتعصبة فاقدة للحواس الخمس
تاريخ أول نشر على مدونتي و صفحاتي الفيسبوكية
حمام الشط في 25 فيفري 2013
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire