mercredi 5 juin 2013

شهادة على العصر: تجربتي كأستاذ تونسي متعاون في الجزائر. بقلم مواطن العالم د. محمد كشكار

شهادة على العصر: تجربتي كأستاذ تونسي متعاون في الجزائر. بقلم مواطن العالم د. محمد كشكار

تاريخ أول نشر على النات
حمام الشط في 7 ماي 2010.

التحقت عام  1980 بــ"إعدادية زيروت يوسف" ولاية سكيكدة و كان عمري 28. وصلت القرية مساء. لا يوجد بها نزل. قضيت ليلتي في الحمام التركي بالقرية و نمت على حصيرة. توجهت باكرا إلى المدرسة الإعدادية و قابلت المدير. كان جزائريا بربريا أمازيغيا قبائليا يتكلم الفرنسية فقط في زمن تعريب التعليم الجزائري. كان دعاة التعريب من الوزراء و المسؤولين الكبار يبعثون أبناءهم يدرسون التغريب بالخارج حفاظا على عقول فلذات أكبادهم من التخريب الوطني المبرمج مع سبق الإصرار و الترصد بلغة القانون.

انتدبوني لتدريس العلوم الطبيعية بالفرنسية لآخر دفعة نجت من نظام التعريب. نعم أقول نجت لأن التعريب يساوي تجهيلا و تفقيرا لثقافة الأستاذ و التلميذ  دون مراجع علمية بالعربية و دون أساتذة متكونين بالعربية و دون مجلات علمية مختصة ننشر فيها إنتاجنا العلمي و إنتاج غيرنا بالعربية. كان أستاذ العلوم الجزائري المعرّب غير قادر على مطالعة الكتب المدرسية و المراجع المكتوبة بالفرنسية وغير قادر أيضا على قراءة المجلات العلمية الفرنسية المختصة مثل [La Recherche ] أو شبه المختصة مثل [ Sciences & Vie ] فكان يعتمد في إعداد دروسه على كتاب التلميذ فقط. أما التلميذ الجزائري المعرّب (يدرس الفرنسية كمادة مستقلة و يدرس كل العلوم "الصحيحة" و "الإنسانية" بالعربية) الحاصل على باكلوريا علوم بالعربية و الموجّه إلى سنة أولى طب فيجد صعوبة كبيرة في مواصلة تعليمه الجامعي الطبي المفرنس تماما لأنه غير مؤهل للبحث في المراجع الطبية الفرنسية أو الأنقليزية. لا توجد في الجزائر مراجع طبية حديثة بالعربية و لا مجلات علمية عربية مختصة أو شبه مختصة.

مبدئيا، أنا من دعاة التعريب و لكن ضد تطبيقه العاجل. علينا, حسب وجهة نظري المحدودة, أن نبدأ بتوفير مراجع معرّبة في كل المجالات و الاختصاصات في المكتبات المدرسية و العامة و التجارية و بيع مجلات علمية مختصة معرّبة في حينها في الأكشاك قبل أن نعرّب التعليم. عرّب التعليم الأساسي و الإعدادي و الثانوي في الجزائر فخرّب و أنتج أجيالا لا تتثقف إلا بالعربية و هذا غير كاف لأنها لا تبدع و لا تنتج إلا في مجال الدين, المجال الوحيد المعرّب بالكامل, و لذلك انتشر التطرف الإسلامي بسرعة غريبة في الجزائر أكثر من تونس و المغرب. عرّب التعليم الأساسي في تونس بفرعيه, الابتدائي و الإعدادي, فأصبح في طريقه إلى التخريب أيضا مثل الجزائر.  كنا نظن أننا في تونس أذكى منهم فأبقينا على الثانوي مفرنسا لكن  نسينا أن من يكون أساسه هشّا لا يستطيع أن يعلّى في بنيانه.

كان زملائي الجزائريين المعرّبين المتخرجين حديثا عاطلين بالفعل في اللغة لفرنسية. كانوا يلجؤون إليّ مضطرين, يعلو وجوهم الحياء، طالبين منّي كتاية برقية بالفرنسية  أو قراءة مختصر شروط استعمال آلة غسيل أو دواء [notice d'emploi  ]  . كنت أترجم لهم مقالات [ le Monde Diplomatique ] و [La Recherche ] و [  Sciences & Vie] و كانوا يستمعون إليّ بانبهار و إعجاب شديد كأنني بابلو نيرودا  يلقي شعرا في ثوار اسبانيا الشيوعيين.

أسكنوني مع أستاذ عراقي و آخر سوري. كان العراقي شيوعيا هاربا من صدام و هو أول من علّمني كره طاغية بلاده منذ 1980. أما السوري فكان يخرج من الدار عند إثارة أي نقاش سياسي حول الأنظمة العربية لثقته التامة في مخابرات بلاده و قدرتها الفائقة على التصنت دون تكنولوجيا التصنت. قسّمنا الأدوار في المطبخ و بدأت أنا بمقرونة حارّة فقال لي العراقي: أنت يا "أبو جاسم" عيّنّاك منذ اليوم غاسلا للأواني و لا شأن لك بالطبخ و بقيت على هذه الحال كامل السنة. كان العراقي شاطرا جدا في إعداد الأكل و في تقديمه أيضا. كان يعزف العود و يدرّس الأنقليزية. درس التصوير الفني بألمانيا الشرقية و درّسه من بعد بمدينة بسكرة بالجزائر. كان قارئا نهما لأمهات الكتب و قد تعلّمت منه الكثير و أوّل مرة في حياتي أشعر بعقدة نقص حضارية إزاء عربي مثلي. كان محروما من الدخول للعراق إثر صدور حكم إعدام غيابي ضد كل الشيوعيين العراقيين في المهجر. كان يذهب إلى سوريا حتى يقابل أمه القادمة من العراق. كنا في الدار أربعة عزاب, ثلاثة أساتذة  و عراقي صغير, أخ الكبير, لم يتشيّع بعد (من الشيوعية و ليس من الشيعة) و كان جميلا جدا و كان يدرس في الإعدادي في الجزائر. رغم كثرة ما حدثني معلّمي العراقي الشيوعي عن الظلم و القهر و كبت الحريات و التعذيب و شرف الإعدام بمسدس القائد, لم يحدثني قط عن الفتنة الطائفية بين الشيعة و السنة عكس قناة الجزيرة التي صمت آذاننا و كأنها تستمتع بالحروب الأهلية العربية. منذ 1980 حكمت على تجربة صدام بالإعدام الفكري لأنني ضد الإعدام الجسدي. من يسلب كرامة مواطنيه في بلادهم لا يطالبهم بالدفاع عنها ضد الأعداء الغزاة. بعد عشرين سنة من معاناة الشعب العراقي و عذابه بأياد عراقية صدّامية, جاء الأمريكان  فوجدوه لقمة سائغة لا قدرة له و لا رغبة في المقاومة. كيف تطلب من مسلوب الإرادة و ربيب الذل و القمع لعقدين من الزمن أن ينتفض فجأة و يستبسل في الذود عن دياره و عشيرته و عرضه؟ لا تصدقوا المقولة المشهورة "كر فأنت حر" فعنترة أسطورة نفخ فيها العرب بعد الإسلام كما أكد طه حسين في كتابه الشهير و المثير للجدل حول الشعر الجاهلي.

ألبس العراقي نوافذنا ستائر فقلت له: أتحداك أن تجد ستائر في بيت عزاب في تونس. كان يحكي لي عن مطاعم دجلة أيام الرئيس البكر و كيف كان يتعشى سمكا و يسكر "عرقا" بـنصف دينار عراقي. كان أبوه مثل المنجد يتحدى أولاده في تفسير أي كلمة أنقليزية تخطر على بالهم. آمنت أن العراقيين شعب متحضر و خاصة العلمانيين منهم الذين عرفتهم و لن أنسى أن الحضارة العربية الفارسية الإسلامية في العراق أنجبت وربت خيرة العلماء في الدين و الدنيا.

لم تكن لي علاقات بالجزائريين و لا بالجزائريات إلا للضرورة المهنية أو الحياتية. كنت أقضي أكثر وقتي في المطالعة و بتكليف ودي ليس إلزامي و لا تنظيمي و لا حركي من مجموعتي اليسارية الفكرية و ليس السياسية بجمنة قرأت القرآن و تفسير الجلالين  و صحيحي مسلم و البخاري و ظلال القرآن لسيد قطب و شهادة الحق لأبي الأعلى المودودي و نظرات في القرآن للإمام الشهيد حسن البنا و كل أدبيات الإخوان المسلمين حتى نحاول التعرف على الجذور الفكرية لحركة الاتجاه الإسلامي, المولود الجديد فى الساحة الفكرية التونسية بعد ما كانت مرتعا مباحا للشيوعيين و القوميين فقط.

أثناء تواجدي بالجزائر اتصلت بجامعة قسنطينة للتسجيل بقسم الفلسفة حتى أكمل تعليمي العالي. قال لي العميد: ليس لنا أماكن شاغرة بالفلسفة لكن تستطيع التسجيل بالطب على شرط التخلي عن الإعارة أي التدريس. رفضت لأني ليس لي مورد رزق غير التدريس و يا ليتني ما رفضت أو ربما أحسن ما فعلت لأن الطب يتطلب قلبا كاسحا و أنا قلبي "رهيف" و حساس. كان الطلبة التونسيون بالجزائر يهرّبون سراويل "دجين" و ينفقون من فارق الثمن و فارق العملة في السوق الموازية.


جاءتني برقية عاجلة من فرنسا تعلن وفاة زوج أختي الكبيرة بباريس. ذهبت إلى بنكي في مدينة سكيكدة لأسحب مبلغا بالفرنك الفرنسي. قال لي الموظف: لا يوجد عندنا سوى البيزيتاس العملة الاسبانية أو الليرة الإيطالية. التجأت إلى حلاّل المشاكل زميلي الحاج الفلسطيني الذي يؤجّر سيارته و هو سائقها في الأفراح و يأخذ أولاده الخمسة يأكلون  مجانا في الولائم. اتصل بالموظف البنكي الجزائري و قال له: صديقنا بن علي, و كنت حينذاك أحمل لقب بن علي, ذاهب إلى فرنسا فماذا تريد أن يجلب لك كهدية, قال: دجين. أعطاني الفرنكات و سافرت. اشتريت له دجين بـ80 فرنكا أي ما يساوي تقريبا 8 دنانير تونسية فأصبح بعد الرشوة يقوم من كرسيه و يستقبلني بالأحضان و أنا داخل للبنك. ما أرخص قيمة بعض الموظفين الجزائريين في ذلك الوقت و أين هم من دعاية المليون شهيد و الشعب الأبي و كانت أول رشوة و آخرها أدفعها في حياتي. كان بعض التونسيين يقضون حوائجهم و يرشون بعض الموظفين الجزائريين حتى بقطعة صابون تونسية نوع لوكس.

أسست في المدرسة الإعدادية بزيروت يوسف نادي قصة على منوال النادي الذي كنت أنشطه في إعدادية غار الدماء بتونس. اتهمني ظلما بعض زملائي الجزائريين الحزبيين الموالين من  حزب جبهة التحرير الجزائرية بشتم الشعب الجزائري في هذا النادي الناجح فأبعدتني وزارة التربية الجزائرية في نقلة عقاب إلى مدينة جامعة ولاية واد سوف بالصحراء الجزائرية.

أردت زيارة مكان عملي الجديد قبل الرجوع إلى تونس في العطلة الصيفية. ذهبت إلى مدينة قسنطينة لأستقل الحافلة إلى مدينة بسكرة حيث توجد الإدارة الجهوية للتعليم بالجنوب. وصلت إلى محطة الحافلات فوجدت صفا طويلا كالعادة أمام شباك التذاكر. أخذت مكاني في الآخر و الناس يتدافعون دون سبب ظاهر. بعد ساعة من الانتظار المتحرك أصبحت الثاني في الصف. دفعني الثالث بكتفه و أزاحني من أمامه و أخذ مكاني. لم أرد الفعل و عدت بكل برودة دم إلى آخر الصف لأن لا أهدر طاقة في غير محلها. احتج عوضي الجزائري الأول في الصف و حلف بأغلظ الأيمان أن يقتطع لي تذكرة قبل المعتدي و هذا ما حدث فعلا. قال لي منقذي بابتسامة فيها إعجاب و استغراب: " أنت, إما غير جزائري و إلاّ مثقف جدا" أجبته: " الصفة الأولى صحيحة و أما الثانية فأحاول الاقتراب منها كل ساعة بكل جهد و عزم مع العلم أنها مستحيلة المنال.

في السنة الثانية إعارة, سافرت عبر الحدود الجنوبية مرورا بتوزر و  نفطة و حزوة. اجتزنا الديوانة التونسية بسلام و بعد كيلومترين وجدنا الديوانة الجزائرية في انتظارنا بالورود و الطبل و المزمار, ألسنا عربا أشقاء و أجوارا اشتركنا في مقاومة الاستعمار الفرنسي و اختلطت دماؤنا في ساقية سيدي يوسف التونسية. لا يوجد بيت راحة. ماء في صهريج تحت الشمس يذكرني بالصهريج الفارغ لتهريب الفلسطينيين في قصة غسان كنفاني "رجال تحت الشمس". صفّ طويل و انتظار تحت شمس الجنوب في شهر أوت دام أربع ساعات. موظفون يلعبون الورق و يحتسون المشروبات المثلجة و يقهقهون غير مبالين بالمواطنين و هل نحن مواطنون في هذا الوطن؟ نقلت المشهد لزميلي الأستاذ الفلسطيني المتعاون بمدينة جامعة, فقال معلقا: المحتلون الإسرائيليون لا يعاملون الفلسطينيين المارين عبر المعابر مثل ما يعاملكم جيرانكم شرطة حدود الجزائر و ديوانتها. كانوا يفتشوننا و يحجزون حتى جريدة الصباح خوفا و حماية للدولة الجزائرية القوية من الانهيار لو دخل عدد واحد من جريدة الصباح و لم يكن يخطر على بالهم إمكانية ظهور المهدي المنتظر و هو الـ"فايسبوك" الذي نقلنا حقا من الظلمات إلى النور و نصرنا على القوم الظالمين فأصبحنا بقدرته ندخل الجزائر صباحا مساء و حتى يوم الأحد دون استشارة شرطي يحمل في جمجمته مخا و هو لا يحتاج أكثر من نخاع شوكي ينظم ذهابه إلى دورة المياه.

وصلت مدينة جامعة بالجزائر و للأمانة رحبت بي السلط الحزبية المحلية ترحيبا جيدا. التحقت مباشرة للسكن مع أستاذين تونسيين قديمين في المنطقة. كان الحي مخصصا لرجال التعليم و كان السكن مجانيا للجزائريين و الأجانب و الماء أيضا مجانيا للجزائريين و الأجانب و الجولان مجانيا لسيارات الجزائريين و سيارات الأجانب, لا ندفع المعلوم السنوي للجولان في الجزائر. هذا من بقايا اشتراكية بومدين و مكاسبها التي أنتقدها في جوانب أخرى مثل غياب الديمقراطية و كبت حرية الصحافة و التسرع في التطبيق.

انتدبت كمدرس علوم الحياة و الأرض بالفرنسية لكن أصبحت أغيّر الاختصاص كما تغير الحرباء لونها. بدأت عملي في إعدادية مدينة جامعة كمدرس للعلوم التطبيقية الفلاحية. كنا أنا و تلامذتي نفلح الأرض و نزرع البطاطا و الفول و نجني ثمارها و لا نأكلها. بعد عام بدأت أدرس التكنولوجيا و كيفية استعمال سخان الحمام و غيره من الآلات, اعتمدت في تحضير دروسي على كتب رسمية تونسية في التقنية لفقدان البرنامج و الكتب الجزائرية في هذا الاختصاص. انقرض تعليم العلوم بالفرنسية في عامي الرابع من الإعارة فاقترح عليّ صديقي المدير تدريس اللغة الفرنسية في نفس الإعدادية فقبلت و وافقت الوزارة الجزائرية و تجدد عقدي لمدة أربع سنوات أخرى بمجرد تزكية من المدير. المدير و ما أدراك ما المدير, أصفه لكم بكل دقة و أمانة و هو داخل صباحا لمدرسته: كان بدينا لحد الإفراط, يرتدي قميصا خارجا من سرواله و ينتعل في قدميه "شلاكة نيلون بنصف دينار تونسي" و في يده "قرطاس فول مدمس" يأكل البذرة و يلفظ القشرة بقوة دفع رهيبة مباشرة على الأرض. لا تغرّكم المظاهر و لا تحكموا بسرعة على البشر فهذا المدير طيب جدا و متكون جدا, دون مبالغة,  و كان قادرا و بجدارة و تفوق أن يعوض أي أستاذ يتغيب و في أي اختصاص و يؤدي المهمة أحسن من الأستاذ المتغيب نفسه.

تعلمت السياقة في الجزائر و حصلت على رخصة في الوزن الخفيف و الثقيل و علّمت قانون الطرقات مجانا و بمنزلي للكثيرين من الجزائريين الأمّيين.

اشتريت بالحاضر, في عامي الثاني بمدينة جامعة, سيارة مستعملة و ثلاجة و موقد طبخ حديث و تلفازا بالألوان و سرير كبير و غسالة أوتوماتيكية و تزوجت بتونس من الجميلة و الرقيقة سهام الرحال أثناء عطلة الشتاء. وفّرت لي المدرسة الجزائرية "فيلاّ" للسكن تابعة لها دون كراء و لا فاتورة ضوء و لا فاتورة ماء. و كما يقول المثل التونسي " اغسل ساقيك و ادخل" و في جانفي 1983 دخلت أنا و زوجتي في شهر عسل شتوي متواضع لكن دافئ.

كنت مقاطعا الجلوس في المقاهي و أسهر مع زملائي الجزائريين و الفلسطينيين في ساحة الحي شبه مجاني السكن و مجاني الماء (كان نصف الحي مجاني السكن و نصفه الآخر شبه مجاني لأن كراء "فيلاّ" كان بـ200 دينار جزائري أو 20 ألف جزائرية, يقابلها 4 دنانير تونسية أو 4 آلاف تونسية في السوق السوداء ة, الدينار الجزائري هو بمثابة  100 مليم عندنا في تونس ). كنا نفترش الرمل الصحراوي النظيف و الناعم الدافئ و نتجاذب أطراف الحديث و النقاش دون تمييز في الجنسية لقرب لهجتي من لهجتهم الجنوبية. كانوا يعشقون رئيسهم السابق الهواري بومدين و لا يقبلون النقد فيه. لا يحبون رئيسهم الشاذلي بن جديد و كنت أنا على العكس, لا أوافق  بومدين في ديكتاتوريته و لا في طريقة تطبيق اشتراكيته رغم إيماني الراسخ بوجاهة بعض ما جاءت به النظرية الاشتراكية و لو غيرنا فيها الديكتاتورية بالديمقراطية و الثورة بالتغيير المتدرج في المفاهيم و التصورات. أحترم بن جديد لشعره الأبيض و لبساطته و لتوفر مستلزمات الحياة في عهده. كان عهدا ذهبيا بالمعنى النفعي للكلمة, تمتع الجزائريون بالأمن و العيش الكريم في عهده بعد ما قمعوا في العهد الذي سبقه و قتلوا في العهد الذي لحقه.

على ضوء القمر و كاس الشاي الأخضر الخفيف و "الحمص المعاود" التونسي الذي يعشقه زملائي الجزائريون, كنا قرابة عشرين أستاذا نناقش خبر تأسيس المغرب العربي خلال اجتماع الرؤساء المغاربة الأربعة في المغرب الأقصى في الثمانينات. كان كل زملائي متفائلين و مصدقين الوعود و كنت أقول لهم: لا تصدقوا الأقوال قبل أن تروا الأفعال. نشأت السوق الأوروبية المشتركة على المستوى الاقتصادي و الثقافي قبل أن تنتقل إلى المستوى السياسي أما نحن فبدأنا من القمة و بحول الله ستنكسر رقبتنا و سنتدحرج من الأعلى إلى أسفل السافلين. و ها قد مر الآن على التأسيس و الحفل الضخم قرابة ربع قرن و لم يتحقق لا مغرب عربي كبير و لا صغير بل اشتعلت الحرب الأهلية في الجزائر و حصدت مائتي ألف جزائري بأياد جزائرية وطنية خالصة مائة في المائة.

كان زميلي الفلسطيني الأستاذ المتعاون بالجزائر المذكور أعلاه و هو من سكان غزة الحاليين يتدخل في النقاش أحيانا و بحرقة شديدة تستشفها من نبرة صوته بدأ يقارن بين عهد الاحتلال المصري المباشر لغزة قبل 67 و عهد الاحتلال الإسرائيلي المباشر بعد هزيمة 67. قبل 67, كانت الفوضى تعم القطاع تحت الحماية المصرية و كان الفدائيون الفلسطينيون, أبطالا في نظر العرب و قطّاع طرق في نظر الغزاويين, يقظّون مضاجعنا نحن المدنيين الأبرياء العزل و يفرضون علينا سيطرتهم بقوة السلاح الذي يحملونه ضدنا و ليس ضد العدو. قبل 67, لم يكن الأمن مستتبا لا في القطاع و لا في الضفة و القدس الشرقية. بعد 67, جاءت إسرائيل بجيشها و جبروتها و فرضت القانون و الأمن و دخل المجاهدون المزيفون إلى جحورهم و أصبح العمال الفلسطينيون يتوافدون على إسرائيل 48 بمئات الآلاف يكسبون لقمة عيشهم من عرق جبينهم في بناء المستوطنات و زراعة الأراضي الفلاحية لصالح اليهود الصهاينة المحتلين القادمين من بولونيا و روسيا و أمريكا و المهجّرين من الدول العربية التي جبنت أمام جيش الهجوم الإسرائيلي و استأسدت ضد رعاياها اليهود الأبرياء العزل و أجبرتهم بالقوة على مغادرة أوطانهم العربية و حولتهم من يهود عرب مسالمين في أغلبيتهم إلى صهاينة معادين لنا نحن الفلسطينيين فقط. و يضيف زميلي الفلسطيني معتذرا عن جلد الذات الفلسطينية العربية: لا تأخذوا كلامي هذا على أنه تجميل للوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي بل هو تقبيح للوجه المجمّل للاحتلال العربي المصري و الأردني للضفة و القطاع قبل 67. الإحتلال الإسرائيلي هو تمييز عنصري واضح بين اليهودي و العربي أما الاحتلال العربي فهو تمييز متخف أشد عنصرية لأنه يميز بين عربي و عربي و بين مسلم و مسلم لم يميز الله بينهما إلا بالتقوى. بعد أن أتم زميلي الفلسطيني سرد شهادته على العصر, عصر الانحطاط العربي, ألقيت عليه السؤال التالي: لماذا لم تطالبوا قبل  67 بالاستقلال التام و التخلص من الاحتلال المصري لغزة و الاحتلال الأردني للضفة و القدس الشرقية و تبنوا دولتكم المضيّقة و عاصمتها القدس الشرقية قبل أن تحتلها إسرائيل في 67؟ نسيت أو تناسيت جوابه لأن لا أجرح شعوركم أكثر مما هو مجروح.

جمعت معاهد مدينة جامعة أساتذة متعاونين من 8 جنسيات مختلفة: 5 مصريين و 3 فرنسيين و ايرلنديا و باكستانيا و فلسطينيين و سوريا و 7 تونسيين و عراقيا. استدعتنا مرة مديرية الأمن بولاية واد سوف في يوم واحد لأمر يهمنا دون ذكر السبب بالتفصيل فتغيبنا كلنا و التحقنا بدار الأمن على بعد مائة كيلومتر من مدينتنا, وصلنا الثامنة صباحا, دخلنا, سألونا: هل غيرتم محل إقامتكم؟ أجبنا جميعا بلا. قالوا لنا شكرا و مع السلامة. ضاع يوم دراسة على التلامذة الجزائريين بسبب غباء ضابط أمن جزائري كان أجدر به أن يطلب المعلومة هاتفيا.

كانت الجالية التونسية, أكبر جالية أجنبية في مدينة جامعة,  تتكون من ست عائلات, أربعة أساتذة و بائع فطائر مقلية و سائق شاحنة. كنت الوحيد الذي يملك سيارة [ R14 ]. كان زملائي الثلاثة يستلفونها لقضاء حوائجهم و لم أكن أمانع. اقترحوا عليّ تحويلها إلى ملكية مشتركة فقبلت فورا. قدرنا ثمنها بمليون مليم تونسي و كل واحد ساهم بربع مليون. بقيت البطاقة الرمادية باسمي. حرّرنا شفويا في شأنها كراس الشروط التالية: إصلاح العطب مشترك أيا كان المتسبب فيه و مهما كان مكان التعطل في تونس أو في الجزائر. ثمن البنزين مشترك في حدود شعاع 50 كلم من مدينة جامعة و لو تباعدت المسافة يتحمل السائق مقابل الوقود الزائد المستهلك. تبيت السيارة أمام منزلي أنا مهما كان توقيت رجوع المسافر و تنطلق من أمامه مهما كانت ساعة الانطلاق. إذا رغب أحدنا في فض الشركة, يقبض مائة دينار تونسي بعد بيع السيارة في التوقيت الذي يحدده الباقون. تدرب عليها لنيل رخصة السياقة أربعة تونسيون, زوجتي و زميلي و زوجة زميلي و زميلتنا حتى تقطعت أوصالها و هرمت. حسدنا المصريون على اشتراكيتنا و تفاهمنا و قد كانت تجربة فريدة في التاريخ و لو نسج على منوالنا الكثير من الموظفين في العاصمة التونسية القادمين إلى العمل من الأحواز  لوفرنا الكثير من الطاقة و حمينا بيئة عاصمتنا من التلوث و طبقنا التنمية المستديمة. يذهب الموظف التونسي الفقير في بلد العالم الثالث إلى عمله البيروقراطي غير المنتج في أغلب الأحيان و هو راكب عربة تجرّها 4 أحصنة ( voiture populaire de 4 chevaux ) و هو في الواقع حصان واحد خسارة فيه. لماذا لا يتفق 4 أو 5 موظفين جيران, مثلا من حمام الشط و يشتغلون في العاصمة بالتوقيت الإداري, على  استغلال سيارة أحدهم  أسبوع " أ" و سيارة آخر أسبوع "ب" فيربحون راحتهم و يوفرون ثمن البنزين و يتجاذبون أطراف الحديث في الطريق حول الكرة و المسلسل التركي و تنازلات عباس و عنتريات أردوقان الفارغة و وعود أوباما بتحرير فلسطين و المقاومة الافتراضية التي يقوم بها يوميا حزب الله و حماس و الجبهة الشعبية و يناقشون وضع العمال المصريين  المسجونين في السعودية الذين بلغ عددهم تقريبا  12 ألف و هو عدد يساوي أو يفوق حسب بعض الإحصائيات عدد السجناء الفلسطينيين في إسرائيل و يجيبون على نكستي و هزيمتي و حيرتي و سؤالي: هل نحرّر السجناء المصريين في السعودية أولا أو الفلسطينيين في إسرائيل أولا؟ و هل نلجأ في تحريرهم إلى الجامعة العربية أم مجلس الأمن أم المؤتمر الإسلامي أم المقاومة الافتراضية؟

حملت زوجتي و ولدت في الجزائر بنتا مثل القمر, سميتها عبير من عبير الجنة. دخلت زوجتي المستشفى في مدينة جامعة و لم يطلبوها لا في دفتر علاج و لا في جواز سفر و لا في بطاقة تعريف. سألوها عن اسمها فقط. ولّدها في ظروف طيبة طبيب مصري متعاون و كفء. لم أدفع مليما واحدا لا في الدخول و لا في الخروج و هذه تعد من مكاسب الاشتراكية التي أتمسك بها و تخلت عنها مع الأسف المر و الشديد الدولة الجزائرية و اتبعت نصائح البنك الدولي مثلها مثل كل أخواتها التابعات المطيعات المهذبات في تعاملهم مع صندوق النهب الدولي و المخربشات النمرات القامعات النافيات لكل الحريات و الكامتات لكل الأصوات و المانعات لكل التجمعات و المحبطات المثنيات لكل آمال الشعب العربي الكريم و طموحه. كريم في سخائه و عطائه و تمسكنه و استقالته و تسليمه السلطة لمدة 14 قرنا لأسياده و احتفاظه بالألقاب الرنانة الفارغة كالشعب العظيم  و الشعب الكريم و نموت نموت و يحيا الوطن. إذا مات المواطن فبمن و لمن سيحيا الوطن يا ترى؟

تمت دعوتي مرة إلى مديرية الأمن ببسكرة  لاستخراج بطاقة الرعايا الأجانب لزوجتي الوافدة الجديدة و احتطت للمناسبة و حملت معي كل الأوراق اللازمة و قدمتها للموظف فتمعّن فيها جيدا و قال لي: ملفك تنقصه ورقة مهمة. قلت: ما هي؟ قال: شهادة معرّفة الإمضاء تشهد فيها أنك تطعم و تسكّن زوجتك معك. قلت متعجّبا: و هل يعقل أن تأكل زوجتي و تبيت عند الجيران؟ أجابني بغلظة وحزم: نحن نطبق القانون. كتبت الشهادة الغريبة و ذهبت إلى البلدية طالبا التعريف بالإمضاء فضحكوا عليّ, لكن ختموا عليها بسبعة أختام و حملتها إلى المركز و رجعت بزوجتي أطعمها و اسكّنها بشهادة ضابط أمن جزائري ثان غبي.

كان أهل مدينة جامعة كرماء معنا و أذكر منهم خاصة مدير الدائرة الحزبية الذي كان يدعونا لوجه الله كل أسبوع إلى وليمة عربية فاخرة في منزله دون أن ينتظر منا لا جزاء و لا شكورا. بعد عودتي بسنوات سمعت أنه أصبح نائبا في مجلس النواب و سمعت أيضا أن  مصباحا كهربائيا انفجر في وجهه صدفة في بهو المجلس ففقد بصره و مات بعد سنة تقريبا. رحمة الله عليه و جازاه الله خيرا على كرمه الحاتمي الجزائري و يا ليت مسؤولينا يفعلون مثله مع ضيوفنا الأساتذة الأجانب.

كنت بين جيراني الأساتذة السوافى نسبة إلى واد سوف كالسمكة في الماء و صدّقت بالفعل أننا شعب واحد, أعني السوافى و النفاوزة نسبة إلى نفزاوة. لهجتنا واحدة و تقاليدنا مشتركة و تمورنا متشابهة كلون قشرتنا.

كان زمن بن جديد زمن الوفرة و الأمن و الأمان. كنا نشتري السكر بالكيس و بسكويت القوفرات بالكرتون. كانت البقول رخيصة و الخضر و الفواكه متوفرة في السوق و السمك المثلج المستورد معروضا بأثمان بخسة في المغازة الكبرى (  Les galeries). أما "الموز بالصندوق" فلم أره و لم أشتره إلا مرة واحدة في الثماني سنوات التي قضيتها في الجزائر و كانت "شبعة موزية" فريدة من نوعها. وزّعوه علينا في المدرسة حسب الاختصاص و ما دمت من العلوم و هي أقرب للموز من الرياضيات فقد كانت حصتي أكبر حصة. الحمد لله, اليوم 2010, أشتري 5 موزات كل أسبوع على عدد أفراد العائلة و موزة واحدة في الأسبوع خير من تخمة واحدة في ثماني سنوات.

مدينة المرّارة مدينة صغيرة تقع قرب مدينة جامعة, تنازع أهلها مرة حول تقسيم الأراضي بين العروش و القبائل و لم يكن لدى البلدية و لا الولاية و لا الرئاسة أي مثال هندسي ينظم عملية التقسيم. فكّر المجلس البلدي المحلي في حل النزاع و دون المرور بالتسلسل الإداري الجزائري, راسل مباشرة الدولة الفرنسية, المستعمر القديم, طالبا مثالا هندسيا يحدد ملكية كل قبيلة و حدودها. أمدته السلط الفرنسية مشكورة بخريطة مفصلة لكل الأراضي ببلدية المرّارة. أصدر الوالي الجزائري قرارا بحل المجلس البلدي بالمرارة عقابا له على الاستقواء و الاستنجاد بالأجنبي لحل نزاع وطني.

نصّبوا مجلسا بلديا جديدا بالمرّارة و جاء الرئيس بن جديد لزيارة المرّارة لتأكيد حضور الدولة الجزائرية. اعترضت المجلس البلدي الجديد معضلة جديدة, ألا و هي و جود آليات ضخمة و طويلة على جنب الطريق الذي سيمر منه ركب الرئيس الوطني و هي بقايا مهملة لمشروع فاشل للتنقيب على المياه. تتطلب إزالتها ميزانية ضخمة قد ترهق المجلس الفتي لكن إمكانية مشاهدتها من طرف الرئيس عند مروره قد تعرّض المجلس البلدي الجديد إلى مساءلة قانونية. فكر المجلس الموقر مليا في حل وطني و لم يلجأ هذه المرة إلى المستعمر الفرنسي و استنبط حلا وطنيا خالصا يتمثل في ردم كل الآليات التي تقدر بالملايين تحت الرمال حتى لا يراها الرئيس و مر الرئيس بسلام و دفنت أموال الشعب تحت الرمال و ما زالت إلى الآن رائحة البيروقراطية النتنة تنبعث من مقبرة المشاريع الكبرى و تزكم الأنوف.

يوم 16 جوان 1988, ولد ابني الثاني في مدينة جامعة في المستشفى في ظروف طبية طيبة و مجانية مثل ولادة ابنتي الأولى عبير. ذهبت إلى مقر البلدية لتسجيله و قد اخترنا له, أنا و أمه, اسم "نادر". سألني الكاتب عن الاسم فقلت "نادر". أجابني: هذا الاسم ليس موجودا في كتاب الأسماء و ليس عربيا فلا نسجله و من الأفضل لك و بسرعة اختيار اسم آخر. لم أصدق ما سمعت و رمى لي بكتاب الأسماء. قرأته و تفحصته فلم أجد "نادر" و لكن وجدت فيه أسماء عربية و أخرى تركية أو فارسية مثل "بهجة" و شوكة" و "دنيا زاد" و "شهرزاد". حاولت إقناعه بأنني لست جزائريا و من حقي اختيار الاسم حسب القانون التونسي و ليس حسب كتابكم غير المنزل. أجابني بلغة البيروقراطي الذي ليس له أدنى استعداد للتفاهم: أنت لست أجنبيا, أنت عربي. قلت له مستغربا: كيف لا نجد في كتابكم  نادر و هي كلمة عربية مشتقة من فعل ندر و نقول ندر الشيء أيّ قل وجوده. ردّ عليّ مغتاظا: أتريد أن تسجل ابنك أو تتركه في المستشفى دون اسم. استعذت من الشيطان الرجيم و نظرت من النافذة الشفافة و كان المطر ينزل في الصيف فأوحى الطقس إلى ذهني اسم "غيث" فقال لي: موجود في الكتاب. خرجت فرحا بابني, نادرا كان أم غيثا و بعد أربعة عشر سنة قدم ابني الثالث و كنت في تونس و أسميته "نادر" و ثأرت لنفسي من العبد المأمور كاتب البلدية الجزائري المغمور.

عند نهاية عقدي في 88 ذهبت إلى فرنسا و اشتريت سيارة مستعملة. رجعت إلى مدينة جامعة و جمعت أمتعتي و غادرت الجزائر نهائيا متأسفا على العشرة الطيبة و الأخلاق الكريمة لأهل الجنوب الجزائري. و في صباح يوم 15 جويلية 1988 انطلقت عائدا إلى تونس بسيارتين, المشتركة و الجديدة. تعطلت كثيرا في ديوانة الجزائر لتعقد الإجراءات البيروقراطية و وصلت إلى الديوانة التونسية حوالي العاشرة ليلا. قالوا لي: لن تدخل تونس اليوم لأن التصريح بجلب سيارتين يتطلب موافقة رئيس المركز و هو غير موجود الآن في العمل و عليك انتظاره حتى صباح الغد لتسوية وضعيتك. قلت: و إذا أدخلت سيارة واحدة فقط؟ قالوا: في هذه الحالة نصرح لك بالدخول فورا. مهما رويت لكم لن تصدقوا حرق الأعصاب و المعاناة الرهيبة و المعاملة السيئة و الإهانات غير المباشرة و التجاهل و الاحتقار الذي نتعرض له في الحدود من قبل الشرطة و الديوانة الجزائرية, والله الإسرائيليون أرحم منهم حتى و لو لم أجرّبهم. أما الشرطة و الديوانة التونسية فأقل حدة و ألطف معاملة و هي موجودة في مدينة حزوة حيث تتواجد كل المرافق الضرورية تقريبا. سلّمت مفاتيح السيارة المستهلكة و أوراقها إلى الديواني التونسي و قلت له بالحرف الواحد: إن رجعت إليك أو رأيت وجهي بعد اليوم فافعل بي ما شئت. و هذا ما وقع فعلا و بعد شهور من عودتي و استقراري بحمام الشط بتونس, هاتفني صديقي و زميلي في الجزائر سابقا و المستقر وقتها بتوزر و شريكي في السيارة الاشتراكية طالبا توكيلا في السيارة حتى ينتزعها من أعوان الديوانة  الذين أصبحوا يستعملونها دون وجه حق و هي تعتبر ملكا خاصا محجوزا. أرسلت له ما طلب و أخذها من الديوانة و باعها إلى عم محمد التونسي بائع ألفطائر المقلية بمدينة جامعة بالجزائر و لم يقبض ثمنها حتى اليوم بعد 22 سنة. أرجوكم, لا تشكّوا لحظة في ذمّة عم محمد فهو أشرف من الشرف و الغائب حجته معه و يكفينا ثمنا, الفطائر و الولائم التي أكلناها في حانوت و منزل عم محمد. ثمن السيارة 400 ألف جزائرية يقابلها في السوق السوداء في ذلك الوقت 100 دينار تونسي.

عندما أعود في عطلة الصيف إلى مسقط رأسي قرية "جمنة" بالجنوب الغربي التونسي, كان يصلني راتبي 700 دينار تونسي في الشهر و كنت أقول مستمتعا و ساخرا: هل جنّت الدولة الجزائرية حتى تمنحني راتبا أكثر من راتب عضو في مجلس النواب التونسي و أنا أحتسي الشاي الأحمر فوق كثبان الرمال الصحراوية.

قضيت في الجزائر ثماني سنوات وفّرت فيهم مالا أقمت بواسطته منزلا متواضعا بحمام الشط حيث اقطن منذ عشرين سنة.
عشت بينهم كل هذه المدة معززا مدللا مكرما مهابا و أعطيتهم من جهدي كل ما استطيع و مثلت بلدي أحسن من السفراء و ما زالت إلى الآن تربطني ببعضهم علاقات تزاور و ود و احترام متبادل و السلام على من قرأني و صبر عليّ إلى الآخر.

ملاحظة
أمضي مقالاتي دائما بصفة مواطن العالم لأنني بالفعل أحمل بطاقة تعريف مواطن العالم عدد 185608 الصادرة في 30/11/2007 بباريس من التسجيل الدولي لمواطني العالم
[ 66, boulevard Vincent Auriol FR 75013 PARIS. France. ]
هذه البطاقة هي بمثابة اعتراف علني بواجب مدني عالمي نحو الإنسانية دون تمييز جنسي أو عرقي أو قومي أو ديني أو حضاري و هي صرخة أممية أخلاقية في وجه النظام العالمي الجديد الظالم الذي أصبح لا معقولا و عبثيا و انتمائي العالمي يكمّل و يجمّل و لا يتعارض تماما مع انتمائي لبلدي تونس

إمضاء م. ع. د. م. ك
لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire