mardi 17 juillet 2018

طَرحٌ ضد التيّار! فكرة فيلسوف حمام الشط حبيب بن حميدة، تأثيث مواطن العالَم



ملاحظة موجهة للقرّاء عُشّاق الفكر الحر: الفكرة، قائلُها وناقلُها لا يتبنّيانها مائة في المائة، بل يطرحانها كأرضية للنقاش أو كفَرَضية للإثبات أو النفي، ولا هدف لهما البتة من وراء إثباتها أو نفيها
 (Deux vieux penseurs déconnectés du politique et complètement désintéressés).

فحوى الفكرة: منوالُ التنميةِ الاقتصاديِّ الغربيِّ السائدِ والمعاصرِ هو منوالٌ عقلانيٌّ، ناجعٌ وأمميٌّ بامتيازٍ، لكنه غير عادلٍ وغير أخلاقيٍّ بالمرّة، ملائمٌ وواعدٌ للأقلية الثرية وفي الوقت نفسه ظالِمٌ ومُحبِطٌ للأغلبية الفقيرة. منوالٌ يستثمرُ في البُنى التحتية (صناعة، فلاحة، طرقات، نقل، بناء، بحث علمي، إلخ) ولا يهتم كثيرًا بالبُنى الفوقية (ثقافة، دين، عدالة اجتماعية، مساواة، طبيعة النظام السياسي، حرية التعبير، حقوق المرأة، حقوق الأقليات، المثلية الجنسية، إلخ). منوالٌ يرى أن تحقيقَ الأولى شرطٌ ضروريٌّ لتحقيقِ الثانيةِ وليس العكسَ.

أسوقُ أمثلة للتوضيح موجهة لغير المختصين في الفلسفة أمثالي، ولو أن الفيلسوف لا يحبّذ اختزال الفكرة في أمثلة قد تشوّهها إذا لم نُحسنْ اختيارَها بِحذرٍ منهجيٍّ شديدٍ. سأحاولُ:
1.     عبد الناصر استثمر في تغيير البنى الفوقية (قومية، وحدة، عروبة، عدالة اجتماعية، علمانية، إلخ.) ولم يستثمر في البنى التحتية (تصنيع، بحث علمي، تحقيق الاكتفاء الذاتي، إلخ.). زميله وصديقه نهرو فعل العكس، خطط للاكتفاء الذاتي والقنبلة الذرية ووصل. فشل عبد الناصر ولم يحقق أي هدفٍ من أهدافه الفوقية  أما التحتية فحدّث ولا حرج (السد العالي كان استثناءً وخطافٌ واحدٌ لا يصنع الربيع).
2.     جاءت بعده "الصحوة" الإسلامية، اهتمت بالأخلاق واللباس أكثر ممّا اهتمّت بالتصنيع والبحث العلمي، والنتيجة ظاهرة للعيان ولا تستحق مني أي تعليقٍ.
3.     ستالين الشيوعي شيّد البنى التحتية وهَدَمَ البنى الفوقية مؤمنًا بالمقولة الماركسية "تغيير التحتية سوف يغيّر حتمًا الفوقية". كذبت نبوءته لكنه ورغم ديكتاتوريته مع الجيل السابق فقد ترك أرضيةً صلبةً للبناء، استفاد منها الجيل الذي جاء بعده بقيادة الديكتاتور الليبرالي بوتين.
4.     "هون سان"، الوزير الأول، يحكم كمبوديا منذ 33 عامًا، حلّ الحزب المعارِض ويحلم بتنصيب نفسه ملكًا. هذا لم يمنع كمبوديا من تحقيق نموٍّ بـ7 % سنويًّا خلال العشرية الأخيرة. حصل النمو بفضل تطبيق منوالِ التنميةِ الاستغلالي العقلاني.
5.     الصين الناهضة، بلدٌ شيوعيٌّ عادلٌ وغير طبقيٍّ فوقيًّا ورأسماليٌّ  استغلاليٌّ طبقيٌّ تحتيًّا. حزبها الشيوعي يُصَلِّي لماركس ويبشّرُ بجنّةٍ هم فيها في العيش السرير، وعمّالُها تحت نَيْر الرأسمالية يَصْلَونَ السعيرَ.
6.     عقلي يطمح لحث كل الدول العربية على تبني  منوالِ التنميةِ الاقتصاديِّ الغربيِّ السائدِ والمعاصرِ، وقلبي يحثهم على العكس ويتمنى لقومه منوالاً وسطَا مثل منوال الدول الأسكندنافية أو أفضل منه كثيرًا، وهو منوال الاقتصاد الاجتماعي التضامني - النوعي - المطبّق منذ الثورة بمسقط رأسي جمنة (العمال فيه أجراء وليسوا شركاء، والمردود المالي كله يُصرَف في المصلحة العامة). لا أعرف، هل أغبط البلدان التي انخرطت في العولمة أم أرثي لحالها، بلدان مثل كوريا الجنوبية، ماليزيا، أثيوبيا، رواندا وغيرها من الدول التي كانت أفقر منا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. والله أنا حائرٌ في أمري، أيهما أختار: التنمية الاستغلالية العقلانية الناجعة أو العدالة الاجتماعية غير الناجعة في البناء؟ تراكم رأس المال، الشرط الأساسي للتنمية، لا يمكن أن يتحقق في ظل نظام عادل اجتماعيًّا. ما الحل إذن؟ أنا مثلكم أسأل، ومَن أنا حتى أملك جوابًا واضحًا لمسألةٍ معقدةٍ مثل هذه المسألة؟ النقد فردي والبناء جماعي.
7.     تجربة جمنة، لا أعرف هل أعيب عليها إنجازَها لمشاريع اجتماعية غير رِبحية (قاعة رياضة، سيارة إسعاف، مشاريع خيرية) أو أشكرها على صنيعها الإنساني؟ لو طبقت العقلانية الرأسمالية الاستغلالية الخالية من العواطف لراكمت ثروة وشيّدت بأرباحها مصنعًا للتمور ومركزَ بحثٍ في علوم زراعة النخيل،  مصنعًا قد يدرّ عليها أرباحًا كبيرة تقدر أن تبني بها عوض القاعة قاعتين وتشتري عوض السيارة سيارتين وتشغّل عوض العامل الواحد عشرين عاملاً. في الآخر أقول "المتفرّجُ فارسٌ" و"أهلُ مكةَ أدرَى بِشِعابِها"، أعني بهم أعضاء جمعية حماية واحات جمنة وسكان جمنة. لهم مني ألف تحية، وليتسع صدرهم لتطفلي الناتج عن إفراطٍ في الحب وجنونٍ في العقل.

إمضائي
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأربعاء 18 جويلية 2018.




أُقدّمُ نفسي لِقُرّائي؟ مواطن العالَم



"مواطن العالَم د. محمد كشكار، أستاذ تعليم ثانوي  متقاعد: قد يكون " التشاؤم هو شكل أقصى من النّقد" لكنني سأبقى دومًا متفائلاً، وذلك لسببينِ اثنينِ لا ثالث لهما الآن: الأول: يتجدّد الإنسان بيولوجيًّا عند كل وِلادةٍ ويأتي للحياةِ قابلاً للتشكّلِ من جديدٍ مع التأكيد - ورغم براءة الرضيع - أنه ليس صفحةً بيضاءَ، فله موروثٌ جينِي نسبيّا وجزئيّا محدّدٌ لشخصيته المستقبلية بالتفاعل مع محيطه ومكتسباته، وله اسمٌ ووالدانِ ودينٌ وثقافةٌ وبلدٌ ولونُ بشرةٍ وجنسٌ ومناخٌ ومستوى اجتماعِي، إلخ. الثاني: أومن بمفهوم الانبثاق 
(L`émergence)
 الذي علمني عدمَ الرضوخِ للواقع مهما كان هذا الواقعُ تعيسًا، وما أحلامُ اليومِ إلا حقائقُ الغدِ وانبثاقُ تجربةِ جمنة في تونس أحسن تبريرٍ وجيهٍ لتفاؤلِي بالمستقبلِ الواعدِ دومًا رغم ما يرافق ولادة هذه التجربة من آلامِ المَخاضِ و"ربي يخلص وحَلْها عن قريب".

عندما يقدِّم المثقفُ نفسَه إلى الغيرِ، يحاول عادة تجميلَها وإن كان موضوعيًّا فقد يحاول إبرازَ التجارب الناجحة فيها، ويرنو في داخله إلى إبهارِ غيره وافتكاكِ إعجابِ هذا الأخير  واعترافه به مثقفًا. أما أنا فلا أملِك في حياتي إلا التجاربَ الفاشلةَ أعرضها للتفكيرِ والعِبرةِ وعدم الوقوعِ في نفسِ الخطأ، فمن حسن حظي إذن أنني لن أبهرَ المتلقِّي ولا أرغبُ في ذلك وليست لي القدرةُ على ذلك حتى ولو طمعتُ في ذلك، ليس تواضعًا مجمِّلا لشخصيتي بل اقتناعًا ديداكتيكيًّا منِّي بتجنبِ خلقِ عائقٍ جديد لدي سامِعِي، وما خُلِقتْ الديداكتيكْ (فلسفة التعلّم) إلا لإزالةِ العوائقِ وليس لخلقَها.

سيرةٌ ذاتيةٌ فاشلةٌ لا يُحتذَى بها على الإطلاق وعلى كل المستويات، الدراسي والعلمي والاجتماعي والسياسي والثقافي:
-         مسارٌ دراسيٌّ متعثِّرٌ ومُمَطَّطٌ: في سن 22 تخرجتُ أستاذ إعدادي (ENPA, Tunis, 1974, CAPES sans Bac)، في سن 28 باكالوريا جزائرية (Annaba, 1980)، في سن 30 عام فلسفة في فرنسا بالمراسلة (Université de Reims, France, 1983) تُوِّجَ بالفشلِ جرّاءَ كُلفةِ التنقل المالية لإجراء الامتحانَيْنِ، الكتابي والشفاهي، المتباعدينِ زمنيًّا، والتي لم أقدر على مواجهتِها، في سن 41 الأستاذية في علوم الحياة والأرض (ISEFC, Tunis, 1993)، في سن 48 ديبلوم الدراسات المعمقة في ديداكتيك البيولوجيا (ISEFC, Tunis, 2000)، في سن 55 دكتورا في ديداكتيك البيولوجيا (UCBL1, France, 2007).
-         مسارٌ علميٌّ مَبتورٌ: لِمَن لا يعلم، أقول أن شهادة الدكتورا  لا تمثل قِمَّةَ العلمِ في الاختصاص بل هي تمثل بطاقة دخول إلى مجال البحث العلمي. أنا تحصلتُ على بطاقة دخول وكالتلميذ المتنطع خرجتُ من الجامعة ولم ألتحق بقاعة المخبر.
-         مسارٌ اجتماعيٌّ بدأ بالفقر، أي موظف عمومي متوسط، وانتهى بالفقر، أستاذ تعليم ثانوي متقاعد.
-         مسارٌ سياسيٌّ على هامش النضال السياسي، أعتبر نفسي معارضًا في عهد بورڤيبة وبن علي لكنني لم أنتمِ في حياتي لأي حزبٍ معارِضٍ، خوفٌ مُشرَّبٌ باستقلاليةٍ فكريةٍ صادقةٍ، وكما قال القِدّيسُ أو الروح العظيمة، المهاتما غاندي: "لو أجبِرتُ على الاختيارِ بين العُنفِ والجُبنِ، لَنصحتُ باختيارِ العُنفِ".
-         مسارٌ ثقافيٌّ: المجالات الثقافية التي أجهلها تُعدّ بالعشرات ولا أعرف إلا مجالاً واحدًا أحدًا وهو علوم التربية، وداخل هذه العلوم لا أعرف إلا علمًا واحدًا أحدًا هو علم الديداكتيك، وداخل هذا العلم لا أعرف إلا فرعًا واحدًا أحدًا هو ديداكتيك البيولوجيا. أجهل اللغة الأنڤليزية، وعدم إتقانها هو بمثابة فقر دم الثقافة. أجهل الفلسفة ما عدى فلسفة البيولوجيا. أجهل علوم الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ والفقه، إلخ. لم أربِّ أذنِي ولا عينِي، ولم أصقل ذوقي على سماع السمفونيات أو الشعر ولا على الاستمتاع باللوحات الفنية. أنا رجلُ فكرٍ ولستُ رجلَ سياسة ولا طموحَ لي ولا رغبة إلا في القراءة والكتابة والنشر بكل متعة وحريةٍ واستقلاليةٍ وأنانيةٍ وذاتيةٍ وفرديةٍ، ولا أقدر على غير ذلك.
-         أنا صوفِي النزعة بمقياس القرن 21 ولا أرى لأفكاري أي تأثيرٍ على المجتمع إلا مَن رَحِمَ ربي. أنا أعشق الروتين الذي أعيش فيه وأسعد به في حمام الشط: صباحًا مطالعة في مقهى الشيحي، مساءً نقاشٌ فلسفي في مقهى أمازونيا مع أفضل أستاذ فلسفة صاحبته في حياتي، زميل التقاعد الجديد حبيب بن حميدة، وبين المقهَيَيْنِ كتابةٌ ونشرٌ وتمتعٌ واستمتاعٌ بأعز الناس، مثل الفلاسفة الثلاثة إدڤار موران وميشيل سارْ وميشيل أونفري والعالِمان السياسيان فرانسوا بورڤات وجورج قرم وعالِم الوراثة ألبير جاكار وغيرهم كثير في اليوتوب "الله يرحم والديه"، وفي الليل أرضخُ لذوق زوجتي المصون وألغِي عقلي وأستسلم لأتفه الناس في برامج "لباس" و"كلام الناس" و"أمور جدية" وما شابه.
-         لقد تجنبتُ قصدًا تقمّصَ دورَ الضحية (Le syndrome de victimisation) واكتفيتُ بسردِ سيرتي الذاتية دون زيادةٍ أو نقصانٍ، لأن كل ضحية ليست عادة بريئة مائة في المائة كما تدعي هي، أو كما قد يتبادر إلى أذهانِ المتعاطفين معها، ولأن داخل كل ضحيةٍ كبيرةٍ يوجد جلادٌ صغيرٌ، أو بمعنى أوضح أنا أتحمل جزئيًّا ونسبيًّا المسؤولية في ما أحاق بي من فشلٍ طِوالَ مسيرتي في الحياة.

إمضائي: "وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر" (جبران)"

المصدر: نَصُّ قَفَا غلاف كتابي الأخير "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي، سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956 - 2016)".



lundi 16 juillet 2018

مجال اهتمامي وانشغالي بعد التقاعد؟ مواطن العالَم



تخيلوني في غرفتي بحمام الشط، جالسا أمام شاشة حاسوبي "العظيم"، متقشفا، زاهدا أو محروما من  الشهوات المادية، الحلال منها والحرام. أكرّس الزمن القليل الذي تبقى لي من حياتي الفاشلة للقيام بمهمة واحدة وهي التالية: المطالعة والكتابة والنشر لتقديم وجهة نظر مغايرة ومخالفة لما هو سائد بهدف محاولة محاربة التصورات غير العلمية وتعويضها قدر المستطاع بتصورات علمية حتى أساهم مساهمة ولو متواضعة في تبديد ظلمات الجهل والتعصب والانحطاط المنتشرة داخل مجتمعي التونسي.
أستعير كل الكتب التي أقرأها من الأصدقاء والزملاء أو من المكتبة العمومية البسيطة بحمام الشط. لا يوجد في حياتي أي حدث آخر غير الحدث الثقافي أو الفكري. كنتُ وما زلتُ أقرأ، أكتب، أنشر وأناقش. بعض الأحيان، أناقش الحجر إن لم أجد أمامي البشر. أجد في المطالعة والكتابة والنشر والنقاش متعة ذهنية رائعة لا تضاهيها أي متعة حسية، متعة تفوق حسب اعتقادي المتعة التي يجدها الآخرون في اللهو والأكل والشرب. تغلبتْ لديّ الشهوة المعرفية على الشهوة المادية  عكس ما يدّعي فرويد. أريد أن أعرف كل شيء لكي أنقد كل شيء.

في الواقع أنا مجروح في العمق بسبب حرماني من التدريس بالجامعة، وصلتُ متأخرًا، دكتورا في الخامسة والخمسين. وهذا الجرح هو الذي دفعني لكي أشتغل بالفكر، وأكرّس حياتي كلها للاشتغال بالفكر العلمي والنقد ومحاولة تغيير الفكر غير العلمي. أريد أن أنتقم من واقع متخلف قاهر وظالم، لا ناقة لي في انتصابِه ولا جمل، واقعٌ مجرمٌ يفرض نفسه عليّ بالقوة دون أن يترك لي حرية الاختيار.
أعتبر مقالاتي، قنابل فكرية موقوتة تريد أن تدمّر الأساسات غير العلمية التي بُني عليها هذا الواقع. ولهذا السبب دخلتُ في صراع مع كل الجهات وليس فقط مع جهة واحدة: نقدت على حد سواء، الرأسماليين والليبراليين واليساريين والقوميين والإسلاميين والسلفيين والمسلمين واليهود والمسيحيين. أقصاني اليساريون المتعصبون من دائرة نشاطهم السري سابقًا والعلني اليوم، كرهني القوميون ولم يغفروا لي تطاولي على عبد الناصر وصدام، أما المتعاطفون مع حزب النهضة فبعضهم لم يقبل نقدي بصدر رحب. لا أعرف ماذا أفعل؟ أسكت، أصمت، أموت غيظا وكمدا أم أصرخ، أنفجر، أتشظّى كالقنبلة العنقودية الفكرية؟

عزلوني أولاد الحرام ثم أقصوني - الله يسامحهم، أقصد الله لا يسامحهم -، ضيّقوا عليّ  الخناق و لم يتركوا لي مجالا أنشط فيه بحرية مطلقة إلا مجال العالم الافتراضي، أبحِر في لُجِّهِ كما أشاء دون قيد أو شرط قد يحدّانِ من حريتي المطلقة في التعبير. رحم الله أساتذتي من الفلاسفة والعلماء غير المسلمين وشملهم الله بعفوه رغم عدم إسلامهم وأدخلهم فراديس جنانه قبل المسلمين المعاصرين لِمَا قدّموه للإنسانية جمعاء من خدمات جليلة لا تُحصى ولا تُعدّ،  والله وحده علاّم القلوب وهو غفور رحيم بعباده المسلمين والمسيحيين واليهود والبهائيين واللاأدريين والكفار والملحدين والناس أجمعين، آمين يا رب العالمين.


أنقلُ لكم حوارًا داخليًّا خياليًّا جَرَى بين محمد كشكار الشاب الماركسي ومحمد كشكار المتقاعد اليساري غير الماركسي حول إشكاليةِ "هل الدين مسألة شخصية أو اجتماعية؟". مواطن العالَم



ملاحظة منهجية: لم أسمحْ لهما باستخدام العنف المادي ولا اللفظي ولا الرمزي، وبما أن الاثنين علمانيّان فلم أقبل منها في النقاش إلا الحجج العقلانية
Normalement c`est un débat dépassé dans les cercles intellectuels mais avec les marxistes récalcitrants, rien n`est dépassé. Qui est mieux placé que soi-même pour connaitre soi-même
الحوار:
الشاب: الدينُ مسألةٌ شخصيةٌ بامتيازٍ وهي علاقةٌ عموديةٌ مباشرةٌ بين "الخالقِ" والمخلوقِ ولا دخلَ للمجتمعِ فيما هو ذاتِيٍّ.
المتقاعد: قبل نقاش مسألة الدين، أودُّ أن أعلقَ لغويًّا وعلميًّا على عبارة "مسألة شخصية". أولاً، جينيًّا الفردُ نفسُه ليس فردًا  (L`individu est un “dividu”: 23 chromosomes x 2)، خُلِق من خليتََين (بويضة + حيوان منوي) قَدِمَتا من شخصَين مختلفَين (أب + أم). ثانيًا، بيولوجيًّا ومنذ تصميمِه (sa conception) والفردُ يتفاعلُ مع محيطه، داخلَ الرحمِ وخارجِه، فهو إذن انبثاقٌ (émergence) ناتِجٌ عن تفاعلاتٍ (interactions) بينه وبين المجتمعِ (أمه، أبوه، أخوه، معلمه، حيّه، لغة قومه ودينهم وعاداتهم، إلخ. هل اختارهم بصفة شخصية؟) فهو إذن مخلوقٌ اجتماعيٌّ من أخْمَصِ قدمَيه إلى أعلى رأسِه. حتى وعيُه الشخصيُّ أيضًا
(sa conscience individuelle)   
لا يمكن أن يتكون بمعزلٍ عن الوعيِ الجمعيِّ
(la conscience générale).  
جيناته الثلاثون الألف أيضًا تتفاعل مع المحيطِ لتُفرزَ مَلكاتَه الذهنيةَ. فماذا بقي فيه من شخصِيٍّ إذن؟
الشاب: أرجوك، ارجع إلى مسألة الدين ولا تراوغ بتوظيف عِلمك الذي تعلمته في الخمسينيات من عمرك بعدَما عِفتُ أنا جسدَك وغادرتُه هربًا من رطوبةِ المكتباتِ وتمرّدًا على قوالبِ البحثِ العلميِّ المتكلِّسةِ ونفورًا من حياةٍ بلا شهواتٍ، حياةٍ تسمّيها أنت متعةً فكريةً وأراها أنا "موتٌ يسبقُ الموتَ".
المتقاعد: لم أراوغ فجسدي لم يعد قادرًا على تَجاوزِ العوائقِ، العاليةِ منها والقصيرةِ، لذلك أصبحتُ أستعملُ عقلي لتذليلِها، تنحني إجلالاً لي، أمرُّ، ثم ترجع فتنتصبُ في وجهكَ سُدًّا مَنيعًا ولن تمرَّ إلا بسلطان العقل، يا مَن انطلتْ عليه مقولةُ "العقلُ السليمُ في الجسمِ السليمِ"، أتحدّاك أرِنِي رياضيًّا واحدًا يحمل عقلاً سليمًا، لا يعني هذا أن كل العليلينَ عباقرةٌ! الدينُ أتى أساسًا لتنظيمِ حياةِ المجتمعِ فهو إذن اجتماعيٌّ بالضرورةِ وإلا لماذا لم يكتفِ الرسولُ بحلِّ مشاكلِه الشخصيةِ وهي في الواقعِ محلولةٌ فمحمدُ كان محترَمًا في عشيرتِه. الصلاةُ جماعيةٌ حتى وإن تمّت فرديةً في البيتِ، فالمصلِّي يشاركُ الملايينَ في مضمونِها وتوقيتِها وقِبلتِها، الصومُ والحجُّ كذلك
يا بُنيْ، الدينُ علاقةٌ حميمةٌ عموديةٌ خاصةٌ مباشرةٌ مع الله كما قلتَ، لكنه في الوقتِ نفسِه علاقةٌ عموديةٌ تظهر تأثيراتُها في مجموعةٍ من العلاقاتِ الأفقيةِ بين البشرِ، فصِدقُ أفقيّتِها مع الناس أصدَقُ دليلٍ على صِدقِ عموديتِها مع الله.
الشاب: لا تقلْ لي يا بُنيْ! أنتَ ابنُ الماركسيةِ العاقُّ، تَنكّرتَ لِمَن ربّتْكَ! أنا لستُ ابنَكَ، وأنتَ أبٌ لا يُحتَذَى بهِ!المتقاعد: لنُرجِئَ النقاشَ إلى ما بعدَ الستينَ من عُمُرِكَ. برّا العقلُ يهديكَ.

إمضائي
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الاثنين 16 جويلية 2018.


dimanche 15 juillet 2018

لماذا أفضِّلُ الخطابَ التوافقيَّ على الخطابِ الصداميِّ؟ مواطن العالَم



خطابٌ توافقيٌّ غير صداميٍّ وغير عدوانيٍّ، أعتمده دائما في مقالاتي، إنتاجًا أو تأثيثًا، ليس تقية أو نفاقا ولا حتى مجاملة كما قد يتبادر إلى أذهان بعض القرّاء الصادقين النزهاء غير المتأدلجين، بل هو منهجية علمية تعلّمية درستها في المرحلة الثالثة تعلمية البيولوجيا في جامعة كلود برنار بليون 1 فرنسا. هذه المنهجية العلمية البيداغوجية تتلخّصُ في تجنّب الخطاب الجبهوي الصادم العدواني (Discours frontal agressif)، أتجنبه لأنه خطابٌ عقيمٌ لا يوصل المعلومة سليمة من الباث إلى المتلقي. أفضّل اعتماد منهجية "اعْمَلْ مع لتسِيرَ ضد" (Faire avec pour aller contre)، اعْمَلْ مع التصورات غير العلمية (الموروثة والموجودة فعلا في كل المجالات وفي كل الإيديولوجيات) لتسِيرَ ضد نفس هذه التصورات غير العلمية، إلا في المسألة الدينية، فالدينُ لا يقع تحت سلطان العلم، الإيمانُ نورٌ قذفه الله في القلب كما خَلُصَ إلى ذلك الفيلسوف القروسطي أبو حامد الغزالي، والإيمانُ أسمَى من العلم بكثيرٍ.

أفضِّلُ مرافقة المتلقي بأسلوب علمي بحت للوصول به ومعه إلى مرحلة البناء الذاتي-الاجتماعي لتصوراته العلمية بغض النظر عن الإيديولوجية والدين حتى يتجاوز تصوراته غير العلمية بكل حرية ودون ضغط، لا من الدين ولا من الأيديولوجية. هذه المنهجية تعتمد على نظرية "المدرسة البنائية" (Le constructivisme) للعالِم بياجي والتي طوّرها زميله فيڤوتسكي فأصبحت "المدرسة البنائية الاجتماعية" (Le socio-constructivisme).

نحن العربَ، مسلمي ومسيحيي القرن الحادي والعشرين، نتموضع معرفيًّا (Épistémologiquement) في الوقت الراهن في المنعطف التاريخي الذي تموضع فيه قبلنا الأوروبيون أي في الحد الفاصل بين العصور الوسطى وعصر النهضة (Époque étalée sur une période qui va du XIIe au XVIe). هذا تشخيصٌ أصبحتُ الآن شبه متأكدٍ منه بعد حوالي ثلاثين سنة من التيه والدوران والضياع الأيديولوجي، قضيتها في شك دائم ويقين مؤقت، قضيتها في قراءات متعددة ومتنوعة باللغة الفرنسية، جلها ماركسي وبعضها علمي بيولوجي أو وجودي أو قومي أو إسلامي. لذلك احتطتُ اليوم لنفسي وارتبطتُ منذ سنوات بمشروع النهضة العربية الإسلامية كتابة ونشرا، ثم نقلا أو تأثيثًا أو تعليقا على رواد النهضة الفكرية العربية الإسلامية من أمثال المفكرين العرب المسلمين النهضويين التنويريين القدماء والمعاصرين: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، الأمير عبد القادر الجزائري، أبو القاسم الشابي، الطاهر الحداد، طه حسين، جمال البنّا، نصر حامد أبو زيد، علي عبد الرازق، صادق جلال العظم، هاشم صالح، عبد الله العروي، محمد أركون، حسين مروة، علي حرب، محمد الشريف الفرجاني، عبد المجيد الشرفي، هشام جعيط، محمد الطالبي، آمال ڤرامي، محمد حداد وغيرهم. كان ذلك بمثابة المنقذ من غُربتي أو بالأحرى غُرباتي المتعدّدة: غُربة عن اللغة العربية، غُربة عن الأرض والتاريخ، غُربة عن التراث الأمازيغيي أوالعربي أو الإسلامي، غُربة عن مجتمعي التونسي، غُربة عن الأصالة والذات وهذه الأخيرة هي غُربة الغُرُبات.

أتعجّبُ، أسألُ، أناقشُ، أجتهدُ، أقرأُ، أكتبُ، أترجمُ، أنقلُ، أؤثِّثُ، أعلِّقُ، وأنشرُ يوميا في الفيسبوك، أفعل كل هذا، لا طمعًا في جاهٍ أو حبًّا في مالٍ أو منصبٍ، بل أقومُ بكل هذا من أجل متعتي الفكرية الخاصة الذاتية وما أروعها متعة، متعةٌ عظيمة لا يساويها أجرٌ مهما عَظُمَ، متعة حُرِم منها السياسيون والمنتمون والمتأدلجون المتعصبون والمثقفون المأجورون، مرتزقةُ السلطةِ.

إمضائي
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
"المثقف لا يجيد فعل شيء على الإطلاق، اللهم، إلا الإنتاج الرمزي، وإنتاج الأفكار و الكلمات. غبر أن هذه الأفكار تحتاج لما يجسدها لكي تصبح موجودة، لكي تصبح قادرة على تغيير الواقع، أي أنها تحتاج لحركات اجتماعية" جان زيغلر.

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأحد 10 جوان 2018.Haut du formulaire



كيف أفهم ديني؟ مواطن العالَم



في صدري آخر دين توحيدي في تاريخ البشرية. دين يشمل البشرية بأسرها وليس فقط المسلمين أو اليهود أو المسيحيين أو البهائيين. دين غير إقصائي وغير عنصري وغير متعصب. دين أتى برسالة للعالمين. دين أممي عالمي غير قومي وغير وطني وغير طائفي. أفهمه كدين للمحبة والتقى والورع والتسامح والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة البشرية. دين يحس بآلام الإنسان أيًّا كان دينه أو مذهبه أو طائفته أو عرقه أو جنسه أو جنسيته. دين لا يفرّق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. دين يعترف ويكرّم ويبجل ويحترم كل الأديان وكل الرسل وكل الأنبياء الذين سبقوه.
أفهم الدين كعلاقة حميمة عمودية خاصة مباشرة مع الله، علاقة عمودية تظهر تأثيراتها في مجموعةٍ من العلاقات الأفقية بين البشر،

فصِدقُ أفقيّتِها مع الناس أصدَقُ دليلٍ على صِدقِ عموديتِها مع الله.

وللأسف الشديد، لقد فهمه جل المسلمين كشعائر وطقوس خارجية يمارسها المسلم بشكل ميكانيكي أو آلي مُفرغ من كل معنى روحي أو تأثير أخلاقي على الشخص المسلم نفسه قبل غيره. قد يمارس بعض المسلمين جميع الطقوس بخشوع مشهدي وبكل مواظبة وانتظام، لا خوفًا من الله بل خوفًا من محاسبة المجتمع، والدليل أنهم هم هؤلاء أنفسهم الذين يغشّون في تجارتهم وأعمالهم أو يحقدون على جيرانهم لأنهم ليسوا من دينهم أو مذهبهم. ما نفعُ التديّن في مثل هذه الحالة؟ لقد فهموا الدين الإسلامي كطاعة سلبية وخضوع لعلماء الدين ودعاته. وقد استولى هؤلاء الأخيرين على العقيدة الإسلامية واستخدموها ووظفوها واستغلوها أسوأ استغلال لإشباع جشعهم ومآربهم ومآرب ملوكهم وأمرائهم ورؤسائهم. بل وحرّفوا المقاصد النبيلة للدين الإسلامي عن مسارها الصحيح، وقسّموا الناس إلى شيعة وسنّة وسلفية وإباضية، إلى حنفية وشافعية ومالكية وحنبلية، إلى إسلاميين وعَلمانيين، إلى أصوليين وحداثيين، إلى مذاهب إسلامية متناقضة متناحرة متباغضة متقاتلة، واستغلوا خشوع عامة المسلمين وميلهم للتقى والإحسان لكي يأخذوا منهم الصدقات والزكاة ويراكموا الأموال ويبنوا القصور أو يموّلوا الإرهاب في سوريا وليبيا والعراق. وهكذا شاع الشقاق والنفاق والحسد والغيرة والأحقاد في المجتمعات العربية والإسلامية مما وفّر أرضية خصبة لانتشار الحروب الأهلية في جل الدول العربية والإسلامية، ولم يبق من الدين الإسلامي إلا المظاهر الخارجية الفارغة من الإيمان، والأحكام المسبقة المتوارثة التي تُحوّل البشر إلى وحوش عن طريق الطائفية والمذهبية والتعصب والجهل والتزمت، وذلك لأنها تحرم المسلمين الأميين والمتعلمين غير المثقفين من استخدام عقولهم بشكل حر وتخنق فيهم شعلة العقل البشري والحيرة الأبدية، المصدَر الأول للمعرفة. العقل الذي ينبغي أن ننطلق منه لكي نؤسس مجتمعا آخر أكثر حرية وأكثر إنسانية.
إن القرآن يعلمنا أفضل القيم الأساسية الضرورية لسلوكنا اليومي في الحياة. إنه يعلمنا أن الله موجود، أيّاً كان تصورنا له، ويعلمنا أن الله يسهر على مصير البشر، كل البشر دون تمييز، يشملهم بعنايته ويأمرهم بأن يحبوا بعضهم بعضا. ألم يقل الرسول الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وهل وُجِد في التاريخ البشري تسامحٌ أكبر من هذا التسامحِ؟ فكيف حوّل بعض علماء الدين ودعاته رسالة محمد السمحة هذه إلى تعصب ودعوة للعنف وإكراه في الدين وملاحقة لكل عالِم أو مفكر أو مبدع أو فنان أو فيلسوف مسلم عَلماني؟ كيف حوّلوا الشيء إلى نقيضه وحرّفوا الدين عن مبادئه الأصلية السامية؟ في الواقع إن الدين بالنسبة لي هو المحبة والتسامح والحرية المطلقة والكرامة البشرية والعدالة الاجتماعية والمعاملة الحسنة والسلوك المستقيم أولا وأخيرا. وأما كل ما عدا ذلك فطقوس وشعائر تختلف من هذا المذهب إلى ذاك ولا تؤثر في الجوهر الطاهر الخالص. في نظري، هنالك جوهر للدين يراه مَن يخشى الواحد القهّار فقط، وهنالك قشور وقوالب خارجية يطبقها كثرة من خُشاة المجتمع وقلة من خُشاة الله والمجتمع، والمهم هو الجوهر لا القشور. المهم هو الرسالة الروحية التي علمنا إياها الرسول والتي تدعو أساسا إلى التقى والعمل الصالح. فليس بالحقيقة وحدها يحيا الإنسان، وإنما بالوهم والحلم والخطأ أيضا. وكما قال هاشم صالح: "ليس بالماديات وحدها يحيا الإنسان، على عكس ما علّمتنا الوضعية الاختزالية (Le positivisme réducteur)، أو الماركسوية الفجّة والكسيحة".
قال الرسول محمد، صلى الله عليه و سلم: "مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدَهُما". أي يتحمل القائل مسؤولية الكفر إن كانت التهمة باطلة، وهي في جميع الأحوال باطلة، لأن القائل لا يعلم ما في السرائر، فهو إذن متجنِّ حتى ولو كان المتهم كافرا فعلا، فعِلم الكافر وحسابه عند الله، والله وحده العلاّم بما في القلوب.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ".
الشك طريق إلى مزيد من الشك، في العلم بالطبع وليس في الدين، فالدين بطبيعته لا يتحمل الشك وهو يقين من أوله إلى آخره أو لا يكون.

vendredi 13 juillet 2018

كيف ولماذا أجبرت ديكتاتورية الدوائر المالية العالمية أردوغان على تعديل سياسته المالية الإسلامية؟ فقرة من مقال في لوموند ديبلوماتيك جويلية 2018، ترجمة مواطن العالَم



منذ وقت قريب، بدأ أردوغان في ترويج فكرته حول الاقتصاد التركي الذي يجب على القائمين عليه أن يتأقلموا مع متطلّبات الاقتصاد المنتِج وفي نفس الوقت مع أحكام الإسلام التي تحرّم الرّبا...
سؤال وجهه له مارتن وولف (économiste en chef du journal  de la City): "البرهنة (...) على أنه يستطيع قيادة تركيا بصورة سليمة" (25 ماي). " بصورة سليمة"، يعني بانسجام مع ميولات المستثمرين الدوليين.
لم تحرّك الدوائر المالية العالمية ساكنًا إزاء طبيعة نظام أردوغان القامعة للحريات، وما إن صرّح هذا الأخير قائلاً: "هذا قد يزعج البعض، لكن مسيّرو الدولة هم الذين سيُحاسَبون من قِبل المواطنين" مبرِّرًا تقييد استقلالية بنك مركزي مدرّع ضد انتظارات الناخبين.
وقبل أن يُرجِع الميكروفون إلى تقنِييِّ القناة (Bloomberg TV)، اندلعتِ الحربُ... في اليوم نفسه، انسحب المستثمرون الدوليون من السوق المالية باسطنبول، متسببين في انهيار العُملة التركية بنسبة 20% خلال شهرٍ واحدٍ، ثم أصبحت الواردات أوتوماتيكيًّا أغلى ثمنًا (يجب توفير أكثر جنيهات تركية للحصول على نفس الكمية من الدولارات) والمعيشة أيضًا. نخَّ الجملُ، تخلى أردوغان عن تجنّبِ أولِ ترفيعٍ في سعر الفائدة التركي (taux directeur turc) من 13,5% إلى 16,5%، ثم إلى 17,75% يوم 7 جوان…
في افتتاحيتها، هنأت جريدة فينانسيل تايمز (Financial Times) نفسَها بتنازُلِ الرئيس:  "رجب طيب أردوغان (...) تعلّم درسًا مؤلِمًا كان يعلّمه الملك "كنوت العظيم" (Knut le Grand)، سلطان بريطانيا في القرن الحادي عشر. يُحكَى أن هذا الأخير جلس قُبالة ارتفاع المدّ (la marée montante) ليُثبِت لحاشيتة المتملّقة أنه لا يحكمُ البحرَ.  و"حديثْنا قياسْ"، تعلّم أردوغان أن "مدّ" الدوائر المالية العالمية لا يخضع لشهواتِه. في مواجهة مثل هذه القوّة، "كل مسؤولٍ حكيمٍ سيكيّفُ سياستَه"...

خاتمة: تحريرُ الديمقراطية من براثنِ وحوشِ الدوائرِ الماليةِ العالميةِ يتطلّبُ الدخولَ في صراعٍ عنيفٍ لم نعهده، صراعٍ يجب تقديرُ مآلاته الخطيرة قبل الانخراطِ فيه.

إمضائي
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، السبت 14 جويلية 2018.