تقديم الكاتب قبل تقديم الكتاب:
لمّا طلب مني الصديق والكاتب والباحث والمفكر محمد كشكار تقديم كتابه الضخم الجديد "مختلف عليه" رحّبت مباشرة بهذا الاختيار. وذلك ليس ترحيبا فحسب، بل أكثر من ذلك بكثير. اذ اعتبرته قد شرّفني بهذه المهمة. وبحكم أنني زاملت الأستاذ محمد كشكار في التعليم الثانوي، واقتربت منه واحتككنا مع بعض في الحقل النقابي والسياسي وحتى الفكري في بعض المناسبات التي أتيحت لنا ولا سيما بعد التقاعد خاصة. وهنا سأروي شهادة للتاريخ في علاقتي بالأخ محمد كشكار لن أنساها أبدا ما حييت.
ما أثارني فعلا في بداية علاقتي معه هو اصطدامي لأول مرة في موقفه وقتئذ من الشهيد المغتال صدام حسين. وكان ذلك بمناسبة غزو العراق سنة 2003. حيث كان ولا يزال يعتبر أن صدام حسين دكتاتورا متسلّطا على الشعب العراقي. وبالتالي يصنّف النظام العراقي في خانة الأنظمة التوتاليتارية الدكتاتورية. بل يصفه حتى بالنظام الفاشي أصلا.
ومن هنا كان خلافي العميق معه باعتبار أنني أتبنى نظرية وايديولوجية الفكر القومي الاشتراكي ذو الخلفية الناصرية. ولما كنّا نلتقي في تجمعات وندوات إطارات نقابية في دار الاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس في ذلك الوقت. وخاصة أن دار الاتحاد ببنعروس كانت تتميّز بإقامة عديد الأنشطة الفكرية والثقافية الداعمة للمقاومة الفلسطينية ولقضايا الأمة العربية ولكل القضايا الإنسانية العادلة المؤمنة بالفكر التقدمي. ذلك أن الاتحاد العام التونسي للشغل كان عصيا ومحصّنا من التفكك الداخلي في تلك المرحلة رغم وجود التيار البيروقراطي الانتهازي الذي كنا نوجهه. بل أخر شيء كنت أذكره أنه كان يوجد نادي جدل للفكر وقتئذ لما كان الأخ محمد مسلمي كاتبا عاما للاتحاد الجهوي على ما أظن.
مواقف لا تنسى رغم حدتها:
ولا زلت أذكر في تلك اللقاءات السياسية والنقابية كم كان التناقض والخلاف بيني وبين الأخ محمد كشكار حادا في الموقف من الشهيد المغتال صدام حسين. ولا سيما زمن الغزو الأمريكي البريطاني للعراق بتواطئي الأنظمة العربية الرجعية التي منحت الامبريالية الأمريكية والبريطانية عديد القواعد العسكرية التي كانت تنطلق منها قاذفات البي52 لتدمير العراق وإبادة الشعب العراقي بكل أنواع القنابل الفتاكة والمحرمة دوليا. وفي احدى المناسبات التي تعددت وقتها وتنوعت لا زلت أتذكر انعقاد تجمع جماهيري كبير ساخن في دار الاتحاد لمساندة العراق ودعمه شعبا وقيادة : حكومة ونظاما وجيشا.
إلاّ أن ما شدّ انتباهي واستشاطني غضبا هو طبعا تدخل الأخ محمد كشكار الذي كان حقيقة تدخلا استثنائيا. وجاء في تدخله بعدما أكد على مساندته للشعب العراقي وإدانته للتدخل في شؤونه موقفا صادما ضد الشهيد القائد الرمز صدام حسين الرجل الوطني. حيث صبّ جام غضبه في الشهيد القائد صدام حسين.
فقمت من داخل القاعة وأنا أصيح منفعلا شديد الانفعال للتصدي لموقفه الهجومي الكاسح على الشهيد المغتال. وقد حال بيننا وقتها الأخ بلقاسم العياري الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل الذي كان يشرف على التجمع في تلك المرحلة.
وبطبيعة الحال قمت بالرد الصاخب والغاضب على ما جاء في خطاب الأخ محمد كشكار. وقد أعجب كل الحاضرين، خاصة وأنه كانت ترتفع حناجر مئات الحاضرين من داخل القاعة لتقاطعني بالتصفيق مدحا للقائد صدام حسين والشعب والجيش العراقيين.
وهكذا تواصلت في تلك المدة علاقتنا متوترة نسبيا. بيد أنه وبعد تدمير العراق واعدام قياداته الوطنية وإخراجه نهائيا من معادلة الصراع العربي الصهيونيّ، باعتبار أن العراق كان يمثل الجبهة الشرقية المتقدمة في مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة.
وبعد تلك الفترة الانفعالية في علاقتي بالأخ محمد كشكار اكتشفت أنه انسان آخر. حصل ذلك على إثر محطة انتخابية خاصة بالنقابة الجهوية للتعليم الثانوي ببن عروس، حيث ترشحت بصفة فردية كمستقل. وقد نلت بعض الأصوات التي كان السبب فيها الأخ محمد كشكار، بعدما التقيت معه مجددا في تلك المحطة، وأودع كل ثقته في شخصي. بل من نكد الدهر أنني لم أحظ بأصوات من يدعون أنفسهم أنهم قوميون.
ومنذ تلك التجربة اقتربنا ببعضنا البعض. وكان لقاؤنا من نوع آخر. بمعنى كان لقاء نوعيا. يجمع بين نقاط الاخلاف ونقاط الالتقاء بصفتنا مثقفين تقدميين ديمقراطيين.
ولعل هذا الاستدعاء لتقديم الكتاب الذي شرفني به هو مرشد ودليل عملي على أنه يحترم الرأي المخالف. ليس ذلك فحسب بل يدافع عنه. أي بكلام آخر يعطيك حقك في أن تكون مختلفا عنه. وهذا الأمر ليس هينا في ساحة من المثقفين والسياسيين في الساحة التونسية أغلبهم مازال يعتبر نفسه فوق الحقيقة. فمازلتَ كمواطن وناشط ومثقف تتخاطب مع من يعتبرون أنفسهم أنهم على صواب وأنك على خطأ. وما زالتَ معرَّضْا في حواراتك اليومية لتلتقي مع من يظن نفسه أنه القديس والزعيم الأوحد الذي يملك الحقيقة المطلقة وكأنه الإله.
ولعله من هنا جاء عنوان كتاب صديقي محمد كشكار" مختلف عليه". وهو كذلك. ولقد أصاب كبد الحقيقة مرة أخرى بعد شهادتي هذه لفائدته. فهي شهادة له لا عليه.
كان هذا مدخلا لتقديم الكتاب. وأي مدخل أحلى من هذا أهديه إلى القراء حتى يعلموا علم اليقين أنهم فعلا يقرؤون لمثقف تختلف معه ولا تختلف عليه.
تقديم الكتاب:
أولا) القضية الأساسي التي خاض فيها: من خلال مراجعة الكاتب لمساره الفكري والسياسي ركز على أهمية تصالح اليسار مع هوية شعبه.
ثانيا) في سياق مساره السياسي تناول الكاتب مواضيع سياسية مباشرة ومختلفة ومتنوعة. مع الإسلاميين أو القوميين وخاصة مع خصومه الماركسيين.
ثالثا) في إطار مسار النقد الفكري طرح الكاتب بعض الإشكاليات الفكرية والفلسفية بشكل مباشر أو غير مباشر وخاصة مع الماركسيين وبشكل أقل حدة مع الإسلاميين والقوميين.
من هنا، وبنظرة بانورامية يظهر الكتاب وكأنه يتضمّن سيرة ذاتية للكاتب السياسية والفكرية، أرادها أن تكون مستفزّة للبعض، ومثيرة للبعض الآخر. وهو يستعرض هذه السيرة المتنوعة المشارب سواء الفكرية أو السياسية أو النقابية أو حتى الوجودية يبدو للقارئء أنه :
1) صادق فيما يكتب. وهذا ينم عن أخلاق الرجل والقيم التي نهل منها وتربى عليها.
2) شجاعته وجرأته في طرح آرائه خاصة مع الخصوم في مجال الفكر أو السياسة. وتبرز شجاعته النادر وجودها باعترافه الشخصي بالخطأ. فهو من المفكرين الذين يقبلون النقد ولو كان موجعا. بل بالعكس تراه متسامحا ورحيما مع خصومه (مثلا مع الإسلاميين). فها هو يقول في الصفحة 61 « إمضائي: يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا -اقتداء بالمنهج العلمي- أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.»
مما يلفت النظر في هذا الكتاب:
-الدعوة لرفض التعصب والانغلاق، من خلال استعمال العقل والفلسفة والتفكير العقلاني. وهنا يضع التيار الماركسي والقومي والإسلامي كلهم في خانة التفكير السلفي، بما أنهم يقرؤون الحاضر بالماضي السلفي. والغريب أنه ليس الماضي كما كان يجب أن يكون مرتبطا بسياقه وظروفه والقوانين التي كانت تحكمه، بل الماضي الستاتيكي يستحضرونه ويستعيدونه في الراهن كبديل.
- الدعوة للحرية والتحرر من كل المعوّقات والمكبّلات التي تحول دون حرية الفكر والتفكير، واعتبار الحرية أسمى القيم الإنسانية التي وجب الدفاع عنها. بمعنى أعطي الحرية لخصمي حتى يعبر عن فكرته النقدية بالإصغاء إليه، كما أدافع عن حريتي لأتمكن من الرد عليه بروح غاندية سلمية. فهو بهذا الأسلوب غاندي الهوى ويساري التفكير. بيد أنه يضعك أمام صورة المثقف اليساري التقدمي المستقل. ليس ذلك فحسب بل يضعك أمام صورة اليساري المتصالح مع هويته العربية الإسلامية.
ما أبرزه في نقده للتيار الماركسي باعتباره يساريا مستقلا غير ماركسي وغير ملحد:
ففي الحقيقة الأستاذ والمفكر محمد كشكار وضع اصبعه على أزمة الفكر اليساري الاشتراكي بصفة خاصة والفكرالتقدمي بصفة عامة. ألا وهي إشكالية التصالح مع هوية الشعب المفْتَرَض فيه كون هذا اليسار يناضل من أجل طموحاته في التحرر والاشتراكية والعدالة. وبالتالي كان عليه أن يتبنى قضية الهوية العربية – الإسلامية بما أنها تمثل التعبيرة الثقافية والناتج الحضاري لـ14 قرنا خلت.
ومن هنا كان الواجب الوطني والقومي والنضالي الحركي يفرض عليه أن يكون متمكنا من فهم الإرث الثقيل للتراث العربي-الإسلامي وقراءته ودراسته بشكل عقلاني، يكون مستجيبا لشروط حركة التحرر العربية في سياقها وظروفها الجدلية الراهنة. وهكذا يصبح متماهيا مع شعبه يتكلم لغته وينبض بسكناته ويحسّ بإحساسه ويعيش معه. ولا يعيش في برجه العاجي كمثقف نخبوي ذو الطبيعة البورجوازية الصغيرة المتذبذبة عادة كما جاءت في النظرية الماركسية في الصالونات والغرف المغلقة والنزل ذات الخمسة نجوم.
لذلك كان الأستاذ محمد كشكار أمْيَل إلى رفض هذا النوع من المثقفين اليساريين وحتى القوميين وغيرهم من النخب الحديثة الذين يناضلون بمعزل عن الجماهير الشعبية. حيث ترى أغلب قواعدهم ومنتسبيهم من الأساتذة والمعلمين والجامعيين وقلما تعثر على عامل أو فلاح في صفوفهم.
بينما عكس ذلك يعطينا الكاتب أمثلة دالة على انخراط عمال وفلاحين ومهمشين في صفوف حركة النهضة باعتبارها حركة إسلامية. وهذا يثبته الواقع السياسي عندنا. بل من الغريب والعجب العجاب أنك تجد العمال والفلاحين في صفوف الحركات السلفية الوهابية المتطرفة والمتشدّدة.
ومن العناوين المعنية بهذا الخطاب النقدي للماركسية هو العنوان التالي ص 220 «أيها اليساريون التونسيون أفيقوا، إن العالَم يتغيّر مِن حولِكم ولو بُعِث معبودُكُم ماركس لَغيّر بَيانَه بِـبَنانِهِ».
وفي هذا الباب كان أميل لليسار اللاتيني وهو المتصالح مع الكنيسة وبالتالي مع هوية شعبه وتراثه في الربط الجدلي التاريخي بين الاشتراكية ولاهوت التحرّر. (انظر مقتطفات من المقال : الدرس الأول ص108). وأحسن ما كتبه في هذا الإطار ما جاء في ص 284 حيث يقول (وتجاهلوا (ويقصد الشيوعيون) رأي ماركس في الدين: "الدين صرخة المظلوم وصوتُ مَن لا صوتَ له وقلب عالم بلا قلب وروح عالم بلا روح". وماذا يريد أن يفعل الماركسيون العرب ؟ يريدون سحب عكّاز المسلم دون أن يوفِّروا له عكّازا أفضل !).
وفي نفس السياق وفي ص 427 يقول "ومجنونٌ مَن يحلمُ بدولةٍ شيوعيةٍ في مجتمعٍ مسلمٍ. حكام الاتحاد السوفياتي البائد كانوا "أشطرَ" منك مليون مرّة ولكنهم فشلوا فشلا ذريعًا ومُدَوّياً بعد 70 عامَا من المحاولات الديكتاتورية الدموية، والدليل القاطع على وجاهة طرحِي هو التالي: خَمْسُ دول إسلامية خرجت من رحم دولة الاتحاد السوفياتي الملحدة رسميًّا (كازخستان، تركمانستان، أوزباكستان، قرغيستان، وطاجيكستان ومجموع سكانها مجتمعة يبلغ حوالي 60 مليون مسلم)."
- وفي مفهومه لليسار التحرري "libertaire" الذي تعرّض له Michel Onfray فهو يختلف عن اليسار الليبرالي "الحزب الاشتراكي الفرنسي" لأنه مع انه يؤمن باقتصاد السوق لكنه يرفض مجتمع السوق ويضرب مثال لذلك (واحة جمنة) انظر ص 55
- في نقده لليسار الماركسي يعطي بعض الأمثلة في نصوص مفترَضة من بعض الكتاب فيقول مثلا " رفاقك فضلوا المناصب والكراسي وركنوا إلى رَغَدِ العيشِ...." وهنا يقدم أحد اليساريين الذين صمدوا لأكثر من 80 سنة في العهد البوقيبي والنوفمبري ".
تعليق حول القانون المحتمل "تجريم المسّ بالمقدسات" ص 480. هنا يدعو الكاتب إلى احترام حرية التعبير منتقدا حزب النهضة فيما يخص قانون حرية الضمير الذي أكد فيه على " تجريم المس بالمقدسات". وهذا بطبيعة الحال سيكون سيفا مسلطا على الخصوم باسم هذا المفهوم الهلامي. ويعطي مثالا مهما في هذا السياق ضمن فهم نظري عقلاني في معارضة الشيطان لله وهو يحاوره.
وفيما يخص ما جاء في تفسير الكاتب في تفسير ظاهرةَ الصحوةِ الإسلاميةِ في تونسَ ص 486. حيث اعتبر أن النزعة البورقيبية المتطرفة في عملية التغريب والتي حدت ببورقيبة إلى أن تجرأ للدعوة جهرا بإلإفطار في رمضان في سياق رؤية عزل تونس عن محيطها العربي وخاصة عزلها عن الشرق العربي، إلى جانب دعوته وتأسيسه للفرنكفونية كلها بعض العوامل الداخلية التي تفسّر عملية الصحوة، إلى جانب انعكاسات نكسة 1967.
أما في نقد الكاتب للقوميين حيث ذهب إلى القول بأن القوميين نهضويون. هنا قول للكاتب لقد أخطأت وجلّ من لا يخطئ. وحتى يكون موقفي موضوعيا أقول إنه يمكن أن نجد فيهم ولا سيما في حركة الشعب جناحا أو لنقل جيبا يميل للنهضة ولكن ليس نهضاويا.
الدعوة للتربية على مكارم الأخلاق ص 516 وفي نفس الغرض أي الدعوة للأخلاق الاجتماعية الذي يضعه في شكل هجرة كل ما هو شاذ وخارج التربية الإسلامية على أساس الفضيلة والقيم النبيلة تحديدا في الصفحات 634 و635 يقول مثلا اقتداء بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فيما معناه:"ماذا نهجر ولمَن نهاجر ؟
- نهجر الحداثة ونهاجر إلى الأصالة (L'indigénisation).
- نهجر الانبتات ونهاجر إلى التجذّر.
- نهجر النمو الرأسمالي ونهاجر إلى النمو التضامني (تجربة جمنة).
- نهجر التقييم الجزائي للتلميذ (أعداد) ونهاجر إلى التقييم التكويني للتلميذ (دون أعداد).
- نهجر الفلاحة الحديثة (أسمدة كيميائية) ونهاجر إلى الفلاحة التقليدية (دون أسمدة كيميائية).
- نهجر الإضراب ونهاجر إلى المفاوضات.
- نهجر التسيّب ونهاجر إلى الانضباط.
- نهجر الجهاد الأصغر (جهاد غير المسلمين) ونهاجر إلى الجهاد الأكبر(جهاد النفس).
- نهجر المدينة ونهاجر إلى الريف.
- نهجر النفاق ونهاجر إلى الصدق. و ........."
وهنا أقول للكاتب لقد أصبت في هجرة القيم المتوحشة لليبرالية والنيوليبرالية التي تعذي رفي الفرد الفردانية والأنانية والجشع الرأسمالي المفرط من أجل الربح وإعادة إنتاج الربح دون أدنى مراعاة لأي قيمة إنسانية. لبل كل القيم لديها هي مادية ربحية.
انتصارًا للعِلمِ اختصاصِي وليس انتصارًا للإسلامِ دينِي، ولكلّ مقامٍ مقالٌ ؟ ص 561
- يتعلم فيه الفصحى والنطق السليم للحروف مثلما تعلمتهما أنا في "خَلوة" (كتّاب) جمنة في الخمسينيات عند "المِدِّبْ" محمود، الله يرحمه ص 569
(Un bain linguistique)
يخافون على الصغار من التعليم الديني في بلاد مسلمة بنسبة 99%.
مَن هُمْ ؟
هم رفاقي اليساريون الستالينيون والأقربون إليهم الحداثيون ولائكيّو فرنسا المناوئون للدين عمومًا الذين، كُرهُهم الإيديولوجي للنهضاويين القاعديين.
ميشال أونفري، الفيلسوف اليساري الفرنسي، قال: "الحضارة اليهودية-المسيحية تحتضر ولا أمل في نهضتها من جديد مهما فعلنا ومصيرها كمصير باخرة "التيتانيك" عندما اصطدمت بجبل الثلج وغرقت في قاع المحيط. والسبب فقدانها لقِيم العدالة والحرية والأخوة والمساواة (Justice, Liberté, Égalité, Fraternité) التي قامت من أجل تحقيقها الثورة الفرنسية، واقترافها لجريمة إبادة أربعة ملايين مسلم مسالم مدني بريء منذ حرب الخليج الأولى إلى اليوم (1990-2016) في أفغانستان والعراق والصومال والشيشان وليبيا وسوريا واليمن دون أدنى أي ذنب اقترفوه سوى التوق للحرية والعدالة الاجتماعية". (المصدر: دروس ومحاضرات وحوارات ميشال أونفري على اليوتوب.) ص 629
في نقد الكاتب للأنظمة العربية:
وعلى الرغم من صوابه في نقد الأنظمة العربية مثل (مصر ناصر وسوريا والعراق واليمن الجنوبي الذي تبنى الشيوعية) التي تبنت الاشتراكية خيارا اقتصاديا من أجل العدالة الاجتماعية، إلاّ أنه لم يكن موضوعيا فيما ذهب إليه. ولنعطي مثالا على ذلك في التجربة الناصرية وما أدت إليه قرارات مثل تأميم قناة السويس وهو قرار وطني سيادي من جهة، وكذلك قرار اشتراكي من جهة أخرى. وتلتها قرارات 1963 الاشتراكية في تحديد الملكية الزراعية لضرب الاقطاع وتبني القطاع العام باعتباره قطاعا استراتيجيا بصفته قاطرة التنمية. وهكذا دخلت مصر الناصرية تجربة التخطيط الاشتراكي الذي نتج عنه الصناعات الثقيلة وتطور الاقتصاد في عديد المجالات التكنولوجية. هنا ربما ألتقي مع الأستاذ محمد كشكار في مسألة الديمقراطية مع أن السياق العالمي في ذلك الظرف كان في الواقع يبرر الاستبداد نسبيا أو كليا (بورقيبة مثلا في تونس). والنظام الناصر تنطبق عليه هذه النسبية.
وفي نفس الموضوع فاني أتفق مع الكاتب مثلا في مفهوم الطبقة حيث يقول في ص 249 (الوعيُ بالصراع الطبقي في العالم العربي كان ولا يزال مفقودًا لغياب مفهوم الطبقة نفسه عند العرب، تُعرّفُ الطبقة بوعي العمال بالانتماء إلى طبقة البروليتاريا وليس بوجودهم المادي كعمال في السوق الرأسمالية).
ولعل ما دعّم به الكاتب موقفه تجاه الأيديولوجية الماركسية من خلال كتاب "نقد النص"، للكاتب علي حرب (انظر نص علي حرب ص 124)
وما تجدر الإشارة إليه في موضوعة اليسار والاشتراكية هو النموذج التونسي في واحة جمنة الرائعة التي قدمت تجربة حية في الفعل الاشتراكي بمفهوم الاقتصاد التشاركي الاشتراكي، أو التعاوني التعاضدي بالمعنى الاجتماعي التضامني. (انظر هنا ص 291).
ويقدم حلا بديلا لليسار فيما يقوله عن نفسه في ص 317 (يساري غير ماركسي وعلماني على الطريقة الأنـجلوساكسونية المتصالحة مع كل الأديان وحداثي ناقد للحداثة وما بعد الحداثة غير منبهرٍ بهما ومسلم لا يتحدث إلا بلغة مجتمعه المسلم.)
وفي موضوع آخر يذكرنا الكاتب بأن الماركسية لا تؤمن بمهزلة حقوق الإنسان لأن جوهر نضاله يكمن في تحرير البروليتاريا. وأن هذه المفاهيم هي مقولات البورجوازية وهي مقولات مخادعة لحقوق العمال (انظر صفحة 383)
أزمة الحداثة في عصر ما بعد الحداثة والتحديث:
وفي جانب آخر تطرّق الكاتب إلى مأزق الحداثة والتحديث للغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما في مرحلة النيوليبرالية المتطرفة والمتوحشة. ويضرب لنا المثال الساطع على التناقض الصارخ لمنظومة الحداثة التي تدّعي حقوق الإنسان والديمقراطية فيما يرتكب في غزة من إبادة جماعية وحشية غير مسبوقة. بل إن ما يحصل في غزة والذي وقع استنساخه في لبنان من طرف الحركة الصهيونية بوصفها حركة عنصرية استيطانية كقاعدة متقدمة للحلف الأطلسي الاطلنطي الناتوي بقيادة الامبريالية الامريكية.
وما يحصل في غزة خاصة وهي عملية إبادية وحشية ما بعد نازية بدعم وشراكة غربية أمريكيا من خلال الوحش الصهيوني الوريث الطبيعي لإرهاب عصابات شتيرن والهاغانا الشبيه بالإرهاب الداعشي المصنوع في الغرب. ومن خلال تلك المجازر الإبادية يتكشّف الوجه الحقيقي لما يسمى بالمدنية الغربية والعالم الحر وزيف الديمقراطية وحقوق الإسان. هذا العالم الأخرس والأعمى والأبكم الذي لا يرى ولا يسمع إلا بعيون صهيونية يعود بنا من جديد وفي الألفية الجديدة إلى عالم التوحش للإنسان البدائي، بل وأكثر منه بكثير. ما يطرح على مفكري الغرب وفلاسفته الثورة والتمرد على هذه المركزية العنصرية للرجل الأبيض.
فلب هذا النظام المرتكز على رأس المال وهو عموده الفقري يقول فيه الكاتب في الصفحة 149 « (...) أخضعونا غصبًا لمصالحهم الأنانية الضيقة. نجحوا في تجنيدِنا وقودًا لحروبهم، مات مَن مات منّا والأحياء منّا انتدبوهم خدمًا لهم مقابل لقمة العيش. وضعونا في جيوبهم وكان هدفهم الحقير هذا من أولَى أولياتهم وأوكدِها على الإطلاق. وسائلُهم هي هي، لم تتغير عبر الزمن ورغم التطور والتحضر المشوه أوروبي المركز، ..... ». وفي موضع آخر من الكتاب وتحديدا في ص 106 يؤكد نقمته على الحداثة وما بعدها قائلا: « أنا عدوٌّ شرسٌ للحداثة وما بعد الحداثة، خاصة في ثوبها الرأسمالي المركزي-الأوروبي الحالي (eurocentrisme) "العنصري الإرهابي ».
وهنا يعطي الكاتب محمد كشكار مثال لقيم الشرق ممثلة في ماليزيا وبالتحديد ما قاله مهاتير محمد الزعيم الماليزي في ص 139.
(سنة 1996، توجه مهاتير محمد، الوزيرُ الأولُ الماليزيُّ المسلِمُ، إلى رؤساء الحكومات الغربية وقال: القِيم الآسيوية قِيمٌ كونية، أما القِيم الأوروبية فهي قيمٌ أوروبية فقط. الآسيويون يعتقدون أن الازدهارَ الاقتصاديَّ هو خيرُ دليلِ على التفوقِ الأخلاقيِّ وأن النجاحَ الماديَّ يتبعه حتمًا رجوعٌ إلى الثقافة المحلية والقوةُ الصناعيةُ تولِّدُ دومًا القوةَ الناعمةَ".)
هذا أهم ما جاء في الكتاب طبعا حسب اجتهادي ووجهة نظري. وهنا أقول للقارئ الكريم، ربما انني قد أهملت بعض الأفكار التي جاءت في الكتاب، أو بعض المواضيع. والسبب هو غزارة المواضيع التي تطرق إليها الكاتب وتنوعها وفي بعض الأحيان تشابهها وتشابكها وتداخلها. وهو عبارة عن عصارة تجربة لرجل خاض في معمعان الحياة السياسية والنقابية والفكرية والعلمية والبحثية. وقد استخلص منها الكاتب عبر كثيرة وأهمها التصالح مع مجتمعه وبيئته التي يعيش بين أهلها بعقلية علمية ناقدة ترفض التحجر والجمود الفكري.
انتهى التقديم
لمّا طلب مني الصديق والكاتب والباحث والمفكر محمد كشكار تقديم كتابه الضخم الجديد "مختلف عليه" رحّبت مباشرة بهذا الاختيار. وذلك ليس ترحيبا فحسب، بل أكثر من ذلك بكثير. اذ اعتبرته قد شرّفني بهذه المهمة. وبحكم أنني زاملت الأستاذ محمد كشكار في التعليم الثانوي، واقتربت منه واحتككنا مع بعض في الحقل النقابي والسياسي وحتى الفكري في بعض المناسبات التي أتيحت لنا ولا سيما بعد التقاعد خاصة. وهنا سأروي شهادة للتاريخ في علاقتي بالأخ محمد كشكار لن أنساها أبدا ما حييت.
ما أثارني فعلا في بداية علاقتي معه هو اصطدامي لأول مرة في موقفه وقتئذ من الشهيد المغتال صدام حسين. وكان ذلك بمناسبة غزو العراق سنة 2003. حيث كان ولا يزال يعتبر أن صدام حسين دكتاتورا متسلّطا على الشعب العراقي. وبالتالي يصنّف النظام العراقي في خانة الأنظمة التوتاليتارية الدكتاتورية. بل يصفه حتى بالنظام الفاشي أصلا.
ومن هنا كان خلافي العميق معه باعتبار أنني أتبنى نظرية وايديولوجية الفكر القومي الاشتراكي ذو الخلفية الناصرية. ولما كنّا نلتقي في تجمعات وندوات إطارات نقابية في دار الاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس في ذلك الوقت. وخاصة أن دار الاتحاد ببنعروس كانت تتميّز بإقامة عديد الأنشطة الفكرية والثقافية الداعمة للمقاومة الفلسطينية ولقضايا الأمة العربية ولكل القضايا الإنسانية العادلة المؤمنة بالفكر التقدمي. ذلك أن الاتحاد العام التونسي للشغل كان عصيا ومحصّنا من التفكك الداخلي في تلك المرحلة رغم وجود التيار البيروقراطي الانتهازي الذي كنا نوجهه. بل أخر شيء كنت أذكره أنه كان يوجد نادي جدل للفكر وقتئذ لما كان الأخ محمد مسلمي كاتبا عاما للاتحاد الجهوي على ما أظن.
مواقف لا تنسى رغم حدتها:
ولا زلت أذكر في تلك اللقاءات السياسية والنقابية كم كان التناقض والخلاف بيني وبين الأخ محمد كشكار حادا في الموقف من الشهيد المغتال صدام حسين. ولا سيما زمن الغزو الأمريكي البريطاني للعراق بتواطئي الأنظمة العربية الرجعية التي منحت الامبريالية الأمريكية والبريطانية عديد القواعد العسكرية التي كانت تنطلق منها قاذفات البي52 لتدمير العراق وإبادة الشعب العراقي بكل أنواع القنابل الفتاكة والمحرمة دوليا. وفي احدى المناسبات التي تعددت وقتها وتنوعت لا زلت أتذكر انعقاد تجمع جماهيري كبير ساخن في دار الاتحاد لمساندة العراق ودعمه شعبا وقيادة : حكومة ونظاما وجيشا.
إلاّ أن ما شدّ انتباهي واستشاطني غضبا هو طبعا تدخل الأخ محمد كشكار الذي كان حقيقة تدخلا استثنائيا. وجاء في تدخله بعدما أكد على مساندته للشعب العراقي وإدانته للتدخل في شؤونه موقفا صادما ضد الشهيد القائد الرمز صدام حسين الرجل الوطني. حيث صبّ جام غضبه في الشهيد القائد صدام حسين.
فقمت من داخل القاعة وأنا أصيح منفعلا شديد الانفعال للتصدي لموقفه الهجومي الكاسح على الشهيد المغتال. وقد حال بيننا وقتها الأخ بلقاسم العياري الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل الذي كان يشرف على التجمع في تلك المرحلة.
وبطبيعة الحال قمت بالرد الصاخب والغاضب على ما جاء في خطاب الأخ محمد كشكار. وقد أعجب كل الحاضرين، خاصة وأنه كانت ترتفع حناجر مئات الحاضرين من داخل القاعة لتقاطعني بالتصفيق مدحا للقائد صدام حسين والشعب والجيش العراقيين.
وهكذا تواصلت في تلك المدة علاقتنا متوترة نسبيا. بيد أنه وبعد تدمير العراق واعدام قياداته الوطنية وإخراجه نهائيا من معادلة الصراع العربي الصهيونيّ، باعتبار أن العراق كان يمثل الجبهة الشرقية المتقدمة في مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة.
وبعد تلك الفترة الانفعالية في علاقتي بالأخ محمد كشكار اكتشفت أنه انسان آخر. حصل ذلك على إثر محطة انتخابية خاصة بالنقابة الجهوية للتعليم الثانوي ببن عروس، حيث ترشحت بصفة فردية كمستقل. وقد نلت بعض الأصوات التي كان السبب فيها الأخ محمد كشكار، بعدما التقيت معه مجددا في تلك المحطة، وأودع كل ثقته في شخصي. بل من نكد الدهر أنني لم أحظ بأصوات من يدعون أنفسهم أنهم قوميون.
ومنذ تلك التجربة اقتربنا ببعضنا البعض. وكان لقاؤنا من نوع آخر. بمعنى كان لقاء نوعيا. يجمع بين نقاط الاخلاف ونقاط الالتقاء بصفتنا مثقفين تقدميين ديمقراطيين.
ولعل هذا الاستدعاء لتقديم الكتاب الذي شرفني به هو مرشد ودليل عملي على أنه يحترم الرأي المخالف. ليس ذلك فحسب بل يدافع عنه. أي بكلام آخر يعطيك حقك في أن تكون مختلفا عنه. وهذا الأمر ليس هينا في ساحة من المثقفين والسياسيين في الساحة التونسية أغلبهم مازال يعتبر نفسه فوق الحقيقة. فمازلتَ كمواطن وناشط ومثقف تتخاطب مع من يعتبرون أنفسهم أنهم على صواب وأنك على خطأ. وما زالتَ معرَّضْا في حواراتك اليومية لتلتقي مع من يظن نفسه أنه القديس والزعيم الأوحد الذي يملك الحقيقة المطلقة وكأنه الإله.
ولعله من هنا جاء عنوان كتاب صديقي محمد كشكار" مختلف عليه". وهو كذلك. ولقد أصاب كبد الحقيقة مرة أخرى بعد شهادتي هذه لفائدته. فهي شهادة له لا عليه.
كان هذا مدخلا لتقديم الكتاب. وأي مدخل أحلى من هذا أهديه إلى القراء حتى يعلموا علم اليقين أنهم فعلا يقرؤون لمثقف تختلف معه ولا تختلف عليه.
تقديم الكتاب:
أولا) القضية الأساسي التي خاض فيها: من خلال مراجعة الكاتب لمساره الفكري والسياسي ركز على أهمية تصالح اليسار مع هوية شعبه.
ثانيا) في سياق مساره السياسي تناول الكاتب مواضيع سياسية مباشرة ومختلفة ومتنوعة. مع الإسلاميين أو القوميين وخاصة مع خصومه الماركسيين.
ثالثا) في إطار مسار النقد الفكري طرح الكاتب بعض الإشكاليات الفكرية والفلسفية بشكل مباشر أو غير مباشر وخاصة مع الماركسيين وبشكل أقل حدة مع الإسلاميين والقوميين.
من هنا، وبنظرة بانورامية يظهر الكتاب وكأنه يتضمّن سيرة ذاتية للكاتب السياسية والفكرية، أرادها أن تكون مستفزّة للبعض، ومثيرة للبعض الآخر. وهو يستعرض هذه السيرة المتنوعة المشارب سواء الفكرية أو السياسية أو النقابية أو حتى الوجودية يبدو للقارئء أنه :
1) صادق فيما يكتب. وهذا ينم عن أخلاق الرجل والقيم التي نهل منها وتربى عليها.
2) شجاعته وجرأته في طرح آرائه خاصة مع الخصوم في مجال الفكر أو السياسة. وتبرز شجاعته النادر وجودها باعترافه الشخصي بالخطأ. فهو من المفكرين الذين يقبلون النقد ولو كان موجعا. بل بالعكس تراه متسامحا ورحيما مع خصومه (مثلا مع الإسلاميين). فها هو يقول في الصفحة 61 « إمضائي: يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا -اقتداء بالمنهج العلمي- أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.»
مما يلفت النظر في هذا الكتاب:
-الدعوة لرفض التعصب والانغلاق، من خلال استعمال العقل والفلسفة والتفكير العقلاني. وهنا يضع التيار الماركسي والقومي والإسلامي كلهم في خانة التفكير السلفي، بما أنهم يقرؤون الحاضر بالماضي السلفي. والغريب أنه ليس الماضي كما كان يجب أن يكون مرتبطا بسياقه وظروفه والقوانين التي كانت تحكمه، بل الماضي الستاتيكي يستحضرونه ويستعيدونه في الراهن كبديل.
- الدعوة للحرية والتحرر من كل المعوّقات والمكبّلات التي تحول دون حرية الفكر والتفكير، واعتبار الحرية أسمى القيم الإنسانية التي وجب الدفاع عنها. بمعنى أعطي الحرية لخصمي حتى يعبر عن فكرته النقدية بالإصغاء إليه، كما أدافع عن حريتي لأتمكن من الرد عليه بروح غاندية سلمية. فهو بهذا الأسلوب غاندي الهوى ويساري التفكير. بيد أنه يضعك أمام صورة المثقف اليساري التقدمي المستقل. ليس ذلك فحسب بل يضعك أمام صورة اليساري المتصالح مع هويته العربية الإسلامية.
ما أبرزه في نقده للتيار الماركسي باعتباره يساريا مستقلا غير ماركسي وغير ملحد:
ففي الحقيقة الأستاذ والمفكر محمد كشكار وضع اصبعه على أزمة الفكر اليساري الاشتراكي بصفة خاصة والفكرالتقدمي بصفة عامة. ألا وهي إشكالية التصالح مع هوية الشعب المفْتَرَض فيه كون هذا اليسار يناضل من أجل طموحاته في التحرر والاشتراكية والعدالة. وبالتالي كان عليه أن يتبنى قضية الهوية العربية – الإسلامية بما أنها تمثل التعبيرة الثقافية والناتج الحضاري لـ14 قرنا خلت.
ومن هنا كان الواجب الوطني والقومي والنضالي الحركي يفرض عليه أن يكون متمكنا من فهم الإرث الثقيل للتراث العربي-الإسلامي وقراءته ودراسته بشكل عقلاني، يكون مستجيبا لشروط حركة التحرر العربية في سياقها وظروفها الجدلية الراهنة. وهكذا يصبح متماهيا مع شعبه يتكلم لغته وينبض بسكناته ويحسّ بإحساسه ويعيش معه. ولا يعيش في برجه العاجي كمثقف نخبوي ذو الطبيعة البورجوازية الصغيرة المتذبذبة عادة كما جاءت في النظرية الماركسية في الصالونات والغرف المغلقة والنزل ذات الخمسة نجوم.
لذلك كان الأستاذ محمد كشكار أمْيَل إلى رفض هذا النوع من المثقفين اليساريين وحتى القوميين وغيرهم من النخب الحديثة الذين يناضلون بمعزل عن الجماهير الشعبية. حيث ترى أغلب قواعدهم ومنتسبيهم من الأساتذة والمعلمين والجامعيين وقلما تعثر على عامل أو فلاح في صفوفهم.
بينما عكس ذلك يعطينا الكاتب أمثلة دالة على انخراط عمال وفلاحين ومهمشين في صفوف حركة النهضة باعتبارها حركة إسلامية. وهذا يثبته الواقع السياسي عندنا. بل من الغريب والعجب العجاب أنك تجد العمال والفلاحين في صفوف الحركات السلفية الوهابية المتطرفة والمتشدّدة.
ومن العناوين المعنية بهذا الخطاب النقدي للماركسية هو العنوان التالي ص 220 «أيها اليساريون التونسيون أفيقوا، إن العالَم يتغيّر مِن حولِكم ولو بُعِث معبودُكُم ماركس لَغيّر بَيانَه بِـبَنانِهِ».
وفي هذا الباب كان أميل لليسار اللاتيني وهو المتصالح مع الكنيسة وبالتالي مع هوية شعبه وتراثه في الربط الجدلي التاريخي بين الاشتراكية ولاهوت التحرّر. (انظر مقتطفات من المقال : الدرس الأول ص108). وأحسن ما كتبه في هذا الإطار ما جاء في ص 284 حيث يقول (وتجاهلوا (ويقصد الشيوعيون) رأي ماركس في الدين: "الدين صرخة المظلوم وصوتُ مَن لا صوتَ له وقلب عالم بلا قلب وروح عالم بلا روح". وماذا يريد أن يفعل الماركسيون العرب ؟ يريدون سحب عكّاز المسلم دون أن يوفِّروا له عكّازا أفضل !).
وفي نفس السياق وفي ص 427 يقول "ومجنونٌ مَن يحلمُ بدولةٍ شيوعيةٍ في مجتمعٍ مسلمٍ. حكام الاتحاد السوفياتي البائد كانوا "أشطرَ" منك مليون مرّة ولكنهم فشلوا فشلا ذريعًا ومُدَوّياً بعد 70 عامَا من المحاولات الديكتاتورية الدموية، والدليل القاطع على وجاهة طرحِي هو التالي: خَمْسُ دول إسلامية خرجت من رحم دولة الاتحاد السوفياتي الملحدة رسميًّا (كازخستان، تركمانستان، أوزباكستان، قرغيستان، وطاجيكستان ومجموع سكانها مجتمعة يبلغ حوالي 60 مليون مسلم)."
- وفي مفهومه لليسار التحرري "libertaire" الذي تعرّض له Michel Onfray فهو يختلف عن اليسار الليبرالي "الحزب الاشتراكي الفرنسي" لأنه مع انه يؤمن باقتصاد السوق لكنه يرفض مجتمع السوق ويضرب مثال لذلك (واحة جمنة) انظر ص 55
- في نقده لليسار الماركسي يعطي بعض الأمثلة في نصوص مفترَضة من بعض الكتاب فيقول مثلا " رفاقك فضلوا المناصب والكراسي وركنوا إلى رَغَدِ العيشِ...." وهنا يقدم أحد اليساريين الذين صمدوا لأكثر من 80 سنة في العهد البوقيبي والنوفمبري ".
تعليق حول القانون المحتمل "تجريم المسّ بالمقدسات" ص 480. هنا يدعو الكاتب إلى احترام حرية التعبير منتقدا حزب النهضة فيما يخص قانون حرية الضمير الذي أكد فيه على " تجريم المس بالمقدسات". وهذا بطبيعة الحال سيكون سيفا مسلطا على الخصوم باسم هذا المفهوم الهلامي. ويعطي مثالا مهما في هذا السياق ضمن فهم نظري عقلاني في معارضة الشيطان لله وهو يحاوره.
وفيما يخص ما جاء في تفسير الكاتب في تفسير ظاهرةَ الصحوةِ الإسلاميةِ في تونسَ ص 486. حيث اعتبر أن النزعة البورقيبية المتطرفة في عملية التغريب والتي حدت ببورقيبة إلى أن تجرأ للدعوة جهرا بإلإفطار في رمضان في سياق رؤية عزل تونس عن محيطها العربي وخاصة عزلها عن الشرق العربي، إلى جانب دعوته وتأسيسه للفرنكفونية كلها بعض العوامل الداخلية التي تفسّر عملية الصحوة، إلى جانب انعكاسات نكسة 1967.
أما في نقد الكاتب للقوميين حيث ذهب إلى القول بأن القوميين نهضويون. هنا قول للكاتب لقد أخطأت وجلّ من لا يخطئ. وحتى يكون موقفي موضوعيا أقول إنه يمكن أن نجد فيهم ولا سيما في حركة الشعب جناحا أو لنقل جيبا يميل للنهضة ولكن ليس نهضاويا.
الدعوة للتربية على مكارم الأخلاق ص 516 وفي نفس الغرض أي الدعوة للأخلاق الاجتماعية الذي يضعه في شكل هجرة كل ما هو شاذ وخارج التربية الإسلامية على أساس الفضيلة والقيم النبيلة تحديدا في الصفحات 634 و635 يقول مثلا اقتداء بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فيما معناه:"ماذا نهجر ولمَن نهاجر ؟
- نهجر الحداثة ونهاجر إلى الأصالة (L'indigénisation).
- نهجر الانبتات ونهاجر إلى التجذّر.
- نهجر النمو الرأسمالي ونهاجر إلى النمو التضامني (تجربة جمنة).
- نهجر التقييم الجزائي للتلميذ (أعداد) ونهاجر إلى التقييم التكويني للتلميذ (دون أعداد).
- نهجر الفلاحة الحديثة (أسمدة كيميائية) ونهاجر إلى الفلاحة التقليدية (دون أسمدة كيميائية).
- نهجر الإضراب ونهاجر إلى المفاوضات.
- نهجر التسيّب ونهاجر إلى الانضباط.
- نهجر الجهاد الأصغر (جهاد غير المسلمين) ونهاجر إلى الجهاد الأكبر(جهاد النفس).
- نهجر المدينة ونهاجر إلى الريف.
- نهجر النفاق ونهاجر إلى الصدق. و ........."
وهنا أقول للكاتب لقد أصبت في هجرة القيم المتوحشة لليبرالية والنيوليبرالية التي تعذي رفي الفرد الفردانية والأنانية والجشع الرأسمالي المفرط من أجل الربح وإعادة إنتاج الربح دون أدنى مراعاة لأي قيمة إنسانية. لبل كل القيم لديها هي مادية ربحية.
انتصارًا للعِلمِ اختصاصِي وليس انتصارًا للإسلامِ دينِي، ولكلّ مقامٍ مقالٌ ؟ ص 561
- يتعلم فيه الفصحى والنطق السليم للحروف مثلما تعلمتهما أنا في "خَلوة" (كتّاب) جمنة في الخمسينيات عند "المِدِّبْ" محمود، الله يرحمه ص 569
(Un bain linguistique)
يخافون على الصغار من التعليم الديني في بلاد مسلمة بنسبة 99%.
مَن هُمْ ؟
هم رفاقي اليساريون الستالينيون والأقربون إليهم الحداثيون ولائكيّو فرنسا المناوئون للدين عمومًا الذين، كُرهُهم الإيديولوجي للنهضاويين القاعديين.
ميشال أونفري، الفيلسوف اليساري الفرنسي، قال: "الحضارة اليهودية-المسيحية تحتضر ولا أمل في نهضتها من جديد مهما فعلنا ومصيرها كمصير باخرة "التيتانيك" عندما اصطدمت بجبل الثلج وغرقت في قاع المحيط. والسبب فقدانها لقِيم العدالة والحرية والأخوة والمساواة (Justice, Liberté, Égalité, Fraternité) التي قامت من أجل تحقيقها الثورة الفرنسية، واقترافها لجريمة إبادة أربعة ملايين مسلم مسالم مدني بريء منذ حرب الخليج الأولى إلى اليوم (1990-2016) في أفغانستان والعراق والصومال والشيشان وليبيا وسوريا واليمن دون أدنى أي ذنب اقترفوه سوى التوق للحرية والعدالة الاجتماعية". (المصدر: دروس ومحاضرات وحوارات ميشال أونفري على اليوتوب.) ص 629
في نقد الكاتب للأنظمة العربية:
وعلى الرغم من صوابه في نقد الأنظمة العربية مثل (مصر ناصر وسوريا والعراق واليمن الجنوبي الذي تبنى الشيوعية) التي تبنت الاشتراكية خيارا اقتصاديا من أجل العدالة الاجتماعية، إلاّ أنه لم يكن موضوعيا فيما ذهب إليه. ولنعطي مثالا على ذلك في التجربة الناصرية وما أدت إليه قرارات مثل تأميم قناة السويس وهو قرار وطني سيادي من جهة، وكذلك قرار اشتراكي من جهة أخرى. وتلتها قرارات 1963 الاشتراكية في تحديد الملكية الزراعية لضرب الاقطاع وتبني القطاع العام باعتباره قطاعا استراتيجيا بصفته قاطرة التنمية. وهكذا دخلت مصر الناصرية تجربة التخطيط الاشتراكي الذي نتج عنه الصناعات الثقيلة وتطور الاقتصاد في عديد المجالات التكنولوجية. هنا ربما ألتقي مع الأستاذ محمد كشكار في مسألة الديمقراطية مع أن السياق العالمي في ذلك الظرف كان في الواقع يبرر الاستبداد نسبيا أو كليا (بورقيبة مثلا في تونس). والنظام الناصر تنطبق عليه هذه النسبية.
وفي نفس الموضوع فاني أتفق مع الكاتب مثلا في مفهوم الطبقة حيث يقول في ص 249 (الوعيُ بالصراع الطبقي في العالم العربي كان ولا يزال مفقودًا لغياب مفهوم الطبقة نفسه عند العرب، تُعرّفُ الطبقة بوعي العمال بالانتماء إلى طبقة البروليتاريا وليس بوجودهم المادي كعمال في السوق الرأسمالية).
ولعل ما دعّم به الكاتب موقفه تجاه الأيديولوجية الماركسية من خلال كتاب "نقد النص"، للكاتب علي حرب (انظر نص علي حرب ص 124)
وما تجدر الإشارة إليه في موضوعة اليسار والاشتراكية هو النموذج التونسي في واحة جمنة الرائعة التي قدمت تجربة حية في الفعل الاشتراكي بمفهوم الاقتصاد التشاركي الاشتراكي، أو التعاوني التعاضدي بالمعنى الاجتماعي التضامني. (انظر هنا ص 291).
ويقدم حلا بديلا لليسار فيما يقوله عن نفسه في ص 317 (يساري غير ماركسي وعلماني على الطريقة الأنـجلوساكسونية المتصالحة مع كل الأديان وحداثي ناقد للحداثة وما بعد الحداثة غير منبهرٍ بهما ومسلم لا يتحدث إلا بلغة مجتمعه المسلم.)
وفي موضوع آخر يذكرنا الكاتب بأن الماركسية لا تؤمن بمهزلة حقوق الإنسان لأن جوهر نضاله يكمن في تحرير البروليتاريا. وأن هذه المفاهيم هي مقولات البورجوازية وهي مقولات مخادعة لحقوق العمال (انظر صفحة 383)
أزمة الحداثة في عصر ما بعد الحداثة والتحديث:
وفي جانب آخر تطرّق الكاتب إلى مأزق الحداثة والتحديث للغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما في مرحلة النيوليبرالية المتطرفة والمتوحشة. ويضرب لنا المثال الساطع على التناقض الصارخ لمنظومة الحداثة التي تدّعي حقوق الإنسان والديمقراطية فيما يرتكب في غزة من إبادة جماعية وحشية غير مسبوقة. بل إن ما يحصل في غزة والذي وقع استنساخه في لبنان من طرف الحركة الصهيونية بوصفها حركة عنصرية استيطانية كقاعدة متقدمة للحلف الأطلسي الاطلنطي الناتوي بقيادة الامبريالية الامريكية.
وما يحصل في غزة خاصة وهي عملية إبادية وحشية ما بعد نازية بدعم وشراكة غربية أمريكيا من خلال الوحش الصهيوني الوريث الطبيعي لإرهاب عصابات شتيرن والهاغانا الشبيه بالإرهاب الداعشي المصنوع في الغرب. ومن خلال تلك المجازر الإبادية يتكشّف الوجه الحقيقي لما يسمى بالمدنية الغربية والعالم الحر وزيف الديمقراطية وحقوق الإسان. هذا العالم الأخرس والأعمى والأبكم الذي لا يرى ولا يسمع إلا بعيون صهيونية يعود بنا من جديد وفي الألفية الجديدة إلى عالم التوحش للإنسان البدائي، بل وأكثر منه بكثير. ما يطرح على مفكري الغرب وفلاسفته الثورة والتمرد على هذه المركزية العنصرية للرجل الأبيض.
فلب هذا النظام المرتكز على رأس المال وهو عموده الفقري يقول فيه الكاتب في الصفحة 149 « (...) أخضعونا غصبًا لمصالحهم الأنانية الضيقة. نجحوا في تجنيدِنا وقودًا لحروبهم، مات مَن مات منّا والأحياء منّا انتدبوهم خدمًا لهم مقابل لقمة العيش. وضعونا في جيوبهم وكان هدفهم الحقير هذا من أولَى أولياتهم وأوكدِها على الإطلاق. وسائلُهم هي هي، لم تتغير عبر الزمن ورغم التطور والتحضر المشوه أوروبي المركز، ..... ». وفي موضع آخر من الكتاب وتحديدا في ص 106 يؤكد نقمته على الحداثة وما بعدها قائلا: « أنا عدوٌّ شرسٌ للحداثة وما بعد الحداثة، خاصة في ثوبها الرأسمالي المركزي-الأوروبي الحالي (eurocentrisme) "العنصري الإرهابي ».
وهنا يعطي الكاتب محمد كشكار مثال لقيم الشرق ممثلة في ماليزيا وبالتحديد ما قاله مهاتير محمد الزعيم الماليزي في ص 139.
(سنة 1996، توجه مهاتير محمد، الوزيرُ الأولُ الماليزيُّ المسلِمُ، إلى رؤساء الحكومات الغربية وقال: القِيم الآسيوية قِيمٌ كونية، أما القِيم الأوروبية فهي قيمٌ أوروبية فقط. الآسيويون يعتقدون أن الازدهارَ الاقتصاديَّ هو خيرُ دليلِ على التفوقِ الأخلاقيِّ وأن النجاحَ الماديَّ يتبعه حتمًا رجوعٌ إلى الثقافة المحلية والقوةُ الصناعيةُ تولِّدُ دومًا القوةَ الناعمةَ".)
هذا أهم ما جاء في الكتاب طبعا حسب اجتهادي ووجهة نظري. وهنا أقول للقارئ الكريم، ربما انني قد أهملت بعض الأفكار التي جاءت في الكتاب، أو بعض المواضيع. والسبب هو غزارة المواضيع التي تطرق إليها الكاتب وتنوعها وفي بعض الأحيان تشابهها وتشابكها وتداخلها. وهو عبارة عن عصارة تجربة لرجل خاض في معمعان الحياة السياسية والنقابية والفكرية والعلمية والبحثية. وقد استخلص منها الكاتب عبر كثيرة وأهمها التصالح مع مجتمعه وبيئته التي يعيش بين أهلها بعقلية علمية ناقدة ترفض التحجر والجمود الفكري.
انتهى التقديم
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire