ملاحظة موجهة للقرّاء عُشّاق
الفكر الحر: الفكرة،
قائلُها وناقلُها لا يتبنّيانها مائة في المائة، بل يطرحانها كأرضية للنقاش أو كفَرَضية
للإثبات أو النفي، ولا هدف لهما البتة من وراء إثباتها أو نفيها
(Deux vieux penseurs déconnectés du politique et complètement désintéressés).
فحوى الفكرة: منوالُ التنميةِ
الاقتصاديِّ الغربيِّ السائدِ والمعاصرِ هو منوالٌ عقلانيٌّ، ناجعٌ وأمميٌّ
بامتيازٍ، لكنه غير عادلٍ وغير أخلاقيٍّ بالمرّة، ملائمٌ وواعدٌ للأقلية الثرية وفي
الوقت نفسه ظالِمٌ ومُحبِطٌ للأغلبية الفقيرة. منوالٌ يستثمرُ في البُنى التحتية
(صناعة، فلاحة، طرقات، نقل، بناء، بحث علمي، إلخ) ولا يهتم كثيرًا بالبُنى الفوقية
(ثقافة، دين، عدالة اجتماعية، مساواة، طبيعة النظام السياسي، حرية التعبير، حقوق
المرأة، حقوق الأقليات، المثلية الجنسية، إلخ). منوالٌ يرى أن تحقيقَ الأولى شرطٌ
ضروريٌّ لتحقيقِ الثانيةِ وليس العكسَ.
أسوقُ أمثلة للتوضيح موجهة
لغير المختصين في الفلسفة أمثالي، ولو أن الفيلسوف لا يحبّذ اختزال الفكرة في
أمثلة قد تشوّهها إذا لم نُحسنْ اختيارَها بِحذرٍ منهجيٍّ شديدٍ. سأحاولُ:
1.
عبد الناصر استثمر في تغيير البنى الفوقية (قومية، وحدة،
عروبة، عدالة اجتماعية، علمانية، إلخ.) ولم يستثمر في البنى التحتية (تصنيع، بحث
علمي، تحقيق الاكتفاء الذاتي، إلخ.). زميله وصديقه نهرو فعل العكس، خطط للاكتفاء
الذاتي والقنبلة الذرية ووصل. فشل عبد الناصر ولم يحقق أي هدفٍ من أهدافه
الفوقية أما التحتية فحدّث ولا حرج (السد
العالي كان استثناءً وخطافٌ واحدٌ لا يصنع الربيع).
2.
جاءت بعده "الصحوة" الإسلامية، اهتمت بالأخلاق
واللباس أكثر ممّا اهتمّت بالتصنيع والبحث العلمي، والنتيجة ظاهرة للعيان ولا
تستحق مني أي تعليقٍ.
3.
ستالين الشيوعي شيّد البنى التحتية وهَدَمَ البنى
الفوقية مؤمنًا بالمقولة الماركسية "تغيير التحتية سوف يغيّر حتمًا
الفوقية". كذبت نبوءته لكنه ورغم ديكتاتوريته مع الجيل السابق فقد ترك أرضيةً
صلبةً للبناء، استفاد منها الجيل الذي جاء بعده بقيادة الديكتاتور الليبرالي بوتين.
4.
"هون سان"، الوزير الأول،
يحكم كمبوديا منذ 33 عامًا، حلّ الحزب المعارِض ويحلم بتنصيب نفسه ملكًا. هذا لم
يمنع كمبوديا من تحقيق نموٍّ بـ7 % سنويًّا خلال العشرية الأخيرة. حصل النمو بفضل تطبيق
منوالِ التنميةِ الاستغلالي العقلاني.
5.
الصين الناهضة، بلدٌ شيوعيٌّ عادلٌ وغير طبقيٍّ فوقيًّا
ورأسماليٌّ استغلاليٌّ طبقيٌّ تحتيًّا.
حزبها الشيوعي يُصَلِّي لماركس ويبشّرُ بجنّةٍ هم فيها في العيش السرير، وعمّالُها
تحت نَيْر الرأسمالية يَصْلَونَ السعيرَ.
6.
عقلي يطمح لحث كل الدول العربية على تبني منوالِ التنميةِ الاقتصاديِّ الغربيِّ السائدِ
والمعاصرِ، وقلبي يحثهم على العكس ويتمنى لقومه منوالاً وسطَا مثل منوال الدول
الأسكندنافية أو أفضل منه كثيرًا، وهو منوال الاقتصاد الاجتماعي التضامني - النوعي
- المطبّق منذ الثورة بمسقط رأسي جمنة (العمال فيه أجراء وليسوا شركاء، والمردود
المالي كله يُصرَف في المصلحة العامة). لا أعرف، هل أغبط البلدان التي انخرطت في
العولمة أم أرثي لحالها، بلدان مثل كوريا الجنوبية، ماليزيا، أثيوبيا، رواندا
وغيرها من الدول التي كانت أفقر منا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
والله أنا حائرٌ في أمري، أيهما أختار: التنمية الاستغلالية العقلانية الناجعة أو
العدالة الاجتماعية غير الناجعة في البناء؟ تراكم رأس المال، الشرط الأساسي
للتنمية، لا يمكن أن يتحقق في ظل نظام عادل اجتماعيًّا. ما الحل إذن؟ أنا مثلكم
أسأل، ومَن أنا حتى أملك جوابًا واضحًا لمسألةٍ معقدةٍ مثل هذه المسألة؟ النقد
فردي والبناء جماعي.
7.
تجربة جمنة، لا أعرف هل أعيب عليها إنجازَها لمشاريع
اجتماعية غير رِبحية (قاعة رياضة، سيارة إسعاف، مشاريع خيرية) أو أشكرها على
صنيعها الإنساني؟ لو طبقت العقلانية الرأسمالية الاستغلالية الخالية من العواطف لراكمت
ثروة وشيّدت بأرباحها مصنعًا للتمور ومركزَ بحثٍ في علوم زراعة النخيل، مصنعًا قد يدرّ عليها أرباحًا كبيرة تقدر أن
تبني بها عوض القاعة قاعتين وتشتري عوض السيارة سيارتين وتشغّل عوض العامل الواحد
عشرين عاملاً. في الآخر أقول "المتفرّجُ فارسٌ" و"أهلُ
مكةَ أدرَى بِشِعابِها"،
أعني بهم أعضاء جمعية حماية واحات جمنة وسكان جمنة. لهم مني ألف تحية، وليتسع
صدرهم لتطفلي الناتج عن إفراطٍ في الحب وجنونٍ في العقل.
إمضائي
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ"
جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأربعاء 18 جويلية 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire