jeudi 4 avril 2019

تعريف علوم الإبستمولوجيا؟ نقل مواطن العالم



كتاب "مخاضات الحداثة التنويرية. القطيعة الإبستمولوجية في الفكر والحياة."، هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، 391 صفحة.
نص هاشم صالح: Épistémologie
صفحة 25: كلمة إبستمولوجيا مؤلفة من شقين: "إبستميه" و"لوجيا": أي دراسة العلم أو علم العلم أو نظرية العلم أو فلسفة العلم، فهي إذن أعلى العلوم وأرقاها لأنها تدرُس كل العلوم بشكل نقدي لكي تبين مدى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها، إنها تشرف على العلوم من عَلِ. وهناك إبستمولوجيا مختصة بالعلوم الدقيقة، أي بالفيزياء والكيمياء والرياضيات والبيولوجيا.. إلخ، وإبستمولوجيا مختصة بدراسة العلوم الإنسانية والتاريخ أو علم النفس.. إلخ.
يكمن هدف إبستمولوجيا في التفريق بين المعرفة العمومية الشائعة في المجتمع وبين المعرفة العلمية الدقيقة.
صفحة 26: الفيلسوف الحقيقي هو الذي يتخلى عن الأفكار الشائعة والمشتركة ويحاول بلورة نظرية دقيقة عن المجتمع. هذا في حين أن الأيديولوجيين الديماغوجيين يظلون مرتبطين بعقائد عصرهم وأفكارهم الشائعة من دون نقد أو تمحيص. بل إنهم يحوّلونها إلى شعارات هدفها التعبئة وتجييش الجماهير وليس البحث عن الحقيقة. وهنا يكمن الفرق بين الإبستمولوجيا والأيديولوجيا.
صفحة 31: فلا يمكن لأي علم من العلوم الإنسانية أو العلوم الدقيقة أن يستغني عن هذا العلم "الإبستمولوجيا" الذي يبدو جديدا حتى بالنسبة للساحة الأوروبية.
صفحة 32: و لم يعد هناك من مفكر يشتغل في مجال ما إلا ويتدرب مسبقا على مناهج الإبستمولوجيا ومصطلحاتها (إضافة مواطن العالم: وهذا التكوين الأكاديمي الأساسي الضروري في علم الإبستمولوجيا هو بالضبط ما ينقص أساتذة العلوم التونسيين في الثانوي، رياضيات وفيزياء وعلوم الحياة والأرض). فعالم الاجتماع ينبغي أن يكون إبستمولوجيا، والفيلسوف ينبغي أن يكون إبستمولوجيا، والمفكر الماركسي ينبغي أن يكون إبستمولوجيا، وكذلك المختص في التحليل النفسي.. إلخ.
ويدلنا ذلك على أن الإبستمولوجي (أو عالِم الإبستمولوجيا) ينبغي أن يكون فيلسوفا وعالما في الوقت ذاته. بمعنى آخر ينبغي له أن يمارس العلوم الطبيعية قبل أن ينتقل إلى التنظير لها والارتقاء إلى مرحلة الإبستومولوجيا. وهذه هي حالة "برتراند رسل" الذي كان عالم رياضيات و فيزياء وفيلسوفا في الوقت ذاته. وهذه أيضا حالة "رينيه توم"، عالم الرياضيات الفرنسي المعاصر والذي يُعتبر واحد من أكبر علماء الرياضيات في العالم بعد أن توصّل إلى بلورة نظرية خاصة به "نظرية الكوارث أو القطيعة"...
ولكن هناك فلاسفة يمارسون التنظير الإبستمولوجي من دون أن يكونوا علماء بالضرورة... ولكنهم يكونون عندئذ مُلِمِّينَ بالمبادئ الأساسية للعلم الحديث وقادرين على الاطلاع على نتائجه ونظرياته الكبرى (إضافة مواطن العالم: اختصاصي في الدكتوراه المسمى "ديداكتيك البيولوجيا" أو "تعلميّة البيولوجيا"، كاد أن يُسمى في التأسيس في السبعينات "إبستمولوجيا التعليم" ويا ليته سُمي هكذا لكان أوضح فهما عند الناس وأقرب إلى الحقيقة العملية لأن المختص في الديداكتيك، يبدأ اختصاصه في المرحلة الثالثة بعد أن يكون قد حصل على الأستاذية في الاختصاص العلمي الطبيعي فهو إذن شخص مارس العلوم الطبيعية ثم اختص في علوم التربية ونظرا لتكوينه المزدوج ومراوحته بين المخبر والتنظير حول المعرفة العلمية نستطيع أن نعتبره عالما إبستمولوجيا صغيرا مبتدئا قد يكبر مع بحوثه وهكذا نشأ وكبر ووصل البيولوجي بياجي إلى مرتبة أعظم إبستمولوجي بعد "ڤاستون باشلار").
صفحة 62: وأما فيما يخص الساحة الفرنسية فيمكن القول بأن "ڤاستون باشلار" هو أهم عالم إبستمولوجي عرف كيف يستخلص النتائج الفلسفية المترتبة على نظرية النسبية والميكانيك الكمي الموجي.

خاتمة، قد يكون وقعُها على زملائي قاسياً جدّاً: لو كان أمرُ تعليم العلوم بيدي، لوضعتُ شرطاً لا يُنتدَب الأستاذُ دونه، ألا وهو شهادة في إبستمولوجيا الاختصاص المدرَّس، مثلاً: لا يدرِّس البيولوجيا في الثانوي إلا الأستاذُ المتكوّنُ أكاديميّاً في إبستمولوجيا البيولوجيا، مع الإشارة الصريحة أنني لم أسمع بكلمة إبستمولوجيا البيولوجيا إلا عند العودة الثانية للجامعة لدراسة ديداكتيك البيولوجيا في المرحلة الثالثة سنة  1998 وأنا في سن 46 أي بعد ما مارستُ تدريس البيولوجيا دونها طيلة 24 عام (74-98)، وأول مرة في حياتي أجتازُ امتحاناً فيها كان في نهاية السنة الدراسية 98-99 (Ma première année DEA didactique de la biologie, Université de Tunis).  

إمضائي المختصر: لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسان المجتمع، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه من أجل بناء أفراده الذاتي لتصورات علمية مكان تصوراتهم غير العلمية وعلى كل سلوك غير حضاري نرد بسلوك حضاري وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 22 مارس 2012.


mercredi 3 avril 2019

مقارنة بين السلفيين والستالينيين. مواطن العالم



مقدمة منهجية:
لستُ باحثاً في الإسلام ولا في الشيوعية. هي مجرد خواطر، ادحضوها كما شئتم فهي معروضة للغرض، لكن أرجوكم لا تتجرؤوا على كاتبها، عبدكم الضعيف.

ملاحظة: تستطيعون الاكتفاء بقراءة الفقرة الأولى دون المرور إلى الثانية لأن الفقرتين منفصلتان وليستا لنفس المؤلف.

1.     الفقرة الأولى: الإطار التاريخي والنظري للموضوع 
(Le cadre historique et théorique)، 
ترجمتُه عن لوموند ديبلوماتيك (أفريل 2019، ص.ص. 14 و15):
"المتطرّفون من الجهتين، يتشابهون" (Les extrêmes se rejoignent)، كلمة حق أُريدَ بها في أكثر الأحيان باطلاً. كما كتب المؤرّخ أُوي باكس (Uwe Backes): "كلمة تطرّف أصبحت مجالاً مشتركاً لكل نقدٍ مضادٍّ للثورة" 
(L`appellation d`”extrême” devient l`un des lieux communs de la critique antirévolutionnaire).
 طيلة قرنين من الزمن، وُظّفت هذه الكلمة لتشويه سمعة كل مشروع تغيير مجتمعي (شيوعي أو قومي أو إسلامي على السواء).
- في العصور القديمة كان التطرف يُقصَدُ به التطرف الأخلاقي. أرسطو كان يمجد الوسطية، هذا التوازن بين الطرفين، وكان يقول أن "الفضيلة تكمن بالضبط في الوسط بين الطرفين" (La vertu est le juste milieu). في القرن 14م، كان الفيلسوف نيكول أوراسم (Nicole Oresme) يعتبر أيضاً أن "الفضيلة وسطية والرذائل متطرفة" 
(La vertu est moyenne et les vices sont extrêmes)
في القرن 17م، بليز باسكال (Blaise Pascal)، هو أيضاً كان رائداً للوسطية، كتب يقول: "الذهن المتطرف متهم بالجنون، كالعيب المتطرف. لا شيء غير الرداءة يصلح" 
(L` extrême esprit est accusé de folie, comme l` extrême défaut. Rien que la médiocrité n`est bon).
 في 1782، أكد الكاتب لويس سيباستيان ميرسيي 
(Louis Sébastien Mercier)
 أن "المتطرّفين يتشابهون" لأن "الكبار والأنذال يتشابهون في أخلاقهم" 
(Les extrêmes se rejoignent.. car.. les grands et les canailles se rapprochent dans leurs mœurs).
- بعد الثورة الفرنسية (1789)، خرجت هذه الكلمة من مجال الأخلاق ودخلت في مجال السياسة، ووُلد مصطلحا اليسار واليمين: سُمي اليسار يساراً لأن البرلمانيين في المجلس التأسيسي للثورة الذين عارضوا و صوّتوا ضد "حق الملك، في تعطيل قانون صوّت عليه المجلس ("الفيتو الملكي")" كانوا جالسين على اليسار، وسُمي اليمين يميناً لأن البرلمانيين في المجلس التأسيسي للثورة الذين وافقوا وصوّتوا مع "الفيتو الملكي" كانوا جالسين على اليمين (La Gauche et la Droite). ومنذ 1791، بدأ الوسطيون يتحدثون عن "اليسار المتطرف" و"اليمين المتطرف"، خاصة للإشارة بأن المتطرفين قد يلتقون. الوسطيون الذين يدافعون عن المَلكية الدستورية (La monarchie constitutionnelle) مِثل لافيّات أو رئيس الكنيسة سياز (La Fayette ou l`abbé Sieyès) لم يتأخروا في تقديم أنفسهم كتجسيم للاعتدال والعقل.

2. الفقرة الثانية: لُبُّ الموضوع من تأليف مواطن العالم:
-         السلفيون استوردوا من السعودية الفكر الوهابي حاضرا جاهزا معلّبا، فكرا إسلاميا سلفي العقيدة حنبلي المذهب. السعودية هي البلد الوحيد في العالم الإسلامي الذي يتبنى الحنبلية كمذهب من بين المذاهب السنية الأربعة (المالكية في شمال إفريقيا والشافعية في مصر والحنفية في تركيا وأندونيسيا والحنبلية، المذهب الأقل انتشارا في العالم الإسلامي عموما).
-         الستالينيون استوردوا من الغرب الفكر الستاليني حاضرا جاهزا معلّبا، فكرا ماركسيّاً سلفي العقيدة ستاليني المذهب. كوريا الشمالية هي البلد الوحيد في عالم اليوم الذي يتبنى الستالينية كمذهب من بين المذاهب الماركسية (الستالينية، الماوية، التروتسكية، إلخ.).
-         الاثنان يؤمنان بالعنف المسلح وسيلة للوصول إلى الحكم، على الأقل في أدبياتهم وعلى حد اطلاعي لم تصدر بعدُ أدبيات تقول العكس.
-         الاثنان لا يؤمنان بالديمقراطية البورجوازية الليبرالية الغربية وسيلة للوصول إلى الحكم، على الأقل في أدبياتهم وعلى حد اطلاعي لم تصدر بعدُ أدبيات تقول العكس (يبدو لي أن هذا النوع من الديمقراطية المعاصرة هو النظام السياسي الأقل سوءاً مقارنة بالأنظمة الأخرى المعاصرة: المَلكية غير الدستورية، الاستبداد الشرقي، الخلافة الداعشية، الستالينية، الديمقراطية الشعبية، الفاشية، النازية. ويبدو لي أيضاً أن  هذا النوع من الديمقراطية التمثيلية لـمونتسكيو هو نوعٌ قابلٌ للتحسين عن طريق تطعيمه بالديمقراطية التشاركية المباشرة لـروسّو. والفضيلة، كما قال أرسطو وأكد القرآن الكريم - "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" -، تكمن في اعتماد الوسطية نهجاً في الحياة الخاصة والعامة، وليس في تبني التطرف، شيوعيّاً كان أو قوميّاً أو إسلاميّاً).  
-         الستالينيون انتزعوا السلطة من الله و أوكلوها إلى الإنسان ثم حصروها في الطبقة البروليتارية، خالقة الثروة والمتحكمة في توزيعها (دكتاتورية البروليتاريا)، ثم افتكها من هذه الأخيرة واحتكرها لنفسه رئيس الدولة الاشتراكية وزعيم الحزب الشيوعي الحاكم الدكتاتوري العبقري الملهم المعصوم مثل لينين وستالين وتروتسكي وماو وكاسترو وڤيفارا وهوشي منه وأنور خوجة وشاو سيسكو وبول بوت زعيم الخمير الحمر بكمبوديا (79-75).
-         السلفيون انتزعوا السلطة من الإنسان و أرجعوها نظريا إلى الله، خالق الثروة والمتحكم في توزيعها (الحاكمية لله)، لكنهم خانوا وعودهم ويا ليتهم ما خانوا، لأنه إذا سلمنا بأن السلطة لله وحده فلا سلطة إذن لبشرٍ على بشرٍ ولو باسم الله وتحت راية دينه، حينها تنقرض الدكتاتورية والفاشية والتوتاليتارية وتحل محلها الديمقراطية التي تنادي بحكم الشعب نفسه بنفسه. لكن السلفيين (طالبان، داعش) تولوا السلطة معتبرين أنفسهم خلفاء الله الشرعيين وظله في الأرض واستبدوا باسم الله والإسلام كما حلا لهم والله والإسلام براء منهم ومن جورهم وظلمهم، ورفعوا في وجوهنا اليوم شعار حق أُريدَ به باطل "لا نخاف إلا الله"، يا ليتهم طبقوا هذا الشعار الإنساني التحرري الذي يحث على مقاومة الحكام الظلمة الفاسدين وعدم الرضوخ لأي بشر أو طبقة مهما كان جبروتهما واستبدادهما والرضوخ فقط لعبودية المجرّد المتعالي.
-         الستالينيون اهتموا نظريا بمطلبين أساسيين، التنمية وتحرير الإنسان. الستالينية حققت جزئيا المطلب الأول وفشلت فشلا ذريعا في تحقيق الثاني بل استعبدت المواطنين البروليتاريين والعلماء المستقلين والمفكرين الأحرار واستلبت إرادتهمهم وقمعتهم ونفتهم وشردتهم وفي أكثر الأحيان قتلتهم كما فعل ستالين بمواطنيه ورفاقه وعلمائه العزل في الاتحاد السوفياتي السابق.
-         السلفيون لم يحققوا تنمية ولا تحرّراً، هدفان بقيا معلقين إلى يوم الدين.
-         اشتهر الاثنان بادعائهما امتلاك الحقيقة المطلقة وإقصاء الرأي المخالف وتقديم البديل الجاهز والجواب النمطي على كل الإشكاليات الاجتماعية والأسئلة الوجودية (يبدو لي أن لا أحد من البشر يمتلك الحقيقة ولا البديل الجاهز، لأن البديل ليس جاهزا بل هو يُصنع وينبثق من تفاعلات الآراء المختلفة والمتناقضة بين الفرقاء من البشر).
-         اشتهر الاثنان بنشر الوعي المستورَد في مجتمعاتهم المحلية، الوعي الوحيد الصحيح حسب زعمهم (يبدو لي أنه لا يحق لأي أحد من البشر أن يدّعي أنه معصوم أو في مأمن من الوقوع في الخطأ. كل واحد منا يمتلك جزءا بسيطا من الحقيقة ولا يمكن لأحد مهما علا شأنه العلمي أو الثقافي أن يمتلك الحقيقة كاملة، لا بسبب قصور فيه بل لأن الحقيقة معقدة ومتشعّبة جدا).
-         اشتهر الاثنان بالانغلاق على أنفسهم والشك في المخالفين إلى أن يثبت هؤلاء الأخيرين ولاءهم لهم (يبدو لي أن الإنسان كائن حر، الإنسان بكل أطيافه).
-         يؤمن الستالينيون بـ"الثورية-الرجعية" أي الرجوع إلى مرحلة الإنسان البدائي حيث الاشتراك في المِلكية الجماعية وانعدام الملكية الفردية الأنانية في مجتمعات ما قبل الدولة وما قبل العُملة وما قبل البرلمان وما قبل الإدارة، لذلك تراهم يحلمون بوهم انقراض الدولة كجهاز طبقي قمعي مع انقراض الطبقات ويسعون إلى إلغاء مكتسبات الحضارة البورجوازية  المتمثلة في التعددية الحزبية والتبادل على السلطة  والديمقراطية الليبرالية وحرية الرأي (نكتة واقعية: مجموعة من الشيوعيين الفرنسيين أسست سنة 1975 مجلة سمتها "ماركس أو مُتْ بغيضك" La revue « Marx ou crève » devenue ensuite « Critique communiste).
-         يؤمن السلفيون بالرجوع إلى عصر السلف الصالح وتمجيده، العصر المتجسّم في القرون الهجرية الثلاثة الأولى استنادا إلى حديث رسول الله صلى الله علية وسلم "خير القرون قرنى ثم الذى يليه ثم الذى يليه". رجعوا إلى الشكل واللباس والعادات وأرادوا إحياءها ونسوا أو تناسوا أهم شيء في السلف الصالح وهو شجاعتهم وتحررهم وعبقريتهم ومنهجيتهم في الخروج من وضعهم القبلي المتمزق وتأسيسهم لإمبراطورية موحدة، إمبراطورية ملكت يوما ما نصف العالم وأنجزت ثورة على الواقع المتخلف الذي كان سائداً قبل ظهور الإسلام.
-         الستالينيون يُسمون اشتراكيتهم بالاشتراكية العلمية ظنا منهم أنهم يضفون عليها شيئا من المصداقية جاهلين أو متجاهلين أن العلم البشري المادي علم مَبني على الخطأ والصواب والعلم هو الوحيد الذي لا يدعي أنه يمتلك الحقيقة بل يرفع شعارا مضادا لها "الشك طريق إلى مزيد من الشك" وقوته تكمن في قابليته الدائمة للتطور عبر دحض الفرضيات أو تأكيدها.
-         السلفيون يُسمون مذهبهم "السلفية العلمية"، نسبة إلى علوم الدين (والعلم هنا غير العلم عند الستالينيين والفرق بينهما شاسع، فعلوم الدين تنطلق من مسلّمة ويقين لتُقِرَّ في الآخر نفس المسلّمة وتؤكد نفس اليقين، اليقين في وجود الله وعظمته. فلا مجال إذن للخطأ والشك، فالشك يُعتبر شرك بالله والله قد يغفر لعباده كل شيء إلا الشرك بذاته الإلهية العليّة وفي آية أخرى يغفر الذنوب جميعاً).
-         اشتهر الاثنان بالعنعنة (قال فلان عن علان) وتحنيط النصوص الوضعية البشرية وتقديس منظّريهم وزعمائهم كماركس وأنجلس ولينين وستالين وڤيفارا وماو بالنسبة للستالينيين، أما بالنسبة للسلفيين فشيخ السلفية ابن تيمية والألباني ومحمد بن عبد الوهاب الذي يقولون عنه أنه: "حنبلي المذهب سلفي العقيدة" (يبدو لي أنه يكون من الأفضل نقد النصوص عوض تحنيطها ونقد الزعماء لا تقديسهم مهما علت مرتبتهم العلمية بالمعنى المادي أو المعنى الديني للكلمة، وحري بالمفكر الحر أن لا يتخذ من الحكام مَثَلاً أعلى مهما كانت عظمة إنجازاتهم الاجتماعية).
-         اشتهر الستالينيون بِنَعْتِ خصومهم بالرجعيين والانتهازيين والبورجوازيين الكبار والصغار وأعداء الثورة  والطابور الخامس وهددوهم بالتصفية الجسدية عن طريق العنف الثوري المسلّح. لكن قيادتهم الحزبية الستالينية الطلائعية استثنت نفسها من الانتماء إلى طبقة البورجوازية الصغيرة وادعت بجرة قلم انسلاخها من هذه الطبقة، وهي في الواقع تعيش مثل الطبقة البورجوازية أو تطمح إلى ذلك. نسوا أو تناسوا أن ماركس لم يستثنهم ونَعَتَ الطبقة البورجوازية الصغيرة المثقفة كلها بالانتهازية والتذبذب والتردد والتوق للحاق بالطبقة البورجوازية.
-         اشتهر السلفيون بِنَعْتِ خصومهم بالكفار وأعداء الله والإسلام وهددوهم بالصلب وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وفعلتها داعش في سوريا.

خلاصة القول: الإيديولوجيتان (السلفية والستالينية) مستوردتان. يبدو لي أنه يجب على المفكر الحر أن يتوجس خيفة من الأفكار المستوردة رغم إيماني العميق بأن الفكرَ الإنساني فكرٌ عالمي. لكن علي الفكر الإنساني العالمي أن يتفاعل مع ثقافة المجتمع حتى يستوعب هذا الأخير معنى هذا الفكر ومقصده فيقبله ويهضمه ويكيّفه ويؤقلمه ثم يوظفه أحسن توظيف لخدمة تقدم وطنه إلى الأفضل.
لو كان الستالينيون صادقين مع أنفسهم لطبقوا أفضل حكمة ماركسية في الوجود "من كل حسب جهده و لكل حسب حاجته"، ولو كان السلفيون صادقين هم أيضاً مع أنفسهم لطبقوا أفضل قولة في الوجود لأفضل خلق الله كلهم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، لو صدق الاثنان  لمَا وصل حال الستالينيين اليوم إلى تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الشيوعية في العالم، و لمَا وصل حال المسلمين اليوم إلى ما وصل إليه من انحطاط و تخلف علمي وتقني واجتماعي.

ملاحظة عابرة ومعبّرة: في حمام الشط، عرفتُ سلفيّاً واحداً (جاري المهذب وتلميذي السابق وابن المرحومة زميلتي)، سلفيّاً أهداني مرةً كتاباً حول السلفية "العلمية"، وعرفتُ ستالينيّاً واحدًا، ستالينيّاً يَعُضُّ!

أول نشر على النت: حمام الشط في 25 جوان 2012. تعديلٌ وتحيينٌ في 4 أفريل 2019.

mardi 2 avril 2019

أيهما أفضل؟ النقد البنّاء أو النقد الهدّام؟ مواطن العالَم



تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 20 جويلية 2011.

أوحَي إليّ بهذا المقال تعليقٌ من تعاليق قارئ من قرّائي، قال فيه أن كل مقالاتي السياسية "مقالات هدّامة"! قد يكون هذا الأخير قصَد التجريح في شخصي من وراء نقده لمقالاتي وهو لا يدري أنه في الوقت نفسه قد منحني وقلدني وسام المشاركة في ممارسة الهدم لنظامنا العربي السياسي الحالي! وهل في بنائنا التونسي السياسي منذ 60 عاما ركن لا يستحق الهدم؟ وهل يُشكر أو يُذم من يهدم فكريا بكل ما أوتي من قوة نظام بورقيبة وبن علي وثالثهما حكم السبسي؟

أكثر الناس يصنفون النقد إلى بنّاء وهدّام. أما أنا، فيبدو لي أن النقد يكون دائما بنّاءً حتى ولو اقتصر على ذكر السلبيات وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "رحم الله امرئ أهدى إليّ عيوبي". لو لم يكن البناء غير قابل للهدم لاستعصى على معاوِلِنا التقليدية ولو كان هشا فحسنا فعلنا به وأرحنا الناس من شروره.

تقتصر مهمة الناقد حسب رأيي على رصد السلبيات فقط وهو ليس مطالبا بتقديم البديل لما ينقد لأنه وبكل بساطة لا يملك البديل ولا يمكن أن يملكه أحد بمفرده مهما غزر علمه وزادت ثقافته وعلت شهائده. ينبثق البديل من تفاعل ذكاء أفراد العينة المستهدفة بالنقد، مثلا أنا أنقد نظام التفقد البيداغوجي التونسي في بعض جوانبه السيئة التي تمسني في عملي كأستاذ ولست مؤهلا أن أعطي بديلا شاملا وجاهزا لهذا النظام فأهل الذكر من المتفقدين المستنيرين أدرى مني بشعابهم وقد يكون في حوزتهم مقاربة أشمل لتطوير اختصاصهم.

من أطاح بـالرئيس المخلوع بن علي وشرع في هدم نظامه؟ النقد الهدام أو النقد البناء؟
ماذا فعل رجال العلوم السياسية، محترفوها ومتطفلوها بالنقد البنّاء؟ كلهم ودون استثناء شكروا وثمّنوا وهللوا وصفقوا وناشدوا وكتبوا قصائد في حب بن على ونظامه الفاسد. يبدو لي أن اختصاص العلوم السياسية، الرأسمالية والاشتراكية، خُلق أساسا لتبييض وجه الأنظمة الرأسمالية المتوحشة ونظيراتها، الأنظمة الاشتراكية الديكتاتورية.

ماذا فعل أمثالك وأمثالي وأمثال ملايين التونسيين، بالنقد الهدّام؟ خرجوا عزّلا ساخطين إلى شوارع مدن وقرى تونس، فهُمُ من كنس بن على وعصابة الطرابلسية. لكن للأسف الشديد، زرعوا ولم يحصدوا! بدؤوا ولم ينهوا! هدموا ولم يبنوا! لقد سرق ثورتهم "البنّاؤون" الذين اختصوا في الركوب على الثورات مثل الذين ركبوا على ثورات أكرانيا وجورجيا وتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.

الهدم أسهل ألف مرة من البناء، فهو لا يتطلب مختصين، خاصة عندما يكون النظام فاسدا من الداخل، فيصبح مَثله كمَثل الثمرة المتعفنة التي تسقط بمجرد هبة نسمة. البناء أصعب ويتطلب صبرا ويستدعي مختصين، تستطيع أن تقتلع نخلة من جذورها بضربة آلة جرّافة لكن غِراسة نخلة تتطلب جهدا كبيرا وحفرة عميقة ورعاية يومية لمدة خمس سنوات على الأقل قبل أن تنعم بدﭭلتها الذهبية اللذيذة في الفم والغالية في السوق.

يبدو لي أننا لا نستطيع الفصل الميكانيكي بين الهدم والبناء، لأنهما مفهومان متكاملان ومتلازمان في الطبيعة ونجدهما مثلا في تحول الماء من سائل إلى غاز ومن غاز إلى سائل: "الماء خليط من هيدروجان وأوكسيجان ...من ذا أتوم ومن ذاك أتومان". يتحد غاز الأوكسيجان مع غاز الهيدروجان فيكوّنان جزيء الماء. تهدم الحرارة هذا الجزيء فيتحرر الاثنان وهكذا دواليك إلى نهاية الكون، هدم - بناء - هدم - بناء...لا وجود لاستقرار في الطبيعة رغم توهم العكس. الجسم البشري، مثلا، يَهدم و يَبني جميع مكوناته يوميا ويفقد ويجدّد مليارات الخلايا، تراه ساكنا وهو متحرك ماديا في مستوى النانو (جزء من مليار)، يهدم ويُعيد تشكيل جزيئاته المعدنية كل فمتو ثانية (جزء من مليون مليار).

أقدّم لكم في النهاية نموذج الـ"هدم\بناء" 
(Modèle allostérique: Construction\Déconstruction\Construction et ainsi de suite)، 

مقاربة الـ"هدم\بناء" في التعلّم والتدرّب لصديقي (أثناء انعقاد مؤتمرات التعلّمية بتونس) العالم البيداغوجي والتعلّمي الفرنسي أندري جيوردان:
يتمثّل هذا النموذج في الاستفادة من التصورات غير العلمية للتلميذ ونفيها في نفس الوقت. مثلا: يتصور التلميذ أنّ النبتة الخضراء تتغذّى من التربة فقط. نفنّد تصوره هذا الذي يتأرجح بين العلمي وغير العلمي بالتذكير بالنباتات التي تعيش خارج التربة تماما  في الماء أو في الهواء مجهريه كانت أو مرئيّة والنباتات الطفيليّة التي تعيش على كاهل نباتات أخرى دون تربة. نتساءل ونقول: لماذا ننفي دائما جملة وتفصيلا تصور التلميذ ؟ فتصوره يحتوي على جزء من الجواب الصحيح فالنبتة تأخذ بعض غذائها المتمثّل في الأملاح المعدنيّة والماء من التربة وتستخرج أغلب غذائها من ثاني أكسيد الكربون المتوفّر في الهواء المحيط بها عن طريق وظيفة التركيب الضوئي 
(La photosynthèse).
 يتعلّم التلميذ في هذه الحالة بالاعتماد على تصوراته القديمة (تتغذّى النبتة من التربة) وفي نفس الوقت ضدّ هذه التصورات (تتغذّى النبتة من الهواء). يتكوّن هذا النموذج الثنائي المتضاد من العمل مع/ضد التصورات غير العلمية للتلميذ ويتضمن عدة متناقضات يجب المحافظة عليها وإذكائها عند اختفائها وهي التالية:
-         يتطلب التعلم مجهودا يتناقض مع اللذة, لكن قد يحتوي هذا المجهود على لذة تسمى لذة بناء المعرفة وهي محرك مهم للبحث عن الجديد.
-         يعارض المدرس التلميذ ويكشف له عن عدم علمية تصوراته لكن في نفس الوقت يساعده على تجاوزها وعلى بناء تصورات علمية بديلة: يهدي عكازين طبيين لمعوق عضوي قبل أن ينتزع منه عكازيه التقليديين.
-         يفقد المتعلم توازنه الذهني عندما يتلقى معارف تنفي معارفه الراسخة والمريحة لكن في نفس الوقت يستطيع هضم المعارف الجديدة بمساعدة المدرس والأقران فيستعيد توازنه الذهني ويبقى في حالة "توازن \ لا توازن دائم" أو في حالة هدم - بناء - هدم - بناء...لا يستقر له وضع، في حالة تحول وتجديد وتطور دائم. التوازن الفكري الدائم: موت ذهني قبل الموت البدني!

إمضاء  مواطن العالَم
"الذهن غير المتقلّب ذهنٌ غير حرّ".
لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
"الكاتب منعزل إذا لم يكن له قارئ ناقد".
عزيزي القارئ, عزيزتي القارئة، أنا لست داعية، لا فكري ولا سياسي, أنا مواطن عادي مثلك، أعرض عليك  وجهة نظري المتواضعة والمختلفة عن السائد, إن تبنيتها, أكون سعيدا جدا, وإن نقدتها, أكون أسعد لأنك ستثريها بإضافة ما عجزت أنا عن إدراكه, وإن عارضتها  فيشرّفني أن يصبح لفكرتي معارضون.
البديل يُصنع بيني وبينك، البديل لا يُهدى ولا يُستورد ولا ينزل من السماء (قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وواهم أو ديكتاتور من يتصور أنه يملك البديل جاهزا.






lundi 1 avril 2019

في الجزائر، "حكّام الظل" حجبوا الشمس عن الشعب! لوموند ديبلوماتيك، ترجمة وتأثيث مواطن العالَم



جمعة أقوى من جمعة، يخرج ملايين المواطنين الجزائريين إلى الشارع مطالبين برحيل بوتفليقة وطغمته الحاكمة، والنظام يناور بِتَلَكِّئٍ خسيس للمحافظة على الوضع الحالي (statu quo). الشعب لم يصدّقهم وتواصلت الاحتجاجات ونجحت في فضح أكثر فأكثر مافيوزية العصابات الحاكمة.
حراك شعبي تاريخي لا مثيل له منذ الاستقلال في جويلية 1962، حراك سلمي 100% عمّ كل التراب الجزائري بما فيه مدن الجنوب البعيدة عن العاصمة (أكثر من 1000كلم)، حراك ضمّ كل الأجيال وخاصة الشباب المتهم عادة بعدم اهتمامه بالسياسة: اعتصامات، تحرّكات قطاعية (محامون، طلبة، أساتذة جامعيون، صحفيون، متقاعدو الوظيفة العمومية، إلخ.)، شعارهم الأكبر "سلمية.. سلمية". كلهم يطالبون برحيل النظام برمّته ويخصون بالذكر الأخوين بوتفليقة، سعيد وناصر. يريدون جمهورية ثانية وبعضهم ينادي بمجلس تأسيسي (على غرار ما حصل في تونس سنة 2011). قوات الأمن كانت في البداية توفيقية، وصلت في بعض الأحيان إلى درجة التعاطف مع المتظاهرين (في تونس حصل تعاطف بين الجماهير و قوات الجيش وليس مع الشرطة).
الرئيس لم ينطق ولو بكلمة منذ 2014، عاجز عن القراءة والكتابة والفهم (aphasique) نتيجة إصابته بسكتة دماغية (AVC: Accident Vasculaire Cérébral) وذلك حسب تسريبات سرية لعدة مسئولين كبار في الدولة.

الجزائريون يتساءلون: مَن يقرر في الكواليس ويكتب باسمه رسائله الموجهة إلى شعبه؟ مَن يعيّن ويعزل وزراءه الأُول؟ مَن هو صاحب فكرة "المؤتمر الوطني" 
(La conférence nationale)؟ 
والسؤال الأكبر: مَن هُمُ "حكّام الظل" الذين يحكمون في الجزائر من وراء الستار؟
الرئيس الشهيد بوضياف قال: "لا أعرف كل "حكّام الظل"، أعرف منهم فقط مَن دعاني ومَن نصّبني رئيسًا". فكّر المسكينُ مجرد تفكير في الاستقلال عنهم فاغتالوه بعد 6 أشهرٍ من تعيينه، ودُفن سرُّهم معه. بعده بدأت تظهر بعض الأسماء مثل: الجنرالات، العربي بالخير، خالد نزّار، محمد مِدْيِنْ شُهر توفيق، محمد لعماري، وإلى اليوم لا أحد يعرف كيف قرر هؤلاء قَبْرَ "الربيع الجزائري" أي فترة الانتقال الديمقراطي التي وُلدت بعد الأحداث الدامية في أكتوبر  1988 (الحصيلة غير الرسمية: 600 ضحية) والتي انبثق عنها تحرير الصحافة المكتوبة والتعددية الحزبية. 

مَن هُمُ محرّكو المومياء بوتفليقة؟ الحكّام، لماذا يختبئون؟ شعارات رُفعت في مظاهرات جمعة 15 مارس.
سلطة مركبة من ثلاثة أقطاب: قيادة الجيش بالبدلة العسكرية 
(Le pôle des militaires en tenue)، 
استعلامات الجيش دون بدلة عسكرية 
(Le pôle des militaires en civil
 ومؤسسة الرئاسة. ثلاثة رؤوس متنافسة لكنها مُجمِعة على المحافظة على النظام، لو اتفق إثنان منهم فقط يُنفذ القرار. خلافًا لما يعتقد الكثيرون، حزب جبهة التحرير لا يحكم البلد (مثل تونس في عهد بن علي، حزب التجمع لم يكن يحكم)، وعلى العكس فمؤسسة الرئاسة هي التي تتحكم في مكتبه السياسي (أعلى سلطة في الحزب). قيادة الجيش بالبدلة العسكرية واستعلامات الجيش دون بدلة عسكرية، هما اللذان عزلا الشادلي بن جديد (1979-1992) وليامين زروال (1994-1999). بوتفليقة سعى بسرعة لاسترجاع وزن قطب الرئاسة، تارة برفع الصوت وغالبًا بطريقة مسرحية معلِنا أنه لن يكون أبداً "ثلاثة أرباع رئيس" 
(Trois quarts de président)!

هذا التوكيد يوحي بأن الرئيس لن يسمح بـ" ربيع جزائري" جديد وانه يريد استرجاع كل السلطات بيد قائد بلا منازع مثل بومدين (مات في 1978 ولم ينجح بوتفليقة في خلافته). رَفْضُه لكل محاولة انفتاح يرجع إلى الوسط الثقافي السياسي الذي تربى فيه: وزير خارجية سابق (1963-1979) ينتمي إلى جيل ممارسة الحكم دون عوائق رغم تصريحاته الخدّاعة عندما قال في سطيف في 8 ماي 2012 بأن جيل الثورة قد انتهى وحان وقت تخليه عن السلطة (آخر خطاب علني وجهه للشعب). تصريحاته هذه لم تمنعه من البقاء حتى اليوم، أفريل 2019 ولم تمنعه أيضاً من إغلاق المجال السياسي "بالظبة والمفتاح" في وجه الكفاءات الصاعدة والواعدة بغدٍ أفضلَ للجزائر الغنية. وَعَدَ جنرالات العسكر بعدم ملاحقتهم في الجرائم التي نُسبت إليهم خلال "العشرية السوداء" (1991-2000): حالات الاختفاء القسري، تورطهم في مجازر مدنية جماعية. يتبجح بأنه رجل استرجاع واستتباب الأمن الذي وقع التفاوض فيه قبل توليه السلطة، مذكّرًا العسكر بما سيخسرونه لو عزلوه. مناورٌ ذكي نجح في استغلال المنافسة التاريخية بين مؤسسة قيادة الجيش بالبدلة العسكرية ومؤسسة استعلامات الجيش دون بدلة عسكرية. سنة 2002، ربط علاقة متينة بالجنرال أحمد ڤايد صالح قائد أركان الجيش ونائب وزير الدفاع منذ 2004 (رجل التصريحات الأخيرة في مارس 2019: تطبيق البند 102 ثم 7، 8)، "أكبر جندي حامل للزي في العالم"  حسب النكتة الشعبية (79 عام، وبوتفليقة هو من مدد له 19 عام بعد سن التقاعد)، وهو الجنرال بالزي الذي يجسم انتصار قيادة الجيش "بوبرطلّة" على قيادة استعلامات الجيش دون "برطلة".

لكن قيادة استعلامات الجيش لم تُسلِّم بالأمر الواقع ولم تستسلم للهزيمة: سنة 2010، استغلت تَورّط بعض المقرَّبين من الرئيس في الفساد ونجحت في إبعاد مسئولين كبار في شركة البترول (Sonatrach) واتهمت وزير الطاقة، شكيب خليل، المقرَّب المزعوم من بوتفليقة. عملية عين أميناس الإرهابية (جانفي 2013) أعطت فرصة لمؤسسة الرئاسة و مؤسسة قيادة الجيش بالبدلة العسكرية لتحجيم صعود نجم استعلامات الجيش دون بدلة عسكرية، نجحت المؤسستان المتحالفتان في تنحية رجل الاستعلامات القوي، الجنرال محمد مدين شُهر توفيق في سبتمبر 2015 ونجحتا أيضاً في اقتسام صلاحيات مؤسسة الاستعلامات بينهما. في ربيع 2013، توفرت الفرصة أخيرًا ليصبح بوتفليقة رئيساً بـ"أربعة أرباع " 
(Aux quatre quarts
 لكن صحته منعته من الوصول إلى مبتغاه وأصيب بسكتة دماغية يوم 27 أفريل من نفس السنة (2013)، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت السلطة الجزائرية أكثر تعتيماً.

منذ توليه السلطة حرص بوتفليقة على إضعاف سلطة الجيش بجناحيه وذلك عن طريق تسمية أقاربه من الغرب الجزائري (تلمسان) على رأس بعض المؤسسات المدنية (المجلس الدستوري، محكمة الحسابات، إلخ.). ناوَرَ من أجل كسب ولاء المؤسسات التمثيلية (البرلمان، الأعراف، النقابات) وأجبرها على اعتماد أسلوب التملق الذليل، أسلوبٌ يفوق أسلوبَ أمراء الخليج، أسلوبٌ لا يليق برئيس جمهورية الجزائر (بوتفليقة عاش سنوات في منفي اختياري بدويلة قَطَرْ)، وبدأ عصر عبادة الشخصية وأصبحت صوره في كل مكان ولا يُذكر اسمه إلا مسبوقاً بـ"فخامته" (Son Excellence).

استحوذ أخواه على ثقته المطلقة ودون تسمية رسمية أصبح أخوه سعيد (جامعي يصغره بعشرين سنة) يتدخل باسمه وينهى ويأمر الوزراء والولاة وحتى السفراء الأجانب في الجزائر لم يسلموا من شطحاته. عديد من الوزراء مدينون له بمناصبهم ولا يرفضون له طلبا. أما الوزير الأول فهو ينفذ تعليمات الرئاسة أو ينسق بين أقطاب السلطة الثلاثة (الرئاسة، قيادة الجيش، الاستعلامات العسكرية) مثل ما فعل أحمد أُويحي. ومنذ 2013، لم يخرج وزيرٌ أولٌ من قبضة الرئيس أو قبضة قُطبه.

سنة 2002 وداخل قطب الرئاسة صعد نجمُ قطبٍ جديدٍ، نجمُ رجال الأعمال المقربين من سعيد بوتفليقة فتضخمت ثرواتهم من أرباح الصفقات العمومية المشبوهة (الجزائر قبضت 1000 مليار دولار من بيع النفط بين سنة 2000 و2015، ثروة صُرفت لصالح رجال أعمال فاسدين مستفيدين متواطئين مع مؤسسة الرئاسة وعلى رأسها المافيوزي الكبير شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة).
سعيد بوتفليقة لم يشارك في حرب التحرير فهو إذن لا يملك شرعية خلافة أخيه وتولي الرئاسة بعده دون أن يثير حفيظة الشعب الجزائري وغضبه. أما ڤايد صالح فعُمره وزِيه العسكري لا يساعدانه على الترشح. نظام بوتفليقة في زنڤة حادة (Dans l`impasse)، لم يتوصّل إلى إيجاد حل يَحظَى بالإجماع لذلك نراه يلجأ لربح الوقت بالتمديد لبوتفليقة أو بعزله دون إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري.

الشعب يرفع شعار "يتنحّاو ڤاع" (Qu`ils dégagent tous). لم ينجح النظام في بث البلبلة في صفوف المتظاهرين رغم استعماله لطرق رخيصة مثل شراء ذمم بعد البلطجية مثلما حصل في الثورة المصرية والثورة السورية في 2011، ولم تنطلِ على الشعب كذبة المؤامرة الخارجية. غَيَّرَ ڤايد صالح من لهجته وصرّح في 10 مارس: "الجزائر محظوظة بشعبها، والجيش أيضاً  محظوظ بشعبه"، وبعد عشرة أيام حَيَّ الـ"الوعي الشعبي العميق للمتظاهرين" مقدِّراً أن "لكل مشكل حل، بل عدة حلول".
وسائل الإعلام الجزائرية لا حظت أن ڤايد صالح لم يعدْ يذكر اسم الرئيس فتساءلت عن نواياه الحقيقية. هل يقبل العسكريون، بالبدلة أو دونها، بتغيير سياسي جذري ويتخلوا عن احتكار السلطة؟ أحد الضباط أسرّ: "قيادة الجيش خائفة من الاعتقال والمحاسبة". أما الشعب والذي كنا نظنه مستقيل فقد برهن على نضج مثير للإعجاب. بقي على الجيش القيام بثورة في داخله وذلك بالخروج نهائيّاً من دائرة التطاحن القطبي على السلطة السياسية والرجوع إلى ثكناته وتأدية واجبه في حماية حدود الوطن والحفاظ عن استقلاله والذود عن حرمته الترابية.

Référence: Le Monde diplomatique, avril  2019, Extrait de l`article «Lutte de clans au sommet, En Algérie, les décideurs de l`ombre», par Akram Belkaid et Lakhdar Benchiba, Journalistes, Alger, pp. 1, 16 et 17

إمضاء مواطن العالَم
"أنا عند الإسلاميين شيوعي وعند الشيوعيين إسلامي! لأن المفكر الحر يستحيل تصنيفه.." المفكر الإيراني الإسلامي الحر علي شريعتي، صديق الفيلسوف الفرنسي اليساري الملحد جان بول سارتر الذي قال: "لو أجبرتُ يومًا على اختيارِ دينٍ، لاخترتُ دينَ صديقي علي شريعتي".
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ، لا أراهُ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ سياسيًّا كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
 و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.
يا أولِي الألباب، حارِبوا (Votre AND, héréditaire, sauvage, agressif et égoïste) بواسطة: L`épigenèse cérébrale, acquise, éducatrice, altruiste et civilisatrice (Sujet de ma thèse de doctorat en didactique de la biologie, UCBL1, 2007

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الثلاثاء 2 أفريل 2019.