كتاب "خطاب الهوية. سيرة
فكرية" لعلي حرب، الطبعة الأولى 1996، دار الكنوز الأدبية، بيروت لبنان، 176
صفحة.
نص علي حرب:
صفحة 97: ولا تزال هذه المدنية
(الغربية) على ما تتكشف عنه اليوم من انهيار وفساد، تُبهر الإنسان بمعالمها
ومنجزاتها، بمبتكراتها وأساليبها. والحق أن هذه المدنية وإن عنت عند قيامها
"انسحاب الآلهة" من على مسرح الوعي والفكر، فإنها كانت تنفيه من وجه لتُبقي
عليه من وجه آخر. فقد توارى الله عند أولئك القوم في أحاديته وملكوته ليبقى حاضرا
في عالم الشهادة، أي في أسمائه وصفاته وفي نسبه وتجلياته. وهو تجلى عندهم في نزوع
الإنسان إلى النظام والترتيب إذ الله هو ناموس الكون، وفي نظافة المدينة وجمالها
إذ الله هو الجمال. وتجلى في تفتح العقل وازدهار العلم، إذ العلم صفة من صفاته.
وتجلى في البحث عن الحق، والله هو الحق. وبالإجمال، إنه تجلى في وقوف الإنسان عند
حده ومعرفته أن حده حيث يكون غيره. والله حد بين الإنسان وغيره، بل بينه وبين نفسه.
وهذه الوجوه والتجليات قد جسدتها المدنية الغربية في مبتداها وذروتها مقدارا من
التجسيد. وهكذا كان الإيمان يتوارى خلف الجحود والإنكار.
صفحة 100: ففي الحالة الأولى أي
حال أمته، كان التوحد الوجه الآخر للشرك والجحود والتفرقة. وفي الحالة الثانية، أي
حالة الغرب، كان الجحود الوجه الآخر للتقى والوحدة. وعند ذلك تبين له خطل الرأي
الذي لا يرى من الإنسان إلا وجها واحدا بعينه أو هيئة مخصوصة بالذات.
وها هو يعاني مع أبناء بلده
(لبنان) وملته (الشيعة) وسائر الملل والمذاهب (سنّة ودروز ومسيحيين وأرمينيين)
التي تحيا على أرض وطنه، يعاني من آثار الوثنية التي مثلت وتمثل الوجه الخفي
للإيمان والتوحيد. إنه يرى شِركا وجحودا فيما وراء التوحيد، ويرى جاهلية جَهلاء
فيما وراء الشريعة السمحاء: تنابذا وفرقة واقتتالا وأزلاما وأنصابا وآلهة تمشي على
الأرض. فالناس في بلده لا يكفّون عن اتخاذ أهوائهم وأموالهم ورؤسائهم آلهة من دون
الله. وكأن الإنسان مفطور على الصنمية، مطبوع على الوثنية، يحطم وثنا لكي يصنع
آخر، ويخلع نصبا لكي يقيم آخر.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire