سعادةٌ لا مثيل لها ومتعة لا
تضاهيها أي متعة حسية (طعام، شراب، جنس، إلخ) خاصة بعد الستين عندما تذبل عندك
الحواس الخمس وما تفرّع عنها (مال، جاه، سلطة، سياحة، إلخ).
رجل العلم، عادةً ما يكون
جاهلاً بالفلسفة بل ويحتقرها ويقول عنها، ومعه ظاهريًّا حق، أنها لا تصلح لشيء،
وأنا كنتُ أقول مثله.
"درستُ" الفلسفة عام
في الباكلوريا وعام ثانٍ الفلسفة القديمة (الإغريقية) بالمراسلة في جامعة رينس
الفرنسية. درّسني في الباكلوريا أستاذ ماركسي وأوهمني أن الإيديولوجيا الماركسية
فلسفةٌ، فأضعتُ شبابي كله في قراءة مجلدات لينين وأنجلس وروزا ولوكاش وماو
وستالين، دون مبالغة آلاف من الصفحات وآلاف من الساعات لقراءتها والتعمق في
معانيها الجوفاء، لا أقول عن الساعات أنها ذهبت هدرًا بل أقول أخطأتُ العنوان،
مؤلفات لكنها للأسف لا ترتقي لمصاف الأطروحات الفلسفية. تعلمتُ متأخرًا ومؤخرًا أن
الفيلسوفَ غير متعصبٍ لإيديولوجيا أو لا
يكون (أو لدين أو لقومية).
الفيلسوف الفرنسي ميشيل سارّ،
قال: "المتعلمون صنفان ، صنف المثقفين الجهلة بالعلم (des intellectuels ignorants, ceux des sciences
humaines) وصنف العلماء غير المثقفين أو الجهلة
بالفلسفة (des savants non intellectuels,
ceux des sciences exactes et expérimentales)".
رجل العلم، أتكلم عن نفسي في
اختصاصي الأول (إجازة في البيولوجيا، 1993)، كنتُ أجد صعوبة كبيرة في فهم النصوص
الفلسفية (J'ai lu et je n'ai rien compris: Le
néant de Sartre, L’esprit scientifique de Bachelard, Les mots et les choses de
Foucault, etc)، وكنت أقول "لو قرأ محمد كشكار مؤلفًا في الفلسفة
وفهمه" فهذا دليل قاطع على أن المؤلِّفَ ليس فيلسوفًا جهبذًا.
كيف يتحول رجل العلم إلى مثقف
أو عارِف بالفلسفة؟ عندما يتحرر من سجن اختصاصه العلمي، لذلك نرى أن جل أطبائنا
ومهندسينا وأساتذة العلوم غير مثقفين أو جهلة بالفلسفة.
سارتر الفيلسوف، قال يومًا عن
العالِم أنشتاين: "أصبح مثقفًا مذ أصبح ينقد اختصاصه، أي ينقد كارثة القنبلة
النووية في هيروشيما سنة 1945".
الفيلسوف ميشيل سارّ قال: "منذ
تلك الحادثة سنة 1945، ذهبت ثقتي المطلقة في العلم، اختصاصي رياضيات، واتجهت
للفلسفة، ومثلي ولنفس السبب، فعل كثيرٌ من العلماء".
كمْ أعشق الفلاسفة ذوي النسَب
العلمي، أمثال: البيولوجي هانري أتلان، عالِم الوراثة ألبير جاكار، الفيزيائي ﭬاستون
باشلار، جائزة نوبل في الطب كريستيان دو دوف (1974)، إلخ.
أتكلم عن نفسي في اختصاصي
الثاني (دكتورا في الديداكتيك أو إبستمولوجيا تعليم البيولوجيا، 2007)، درستُ
الإبستمولوجيا، أي معرفة المعرفة أو الاختصاص الضروري للتجسير بين العلماء الجهلة
بالفلسفة والمثقفين الجهلة بالعلم لكي يصبح الأولون علماء غير جهلة بالفلسفة.
لا أستطيع أن أقول عن نفسي
عالِمًا، ليس من باب التواضع السخيف، بل لأن العالِمَ هو منتِجٌ للعلم، وما أنا
إلا ناقلٌ أمينٌ للعلم، كذالك لا أستطيع أن أقول عن نفسي فيلسوفًا، ليس من باب
التواضع السخيف أيضًا، بل لأن الفيلسوفَ هو منتِجٌ لنظريةٍ فلسفية متكاملة وما أنا
إلا مولعٌ مبتدئٌ بالفلسفة.
إن الإبستمولوجيا، ورغم أهميتها،
ليست كل الفلسفة، لكنني أراها أنا أفضل طريقة لدخول مجال الفلسفة خاصة بالنسبة
لرجال العلم أمثالي التوّاقين للخروج من براديـﭬم اختصاصهم العلمي الضيق (Toute science est par
définition réductrice).
الفلسفة هي الاشتغال على
الأخلاق (La philosophie travaille sur
la morale. Michel Onfray).
الفلسفة هي التفلسف حول رغباتك
(La philosophie, c’est
philosopher sur ses désirs. Michel Onfray).
الفلسفة هي تفكيك الأساطير (La philosophie, c’est
déconstruire les mythes. Michel Onfray)
الفلسفة هي اقتفاء أثر
الإيديولوجيات (La philosophie, c’est traquer
les idéologies. Alain Deneault).
الفلسفة هي التفكير حول آليات
التفكير نفسها (La philosophie, c’est
critiquer et réfléchir sur les modalités de pensée).
الفلسفة لا تصلح لشيء أو لبعض
الشيء لكن هذا البعضُ هو في الواقع كل شيء (La philosophie ne sert à rien ou presque rien, mais ce
presque rien est le tout. Paul Ricœur ).
الفلسفة هي هدمُ التصورات غير
العلمية أو غير العقلانية (La philosophie, c’est la déconstruction des
conceptions non-scientifiques ou non rationnelles. Participation de Mohamed
Kochkar).
خاتمة:
إذا كنتَ مثلي شيخًا متقاعدًا
فقيرًا (يعني لا تقدر ماديًّا ولا صحيًّا على مُتع النمط الاستهلاكي "الحداثي")،
ومتخليًا بإرادتك عن رئاسة البيت (أو مخلوعًا، في هذا العمر الفارق لا يهم)، ولك
زوجة صالحة نصّبت نفسها مكانك، ولم تدرس أكاديميًّا الفلسفة، وتقِرّ بإعاقتك
الذهنية، وتتنازل عن كبرياء الجهلة، وتريد تدارك ما فاتك من أرقى المعارف
(الفلسفة) بطريقة أكاديمية، فليس مطلوبًا منك أن تسجل في جامعة، أو تذهب
لحضور محاضرات يقدمها تجار الفلسفة، أو تقرأ لفلاسفة يستحيل عليك فهم نصوصهم، لا
لقِصرٍ فيهم بل لقِصرٍ فيك أنت، فعليك بجامعة اليوتوب المجانية (YouTube)، تستدعي
فيها وفي أي وقت أﭬدعها فيلسوف، تأمره يتكلم يتكلم، تأمره يصمت يصمت، تأمره يعيد
يعيد حرفيًّا، عبدٌ لك وحدك لا ينازعك في ملكيته أحد، عبدٌ لا يكل ولا يمل ولا
يرفض لك طلب. فيلسوفٌ محاضرٌ يشرحٌ ويعطي أمثلة تسهّل على أمثالي وأمثالك ما تعسّر
فهمه مباشرة من النصوص الفلسفية الجامدة والخالية عادة من الأمثلة (Ils ont raison, les exemples
sont souvent réducteurs d’idées)
وإذا كنتَ محظوظًا مثلي وناب
عليك النواب، وفُتِحَ في وجهك الكتاب، وأراد الله أن ينزع عن ناصيتك الحجاب،
ويهديك إلى طريق الصواب، يبعث لك جليسًا
يوميًّا فيلسوفًا يتمّم لك مكارم الفلسفة (هو فيلسوف حمام الشط واسمه الحقيقي حبيب بن حميدة، أستاذ فلسفة
متقاعد، لكن للأسف الشديد وخسارة لأمثالك فهو فيلسوفٌ يفكرُ ولا يكتبُ).
إمضائي (مواطن
العالَم البستاني، متعدّد الهُويات، l’homme semi-perméable، أصيل جمنة ولادةً وتربيةً، يساري غير ماركسي حر ومستقل، غاندي
الهوى ومؤمن بمبدأ "الاستقامة الأخلاقية على المستوى الفردي" - Adepte de l’orthodoxie spirituelle à l’échelle
individuelle):
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك، فدعها إذن إلى فجر آخر"
(جبران)
À un mauvais discours, on répond par un bon discours
et non par la violence. Le Monde diplomatique
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 19 ديسمبر 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire