mardi 26 mars 2019

حركات الإسلام السياسي (أو الصحوة الإسلامية بمتطرّفيها ومعتدليها): هل نفعت المسلمين أو أَلْحَقَت بِهِم ضَرَراً، وهل أعلت رايات الحضارة العربية-الإسلامية أو نكّستها؟ مواطن العالَم



مقدمة توضيحية لرفع كل لَبس وإن لم يُرفع فالذنبُ ليس ذنبي:
أنا أرى نفسي حداثيًّا لا أشبه الحداثيين، عَلمانيًّا لا أشبه العلمانيين، يساريًّا لا أشبه اليساريين، مسلمًا لا أشبه الإسلاميّين. هويةٌ مركبةٌ معقدةٌ (Composite & Complexe)، هويةٌ تضم عدة هويات، هويات اخترتُها وفي نفس الوقت لم أخترها، ومن منكم صنع شخصيته بنفسه أو اختار زمانه أو اختار مدرسته ولغتها، قَدري وأنا راضٍ به وأتحمّل مسؤولية ازدواجيتي وأحاول التوفيق جدليًّا بين هويتي الأمازيغية-العربية-الإسلامية الموروثة وهويتي العَلمانية-اليسارية-الأممية المكتسبة.

لم أنجح بعدُ وأنا في الـ66 من عمري لكنني لم أيأس أيضًا: مرحلةٌ هجينةٌ صعبةٌ أمرُّ بها، مرحلةٌ تتناقض ظاهريًّا مع مقاربة الأصالة التي أعرضها عليكم في هذا المقال فاصبروا عليّ أرجوكم ولا تتعجلوا في حكمكم. أملي أن لا تدوم هذه الازدواجية طويلاً ولم يبق في العمر إلا "رشفةً"! مرحلةٌ ربما تكون كالمَمرِّ الإجباريِّ 
(Un passage obligatoire ).
 مرحلةٌ ليست بغريبةٍ عن تاريخنا. مرحلةٌ تشبه المرحلةَ التي مررنا بها في العهد العباسي (الثالث والرابع هجري): قرنَيْ الاستفادة والنهل من كل الحضارات وخاصة تعريب الفلسفة الإغريقية واكتشاف العلوم التجريبية الجنينية، قرنَين لو واصلنا في نهجهما لَكُنا ربما سبقنا قرن الأنوار الفرنسي (القرن 18م)؟

أؤكد لكم أنني سأقدّم تحليلاً فكريًّا منحازًا لحضارتي العربية-الإسلامية لكن دون تعصّبٍ ودون موقفٍ عِدائيٍّ من الحضارة الغربية لأنني أومن بتلاقحِ الحضارات وعالمية العلم والفكر اللذان انبنت عليهما حضارتُنا (الحضارات الفارسية والبيزنطية والمسيحية واليهودية، أضيف إليها الحضارة الأمازيغية في المغرب الكبير الأمازيغي-العربي-الإسلامي). تحليلٌ لا يُخفي وراءه أهدافًا إيديولوجية أو سياسية لكنه يتضمن أهدافًا حضارية إنسانية منفتحة على العالم أجمع (العولمة التي أعنيها ليست العولمة السائدة اليوم والمركَّزة خاصة على الحضارة الغربية، وكأن لم تُخلَق حضارات غيرها، وليست عولمة التعصب الديني الإسلامي المنغلق على نفسه والمتعالي على الآخرين)، فمَن صدّقني منكم فبارك الله فيه ومَن كذّبني فالله يُسهّل عليه، أكتفي دومًا بعرض مقاربتي ولا أنتظر خَراجَها فهو ليس لي وحدي، مقاربتي لا أجمّلها، لا أسلعِنها، لا أسعى ولا يعنيني إقناع الآخرين بوجاهتها، و كما قال جبران: "إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ".

هذا التحليلُ الذي سأقدمه قد يُزعج الإسلاميين، هو بالفعل نقدٌ موجهٌ ضد سياساتهم لكنه ليس موجهًا ضد مرجعيتهم المعلنة والمتمثلة في الركائز الأساسية للحضارة العربية-الإسلامية ومبادئها وقِيمها، ولا موجهًا أيضًا ضد مؤسساتها الأصيلة غير المهجّنة.  في المقابل هو تحليلٌ قد يُفرحُ الحداثيين وخاصة اليساريين منهم لا لوجاهته بل يكفيهم أنه أزعج خصومهم التقليديين، الإسلاميين.

التحليلُ:
يقول الفلاسفة أن الحضارات كالفرد الحي، تمرّ بنكسات وهزائم، تمرض أحيانًا، وإذا استفحل بها المرض وضعفت مناعتها الذاتية فقد تموت بل تنقرض وتصبح حكرًا على الباحثين المختصين في علم الآثار (Archéologie)
 وعلم الأنتروبولوجيا ( Anthropologieدراسة المجتمعات الإنسانية الغابرة): مثل الفرعونية، البابلية، الإغريقية، الرومانية وغيرها.

كيف نشخّص مرض الحضارات وما هي علاماته الظاهرة؟
عندما تنهزم حضارةٌ أمام الحضارات المعاصرة لها والمنافسة، تنقص مناعتها الذاتية فتعجز أجسامُها المضادة (مبادئها، قِيمها ومؤسساتها الأصيلة) عن مقاومة الفيروسات الغازية (استعمار، غزو مادي وثقافي، استغلال، نهب، إلخ) عندئذٍ تلتجئ الحضارة المريضة المغلوبة لاستعمال مضادات حيوية من صُنعِ الغالب (مبادئ الغالِب، قِيمه ومؤسساته التي أنشِئت من أجله ولصالحه لا لصالحنا).

كل حضارة مريضة، مهما كان اسمها، لا ينفعُها إلا طبيبٌ من صُلبِها ودواءٌ من صُنعِها، ومرضُ الحضارة العربية-الإسلامية لا يُشفيه إلا التداوي بالأعشابِ العربيةِ ( L`indigénisation: مثل ما فعلت الصين فنهضت هي وجاراتها وأخواتها، رجعوا إلى قِيم حضارتهم الكنفوشيوسية، الحضارةُ التي هضمت الرأسمالية والشيوعية بواسطة أنزيمات ذاتية داخلية محلية أصيلة)!

لنفرض جدلاً أن الإسلامَ السياسي هو الطبيبُ، فما هي وصفته إذن؟ هل دواؤه من صُنعه أمْ هو دواءٌ مستوردٌ؟
الحزب الهرمي الستاليني، البراڤماتية أو الماكيافيلية أو المنفعية الانتهازية، الديمقراطية التمثيلية الشكلية، الصندوق المزوَّر سلفًا بالمال السياسي الفاسد، النظام الرئاسي، الدولة القطرية (L’état-nation)، الرأسمالية الجشعة، التجارة الحرة المشطة، الهندسة المعمارية الغربية بمواد مستوردة، البنوك الربوية، دور العجّز، الطب الغربي اللائنساني، العنف على الطرق الغربية الحديثة (الفاشي والنازي والأناركي الفوضوي والستاليني)، سلعنة جسم المرأة، الصناعة والفلاحة المعاديتان للتوازن البيئي، إلخ. كل هذه الأدوية أراها غير ملائمة لجسم حضارتِنا، لذلك لم يتعافَ المسكينُ، ولم ينفعه العقارُ الغربي المستورَد، بل تعكّرت صحّتُه، وكلما تعكرت أكثر زدناه من هذا الدواء-الداء، فأصبح على شفى حفرة أو أقل قليلاً، والله وحده هو المغيث، لكنه سبحانه حذّرنا ولم نسمع كلامه عندما قال لنا: "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ولم يقل بأيادي الغرب وآلياته المغشوشة المسمومة، أي حمّلنا مسؤوليةَ مصيرنا كاملةً غير منقوصةٍ فلا يحق لنا إذن التعلل بنظرية المؤامرة، المسكّنُ الأخطر من دوائهم-الداء.

خاتمة ليست بخاتمة:
كيف أتصور دواءً من صُنعنا؟ (Attention: لستُ فقيهًا ولا إسلاميًّا فأعطوني حريتي واطلقوا يديَّ، لستُ داعيةً وما جنيتُ ولا تجرّأتُ على أحدٍ فأرجوكم لا تجنوا ولا تتجرّؤوا عليَّ. اجتهادٌ لو أصبتُ فيه فلي أجران ولو أخطأتُ فلي أجرٌ واحدٌ، وأنا قنوعٌ بما كُتِبَ لي.):
1.     الخلافة.. لا تستغربوا! الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أليست خلافة؟ فلماذا نثمّن خلافتهم ونخجل من خلافتنا؟ الأحباس.. لا تستغربوا! أليست جائزة نوبل نوعًا من الحُبُس؟ الزكاة! أليست هي الضريبة على الثروات (Taxe sur les grosses fortunes)؟ على شرط الترفيع فيها حتى تصل إلى 75% من أرباح الرأسماليين السنوية الصافية. أليست هي المطلب الأساسي لحركة "السترات الصفراء" في فرنسا؟ التطوع لوجه الله (Le bénévolat)! أليس قيمةً من قيمِنا؟ استغلال الجوامع للتثقيف الاجتماعي غير المتناقض مع القيم الإسلامية النبيلة كالإيثار والكرم والمروءة والشهامة والعفو وكظم الغيظ وكبح الشهوات والصدق في القول والإخلاص في العمل، إلخ.

2.     سبق وأن كنت صريحًا معكم يا إسلاميون وقلتُ لكم صراحةً أنني مسلم فرنكفوني الدراسة والمطالعة عربي اللسان والكتابة، أممي يساري جمني غير ماركسي، لذلك أرجوكم لا تخلطوا بيني وبين الطبيب الإسلامي (حركات الإسلام السياسي بمتطرفيها ومعتدليها): أولا، أنا أرفض رفضًا باتًّا وصفة المتطرفين الجهاديين (القاعدة وداعش وأخواتها) لأنني - وكما قلت وكررت مرارًا - غانديّ الهوى من الدماغ إلى النخاع، وأحب الناس جميعًا دون استثناءٍ أو تمييزٍ من أي نوعٍ. ثانيًا، أما المعتدلين منهم فلي معهم تقاطعات كما كان لي وما زال، تقاطعات مع اليسار الماركسي دون أفضلية لطرفِ على حساب طرفٍ آخر.

3.     لوفرضنا جدلاً أنني أخذتُ مكان  الطبيب الإسلامي (حركات الإسلام السياسي بمتطرفيها ومعتدليها)، فماذا عساني فاعلٌ أمام الجسم المريض (الحضارة العربية-الإسلامية المعاصرة)؟
سأتصرف مع المريض كطبيب وقائي وليس كطبيب علاجي (الطبيب الإسلامي)، أي لن أصف للمريضِ أي دواء، بل أنصحه فقط بأن يلقح نفسَه بنفسِه: الجسم الملقح يصنع سلاحه بنفسه ولا يستورده، ينتج أجسامًا مضادةً (Anticorps) من عبقرية جهازه المناعي ولا يستعمل مضادات حيوية مستوردة (Antibiotiques).

4.     أعرف حدود ثقافتي الإسلامية ولستُ مخوّلاً أو مؤهلاً لتقديم النصح لأحد، وأعي جيدًا أن النقدَ فرديٌّ أو لا يكون والبديلَ جماعيٌّ أو لا يكون، واجبي يتمثل في الإشارةِ للخلل والإصداحِ بأنه خورٌ، ثم أتركُ أصحاب الشأن يقيّمون شأنهم (أعني بهم المسلمين العاديين أمثالي وأمثالك وليس الإسلاميين بكل طوائفهم) ، يشخّصون أمراضَهم المتعددة ثم يصنعون تلاقيحهم بأيديهم، والشفاء نسعى إليه والنتيجة مضمونة بحول الله.

إمضاء مواطن العالَم
"أنا عند الإسلاميين شيوعي وعند الشيوعيين إسلامي! لأن المفكر الحر يستحيل تصنيفه.." المفكر الإيراني الإسلامي الحر علي شريعتي، صديق الفيلسوف الفرنسي اليساري الملحد جان بول سارتر الذي قال: "لو أجبرتُ يومًا على اختيارِ دينٍ، لاخترتُ دينَ صديقي علي شريعتي".
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ، لا أراهُ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ سياسيًّا كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
 و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الثلاثاء 26 مارس 2019.


lundi 25 mars 2019

التربية الصحية بين الممكن والمطلوب ؟ مواطن العالم





تاريخ أول نشر على الفيسبوك: حمام الشط في 19 ديسمبر 2008.

استوحيت هذا المقال من محاضرة حضرتها في الحمّامات بمناسبة الأيام الوطنيّة الثانية لتعلّميّة علوم الحياة والأرض في  28-31  مارس 2007، قامت بها الأستاذة ومقرّرة أطروحتي  السيدة "دو كرفالو"   من جامعة  "دو منهو"  في البرتغال حول "رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن".
إنّ التعريفات المقدّمة في هذا المجال لمفهوم " رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن" تعريفات عديدة، وسوف نكتفي بالتعريف  الموثّق في "ميثاق أوتاوا" لسنة 1986 : يتمثّل "رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن" في منح الشعوب كل الوسائل التي تحقق لها تحسين صحّتها ومراقبتها، والسماح للمجموعات أو الأفراد بتحقيق طموحاتهم وتلبية حاجياتهم والتطوّر والتكيّف مع محيطهم.

سوف نحاول في ما يلي إجراء مقارنة بين "النموذج الطبّي السّائد" (الطبّ الممارَس من قِبل بعض الأطبّاء في بعض مستوصفاتنا وبعض مستشفياتنا وبعض مصحّاتنا الخاصّة) وبين مفهوم " رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن" وهو النموذج المطلوب. 
1.     النموذج الطبّي السّائد في تونس:
-         يقع التركيز على المرض لا على المريض، وكأنّ الأمراض بمعزل عن ظروف حياة المريض وحالته النفسية ومحيطه الاجتماعي والسياسي والثقافي والعاطفي والبيئي والاقتصادي والتراثي والديني وغيره من العوامل المتداخلة والمتشابكة التي تنبثق منها الحالة الصحية للمريض.
-         يُصنّف المرضى من قِبل الطبيب حسب نوعيّة الأمراض فقط ويعالَجون على هذا الأساس.
-         يحتكر المهنيّون من أطبّاء وممرّضين وبيولوجيّين كلّ السلطة على المريض وكلّ المعلومات حول المرض ولا يشرّكون المريضَ في معرفة مرضه بدعوى جهله والجاهل أوْلى بالتحسيس والتثقيف الصحي لو كانوا حريصين على شفائه.
-         الطبيبُ يسأل المريضَ عن تاريخه الوراثيّ فقط (مثلا: هل لك قريب مريض بالسكري؟) ولا يهتم بحاضر المريض ومستقبله انطلاقا من نسق التفكير  السائد في علوم الحياة والذي يتلخص في القول بأن الوراثة هي السبب الوحيد المحدّد للمرض ناسيا أو متناسيا أو جاهلا الأسباب الأخرى المكتسبة منذ أن خَصّب الحيوان المنوي الذكرِي بويضةَ المرأة، عوامل تحدث داخل الرحم قبل الولادة لأن الجنين يتغذى من مكونات دم أمه، وعوامل خارج الرحم بعد الولادة مثل النظام الغذائي والعناية الصحية والقدرة الشرائية وغيرها.
-         يبدو لي أنّ بعض المهنيّين في الصحة يعتبرون أنّ المريض ليس في حاجة لثقافة صحّيّة فلذلك لا يُعْلِمه بالتفاصيل ويأخذ القرار الطبي مكانه دون استشارته (مثلا: إجراء عملية).
-         أحيانا لا يتطرّق الطبيب تمامًا إلى التاريخ الصحّي للمريض وظروفه الاجتماعية وفي جل الحالات لا يوجد دفتر تاريخ صحي موثق للمريض.
-         في جل الحالات يذهب الطبيب مباشرة إلى تشخيص المرض وكأنّ المرض ليس في المريض.
-         يتعامل الطبيب مع العضو المريض في جسم المريض كما يتعامل الميكانيكيّ مع قطعة غيار في محرك سيارة، فيبدِّل أو يصلح القطعة الفاسدة دون الاهتمام بحالة الجسم ككائنٍ حيٍّ.

2.     النموذج الطبّي المطلوب " رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن التونسي:
-         يجب أن يقع التركيز، لا على الأمراض فقط، بل على صحّة الأفراد والمجموعات وظروف حياتهم اليوميّة.
-         يجب أن يُصنّف المرضى على أنّهم بشر يعيشون داخل مجموعة ثقافيّة معيّنة ولا تُختزل هُويّاتهم في أنواع أمراضهم.
-         يجب على الطبيب أن يحترم المريض ويثمّن معرفته بمرضه ويشرّكه في تشخيص الدّاء مهما كان مستوى المريض الثقافي.
-         يجب فتح موقع في الأنترنات لكل مواطن منذ ولادته وعلى نفقة الدولة. يحتوي هذا الموقع على ملفّه الصحّي ويكون تحت مراقبة المريض أو السليم المهتم بوقايته الذاتية. بعد استشارة المريض, يطّلِع الطبيب على الملف الطبي ويستفيد منه قبل مقابلة المريض.
-         يجب على الدولة أن توفّر للمواطن ثقافة صحّيّة حتّى يشارك في اتّخاذ قرارات تهمّ صحّته لكي يطبّقها عن اقتناع.
-         يبدو لي أن اعتماد الأعشاب الطبيّة للتداوي قد يكون أقل ضررا للجسم، لكننا نرى أن هذه الأعشاب تُباع في بلادنا بأغلى الأثمان في الصيدليات.
-         على المواطن التونسي تخصيص أكثر وقت للزوجة والأطفال والأصدقاء والفسحة والسياحة والمطالعة والثقافة والأنترنات.
-         على الدولة تحسين الظروف المعيشيّة للمواطن من تدفئة وتكييف في المسكن والعمل والنقل.
-         على المواطن التونسي محاولة المزيد من التحكّم في التوتّرات النفسيّة المهنيّة والعائليّة إذا أمكن ذلك وهو أمرٌ صعبٌ.
-         على المواطن التونسي ممارسة الرياضة بانتظام في قاعة رياضة أو خارجها، والعشرون دينارا التي سيدفعها للقاعة شهريا سوف يعوضها صحة قد تُغنيه عن شراء أدوية باهظة الثمن.
-         على المواطن التونسي محاولة العمل بنظام غذائي متوازن مع العلم أن هذا الحلم ليس في متناول جل التونسيين.
-         على الدولة واجب تحسين القدرة الشّرائية لدى المواطن التونسي لعلاقتها الوثيقة بصحّته.
-         على الجامعة التونسية إجراء أبحاث أكاديميّة حول "التداوي العربي التقليديّ" بالأعشاب علّنا نكتشف علاجًا لأمراضنا يكون رخيصا وبيولوجيا.
-         قد يتراءى لبعض القراء أنّ المرضى غير مؤهّلين للخوض في المجال الصحّي الهام في حياة الإنسان لكن كلنا يعلم أنّ الصحّة اليوم هي مسؤوليّة مشتركة بين المريض والطبيب وقد يأتي يوم يشخّص فيه المريض مرضه بنفسه.

نرجع الآن إلى اختصاصنا التربوي وننقد المقاربة الصحّية الوقائيّة في المدرسة التي تتّسم بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" والتي فَرضت للأسف نماذج سلوكيّة عامّة وجاهزة  لا تترك مجالا للفروقات الإجتماعيّة لدى التلاميذ والأمثلة عديدة: لا تشرب الخمر لأنّها حرام. لا تتتعاطى المخدّرات لأنّها مضرّة. لا تدخّن. لا تمارس الجنس. كن دائما لطيفا ومهذّبا.
لذلك نرى أنّه من واجبنا تقديم مقاربة صحّية مدرسيّة بديلة تتمثل في النقاط التالية:
-         تشجيع التلميذ على ضمان استقلاليته تجاه السلوكات غير الصحّية وبعض المنتوجات الطبيّة والابتعاد ما أمكن عن الغرائز والإنفعالات والأفكار المسبّقة وسلطة الإعلام والقوالب الجاهزة في الموضة والرياضة.
-         تعزيز الثقة بالنفس لدى التلميذ وتدريبه على التحكّم في التوتّر وإتّقاء الأخطار المحدقة به وإنقاذ الآخرين إن استطعنا إلى ذلك سبيلا.
-         تنبيه التلميذ لدور المصانع غير المؤهّلة وبعض وسائل الإعلام في تدهور المحيط الصحّي والنفسي للمواطن.
-         إبراز دور القدرة الشرائيّة والحبّ والضحك والأصدقاء والنظام الغذائي في رفع المستوى الصحّي للمواطن.
-         توفير التجهيزات الصحيّة الكافية والنظيفة والفضاءات الترفيهيّة والتدفئة والتكييف داخل المدرسة ووسائل النقل.
-         حَثُّ العاملين بالمدرسة على ملاءمة سلوكاتهم الصحيّة اليوميّة مع ما يتلقّاه التلميذ من تربية صحّية.
-         دَمْجُ التلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصّة في المدرسة وتوفير تسهيلات لوجستيكيّة لتنقّلهم وتعلّمهم.
-         تشريك التلاميذ والأساتذة والقيّمين والأولياء ومِهنييّ الصحّة والسلط المحليّة ورجال الأمن ورجال المطافئ في إعداد برنامج التربية الصحّية المدرسية.
-         توفير إطار متخصّص قارّ لمعالجة المشاكل النفسيّة والعاطفيّة للتلميذ لأّنّها قد تعوق اكتسابه للمعرفة.
-         ربط تدريس التربية الصحّية بالإختصاصات الأخرى باعتبارها تربية على المواطنة ولا تقتصر على الجانب الفيزيولوجي فقط.

خلاصة القول : لو أدخلنا التربية الصحّية - كما نراها نحن ويراها غيرنا من المحبّين للإنسان - في برامج الإبتدائي والثانوي والجامعي باعتبارها مادّة قارّة بضارب محترم ولو خصّصنا لها عيادة وقائية في كل مستوصف لتحسّنت صحّتنا واستغنينا عن "الكنام" (الصندوق الوطني التونسي  للتغطية الصحية) الذي يوتّر أعصابنا كل يوم في فظاءاته الإدارية عند انتظار ساعة أو ساعتين لتقديم ورقة أو ورقتين من أجل استرجاع دينار أو دينارين.

إمضاء مواطن العالَم
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد رغم أن الشكر يفرحني كأي بشر.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي.

dimanche 24 mars 2019

جمنة وكل قُرَى تونس الستينيات تعطي درسًا في التنمية المستديمة والنظام الغذائي البيولوجي. مواطن العالم، أصيل جمنة ولادةً وتربيةً



تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، 28 جانفي 2010.

في الستينيات وفي قريتنا بالذات, لم يكن يوجد جزّار ولا بائع خضروات ولا دكان مرطبات ولا طبيب ولا صيدلية ولا مركز حرس ولا بلدية ولا مغازات لبيع الآلات الكهربائية المنزلية. في قريتنا بشر وفراشات وقطط وماعز وحمير وورد ونخل وزيتون ورمان وهواء نقي وشمس مطهِّرة وعُمدة اسمه الشيخ ابراهيم. عُمدةٌ، مهمته التوفيق بين الناس وستر عوراتهم والذود عن أعراضهم وليس الوشاية بهم لدى السلطة البعيدة في مركز المعتمدية بڤبلي (15كلم). في قريتنا, بيوت آمنة، بيوت مفتوحة على الدوام وقلوب صافية لا تعرف العنصرية ولا التكبّر, ترحّب بالجار والضيف والبعيد والقريب.

نساؤنا نساء، ورجالنا رجال، جميعهم يعمل جنبا إلى جنب في الحقل والبيت دون تفرقة في الجنس والواجبات. يكفل الجارُ أيتامَ جاره ويعوّض أباهم في الحنان والمسؤولية، والجارة تضاهي الأم في الرقة والحب. أطفالنا يحترمون الكبير وشيوخنا يربّون الصغير. قريتُنا يا ناس، قريةٌ من أجمل القُرَى وأروعها. كلمة جزار كلمة مكروهة في الأخلاقيات البيولوجية وكلمة حرس مكروهة في الأخلاقيات الريفية لاقتران الأولى بذبح الحيوانات والثانية بالسلطة المفروضة من الخارج. كل عائلة تُنتِج حاجتَها الغذائية أو تأخذها من الجار إعارة أو هِبة. لم نكن نربي خرفانا ولا أبقارا لأنها تأكل كثيرا وتشرب كثيرا (إنتاج كيلو لحم بقر يحتاج تقريبا إلى 10.000 لتر من الماء وفي الصحراء يعز الماء)، بل نربّي ماعزا ودجاجا يرعى في حرية من الصباح إلى المساء ويغذِّي نفسَه بنفسِه مثل النباتات الخضراء تقريبا. لا توجد في منازلنا حنفيات، فلم نكن نُبذِّر الماءَ ولا نستهلك منه إلا القليل الضروري. يعتمد نظامنا الغذائي على النباتات فنحن تقريبا نباتيون، لا نذبح العنزة إلا في عيد الأضحى للضرورة الدينية أو نرحمها عندما تكون مريضة.

نشرب حليب العنزة, ونأكل بيض الدجاجة, ونستعمل فضلاتهم سمادا عضوياّ فلماذا نقتلهم يا ترى؟ لا نعتدي على حيواناتنا الأليفة بالعنف وإلا لماذا نسميها أليفة؟ أليفة لأنها سلِمت من غدرنا وجشعنا ونهمنا. نأكل الفرعَ (الحليب والبيض) ونحافظ على الأصل (الكائن الحيواني الحي). لا نستهلك السكرَ الأبيض ولا الحليب الأبيض إلا في الشاي. عَطّارُنا لا يبيع الياغورط ولا الشكلاطة ولا البسكويت ولا الجبن, أراحنا الله من الأغذية المصنعة والملوَّنة والمسرطِنة. وجبتنا بسيطة جدا وبيولوجية مائة بالمائة لأننا لا نستعمل في إنتاجها سمادا كيميائيا ولا مبيدات أعشاب أو حشرات. نكتفي بما تنتجه الطبيعة ونقنع بالقليل لسد الرمق. في عيد الفطر لا نصنع حلويات لاقتناعنا التقليدي أنها ليست غذاءً بل سموما عسيرة الهضم تُنهِك "البنكرياس" والقلب والشرايين. نزرع الحبوب في السهول فيسقيها مفرّجُ الكروب, نحصدها بالسواعد والمناجل, نفصل حبات القمح عن سنابلها بطريقة تقليدية يدوية ونطحنها بِرِحِىٍّ حجرية ونغربلها ثم نصنفها كسكسي وبركوكش. مطبخُنا كان فقيرًا جدًّا لكنه صحّيٌّ جدًّا, لم نكن نعرف طبخ أطباق اللوبيا ولا الجلبانة ولا الملوخية ولا البطاطا الزعراء ولا الطاجين ولا الأرز بالفواكه ولا السمك, لا مقلي ولا مشوي. وجبتُنا مغذِّيةٌ لكنها ليست لذيذةً.

اللذةُ في الطعامْ يا سادتي يا كرامْ، تصحبها دَوْمًا الأمراض: خذ مثلا الأكل المقلي أو الدسم, يُعَدُّ من أشهى الأطعمة لكنه يدمّر القلب والشرايين, أطباقُ الحلويات المتنوعة تَنخُر الأسنانَ وتُرهِق "البنكرياس" وتُمهِّد لداء السكري، والمصبّرات المملَّحة ترفع في ضغط الدم. نطبخ ونأكل في أواني مصنّعة يدويا من الطين خالية من النحاس والألومونيوم المسرطنَين . نغسل هذه الأواني بالطين الأخضر أو الصابون الأخضر الطبيعي. لا نستهلك من الطاقة إلا القليل مما يطرحه نبات النخيل من خشب وجريد جاف. النخلة وما أدراك ما النخلة في تراثنا ووجداننا, مصدرُ رزقنا وسببُ سعادتنا, نسقيها ونمدّها بالسماد العضوي فقط، لا نغشّها ولا نسمّمها بالكيميائيات. نرعاها سنوات بحب وحنان حتى تثمر على مهلها "رطبا جنيا"، نأكل منه القليل ونبيع الكثير وما زاد عن حاجتنا نخزِّنه في أوعية خزفية لنستل روحه في لطف وأدب على مدى الفصول الثلاثة الباقية. لا تمثل المعزة في غذائنا الشيء الكثير ومع ذلك نكرِّمها ونرحِّب بها تسكن معنا في نفس المنزل ونعاملها دون مبالغة كفرد من أفراد العائلة. كانت أمي تستيقظ في أنصاف الليالي عند صياح معزتها لتراقبها وتقدّم لها الماء والغذاء. كان الغائب منا يسأل في رسائله عن العائلة وعن المعزات. عندما تلد المعزة, نحتفل بولادتها ونقدّم لها أكبر الرعاية ولا نسرق حليبها المتدفق بل نتركه لابنها. ابنها الجَدْيُ أو العَناڤ، يعني الذكر أو الأنثى، الصغيرُ الذي يملأ ساحة البيت فرحا وبهجة بقفزاته الرشيقة كالفراشة، هذه الصورة الرقيقة ما زالت عالقة بمخيلتي بعد خمسين سنة وكلما تذكرتها إلا وغمرتني سعادةٌ منعشةٌ لا مثيلَ لها.

في الثمانينيات, جاءنا التخلّفُ متنكرا في زِيِّ التمدّنِ المستورَدِ فأهلك الحبَّ والألفةَ, أصبحت بيوتُنا من حجر أصم مثل قلوبنا. جاءنا الحرسُ الوطني فأصبح الأخ يشتكي أخاه والجارُ جارَه لأتفه الأسباب فانقرض التسامح وسادت الوشاية. أغلقنا بيوتنا بالمفاتيح وكَثُرَ السرّاق. تخلى الكبير عن مسؤولياته التربوية فلم يعد يحترمه الصغير. تفشّت فينا العنصرية والقبلية وتهافتنا على السلطة الزائفة.

في التسعينيات, جاءنا الخير الكبير والنخل الكثير والفضائيات العشوائية وأصبح لنا مليونيرات و"ديماكسات".
أتمنى من كل قلبي أن لا يقتصر الغِنَى على الجيوب فقط ويشملُ القلوبَ والنفوسَ، ونتمسك أكثر بعاداتنا التقليدية الجيدة ولا نأخذ من غول الحضارة الغربية إلا ما يفيدُنا في نهضتِنا وصحّتِنا وتربيتِنا وثقافتِنا.

- جمنة: قرية جميلة في الجنوب الغربي التونسي على أبواب الصحراء الرملية.
- ديماكس: نوع من السيارات اليابانية المستعملة في النقل الفلاحي والتجاري والصناعي.
- طاجين: أكلة تونسية دسمة جدا وهي خليط مطبوخ متماسك من البيض والجبن واللحم.
- البنكرياس: غُدَّةٌ في الجسم تُنتِج الأنسولين وهو هرمون يُخفِّضُ نسبة السكر في الدم.

إمضائي
أجتهدُ فإذا أصبتُ فلي الأجرُ الموعودُ، وإذا أخطأتُ فلي بعضُه!
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران



samedi 23 mars 2019

حوارٌ بيني وبين صديقِ يساريٍّ ماتَ عامْ سبعينْ !؟ مواطن العالَم



اليسارِيُّ الحَيُّ: توجهتُ إلى مقبرة الشيوعيين، جلستُ فجلسَ جنبي حارسُ المقبرة الميتُ و"البيان الشيوعي" بين يدَيه، قرأ منه ما تيسّر ثم أخذ كُنَّشًا وقلمًا ليسجّل مناجاتي لصديقي، يرقنها في المساء ويرسلها برقيةً إلى المرشد الأعلى جوزيف ستالين (لم يُصدّقْ عندما قلتُ له أنه ماتَ منذ 1953).
موظف يؤدّي واجبَه، تركتُه وشأنَه وخاطبتُ صديقي قائلاً: يا عزيزي "توحشتك"، ظلمني أصدقاؤنا المشتركون، وكلهم كما تعرف يساريون ماركسيون، ولم أعدْ أجدُ مَن يسمعني فيهم أحدْ، بعدما عرفوا أنني تخليتُ عن ماركسيتي لكنني، لا تغضب قبل أن أكْمِلَ، والله لقد حافظتُ على يساريتي بل أضفتُ لها وطوّرتُها، خليطٌ متجانسٌ في جدلٍ خصبٍ متجدِّدِ، خليطٌ متنقِّلٌ بين  يساريةٍ  قديمةٍ، أقدم من ماركس نفسه، ويساريةٍ جديدةٍ، يساريةٍ تعاونيةٍ تضامنيةٍ كالتي انبثقت دون سابقِ إعلامٍ من رحمِ  تجربةِ مسقط رأسَينا جمنة، تجربةِ الاقتصاد الاجتماعي-التضامني بواحة ستيل: يساريةٌ متصالحةٌ مع هوية شعبنا الأمازيغية-العربية-الإسلامية، يساريةٌ لم نناقشها في دارنا الظهراوية ولم نقرأ عنها عند ماركس لا أنجلس لا لينين، ولا عند روزا لا ماو لا ستالين، ولم يحكِ لنا عنها رفيقُنا المرحوم "العامل التونسي" (#عند عودته من فرنسا.
لم آتِ اليومَ لهذا الغرض، إن شاء الله سوف أحكي لك عنها في الزيارة القادمة، لدينا وقتُ فراغٍ طويلٌ طويلْ، ولا شيء يشغلنا عن الثرثرة، أنتَ ميتٌ وأنا متقاعدٌ و"لَصْحابْ بِعْدوا ولَولادْ عرّسوا".

اليسارِيُّ الميتُ: لماذا أتيتَ إذن؟ أعرفُ أنني الأقربُ لك بين أصحابِك، ترعرعتُ معك في نفس الحي و"اطّهّرْنا في نفس اليوم وفكّيتلي حلوتي"، أعرفُك "مْعانْدِي ورأسك كاسِحْ" أما - الله غالب - أحبُّ فيك عِنادَكَ ومُكاسَحَتَكَ، "برّا كمّلْ حْكايْتَكْ، هاني باشْ نِجبِدْ سيڤارو"!

اليسارِيُّ الحَيُّ: جئتُ أحدثُك عن حزبٍ تأسسَ بعدك في بلادك، حزبٌ يضم عشرات الآلاف من العمال والفلاحين والموظفين. واجهَ مناضلوه نظامَين بوليسِيَيْن مستبدَّيْن، الأول أنت صادفتُه والثاني أشْوَمُ، جاء بعدك. ناضلوا ضد الأول والثاني أربعين عامًا بالتمام والكمال أي منذ شيّعناك حتى مُوَفَّى سنة 2010: مات العشرات منهم تحت التعذيب أو بسببه. سُجن منهم ثلاثون ألف بتهمة الانتماء إلى تنظيمٍ غير مرخَّصٍ فيه وهُجِّرَ الآلافُ منهم قسرًا. صغارُهم عاشوا يتامَى وآباؤهم أحياءٌ، يُرزَقون من "الڤميلة"، لكنهم رغم ذلك  ما زالوا أحياءً يُرزقون. زوجاتهم وأمهاتهم، سِجنُهنّ خارج الأسوارِ كان أتعسَ والمسئولية على أكتافِهنّ كانت أثقلَ. السجنُ دام أربعين عامًا، الهَمُّ ثمانين، والعذابُ اليوميُّ ترك على أجسادهم وأرواحهم وأرواح عائلاتهم بصماتٍ لن تمّحي. أربعون عامٍ من النضالِ السلميِّ تخلله ردُّ فعلٍ انتقاميٌّ مسلّحٌ في مناسبة أو مناسبتَين، أما في الأوساطِ الشعبية فكانوا كالسمكةِ في الماءِ على حدِّ تعبيرِ زعيمِكُمْ ماو تسي تونڤ.

اليسارِيُّ الميتُ: حزب عمّال وفلاحين وموظفين.. حسب ما فهمتُ. هل انخرطتَ فيه؟

اليسارِيُّ الحَيُّ: لا!

اليسارِيُّ الميتُ: ولماذا يا مُسالِم؟

اليسارِيُّ الحَيُّ: ليسوا منّا يا صديقي وليسوا في التفكيرِ مثلنا، لكنني لا أكرههم ولا أعاديهم، أخالفهم وأعارضهم وربي يسهّل عليهم، وكما قال مهبولُ قريتِنا، المرحوم الساسي بنحمد: "سْدادَتْهُمْ مَا جاتِشْ على كَسْكاسِي"!

اليسارِيُّ الميتُ: شوّقتني يا أخي لمعرفة إيديولوجية هذا الحزب، وأكادُ أجزمُ مسبّقًا أنه حزبٌ ماركسيٌّ لأن الماركسيين هم الوحيدونْ الذين لا يتغيرونْ وعلى إرثِ السلفِ دائمًا محافظونْ وفي المقاومة صامدونْ وللمواجهة المسلحة دومًا مستعدّونْ ومن الحاكمِ الشرسِ الظالمِ لا يخافونْ.

اليسارِيُّ الحَيُّ: أنا "ماكْ تِعْرِفْني هالأُووووونْ الكل منحبهاش": الوحيدونْ.. لا يتغيرونْ.. محافظونْ.. صامدونْ.. مستعدّونْ.. لا يخافونْ.. أنا لستُ مستعدًّا أن أتَحَمُّلَ عُشرَ ما تحمّلَه هؤلاء الشجعانْ! أنا غاندِيُّ الهوى، مُسالمٌ من الدماغِ إلى النخاعِ، لكنني لو أجبِرتُ على الاختيارِ بين الجُبنِ والعنفِ، لاخترتُ الثاني ودون تردُّدٍ!

اليسارِيُّ الميتُ: أعرِفْ..  أعرِفْ..  سامحني: قلتَ " النضالِ السلميِّ"، يعني ليس لهم جيشُ تحريرٍ مثل جيشِ فيدال كاسترو؟ لو كنتُ مكانَهم لأنشأتُه؟ ما سُلِبَ بالقوّة لا يُسترَدُّ إلا بالقوة! الحرّيةُ!

فاصلْ ثم نعودْ: مسكينْ الحيّْ، لم يكن يعرفُ أن لصديقِه الميتِ جارٌ ماركسيٌّ ماتَ بسكتةٍ قلبيةٍ من هولِ الفرحةِ بعدما حضرَ المؤتمر الصحفي الأول لهيئة الدفاع عن الشهيدَيْن. نهضَ هذا الأخيرُ من قبره، توجهَ بالخطابِ إلى جاره صديقي وقال: "لا تصدّق ما نقله لك صديقُكَ عن هذا الحزب، صديقك هذا.. شيوعي مرتد ولن نسمح بدفنه في مقبرتنا، مقبرة الشيوعيين الصحاحْ". 

اليسارِيُّ الحَيُّ: لا تعرْه اهتمامًا، إنه يهذي. دعني أكمل لك فصول الملحمة، صحيح إنها ليست ملحمتنا ولكن هذا لا يمنع أنها ملحمة؟ أخيرًا قامت بعد موتك في البلاد ثورة.. لا تفرح كثيرًا.. ليست ثورةً كالثورة التي حلمنا بها سنوات الشباب، ثورةً لم نناقشها في دارنا الظهراوية ولم نقرأ عنها عند ماركس لا أنجلس لا لينين، ولا عند روزا لا ماو لا ستالين، ولم يحكِ لنا عنها رفيقُنا المرحوم "العامل التونسي" (#عند عودته من فرنسا. هرب الديكتاتور الذي حكم بعد رحيلِكَ، صَدَرَ عفوٌ تشريعيٌّ عامٌّ فأطلِق سراحُ كل المناضلين الذين حكيتُ لك قصتَهم. نُظِّمَ في البلاد عُرسٌ انتخابيٌّ، عُرسٌ لا يشبهُ الأعراسَ التي عاصرتَها أنتَ في تونس أو قرأتَ عنها في البلدان الشيوعية. فازوا بالأغلبية.

اليسارِيُّ الميتُ: أنا أشك في ولائك للشيوعية مذ كنتُ حيًّا.. قلتَ ثورةً.. وغير ماركسية.. وسلمية..  وديمقراطية.. يعني رفاقنا "آوِتْ". يظهرلي أن كل ما سمعته عنك طَلَعَ صحيحًا.. أيُسمّى مناضلٌ كل مَن هبْ  ودبْ؟.. وهل يمكن أن توجدَ في العالم ثورةٌ غير الثورة البلشفية اللينينية؟.. وافرِضْ أنها ثورةٌ فهي  لم توصِلْ رفاقَنا إلى الحكم، فكيف تراوغُني وتتحايل عليَّ وتطلب مني أن أباركها.. "برّا الله لا اتْبارِكْلَكْ ولا اتْبارِكْلْهم".. غسلوا مخك، والشيء من مأتاه لا يُستغربُ.. أليس "غسلُ الأدمغةِ" اختصاصٌ من اختصاصاتهم الخسيسة؟..  لقد لقّحني جاري ضد سمومك قبل مجيئك.. فلتذهبْ أنتَ.. وثورتك.. وسِلميتك.. وتصالحك.. وديمقراطيتك.. ويساريتك غير الماركسية إلى الجحيم.. عشتُ ماركسيًّا ومتّ ماركسيًّا وأرقُدُ في مقبرة ماركسيةٍ ويوم الحشر اللهم احشرني مع الماركسيين، أما أنتَ فاذهبْ فتش من الآن على مقبرةٍ تَلُمَّكَ، أنت أصبحتَ إسلاميًّا في نظر الشيوعيين وستبقى دومًا شيوعيًّا في عيون الإسلاميين ولن تفوزَ، لا بالأولى ولا بالآخرة. 

خاتمة: رجعتُ أجُرُّ أذيالَ الخيبةِ بعدما يئستُ من أصدقائي اليساريين، الحيّين منهم والميّتين.
راجعتُ نفسي وقلتُ لها: حقيقةً لم أستفدْ منها لكن هذا لا يمنع أنها ثورةٌ حتى ولو استفاد منها معنويًّا غير اليساريين، أليسوا بشرًا مثلنا تونسيين!
راجعتُ نفسي مرّةً أخرى وقلتُ لها ثانيةً: صحيح أنهم يختلفون عني فكريًّا، لكن أليسوا هم أيضًا بشرًا ومن حقهم أن يفكّروا، لا كما أشاءُ أنا  بل كما هُمُ يشائون!

تعريف "العامل التونسي" (#): اسم جريدة شيوعية تونسية كانت تصدر في السبعينيات واسم حركة شيوعية. حركة ورثت حركة "برسبكتيف" الماركسية الفكرية الصافية الأولى، البنت شوّهت الأم وكانت أجهل خلف لأعلم سلف، نقلتها نقلةً غير نوعية وحوّلتها من ماركس أنجلس روزا لينين إلى ماو وستالين. حركة ستالينية-ماوية هي أم كل الأحزاب الشيوعية التونسية التي تأسست بعد الاستقلال باستثناء الحزب الشيوعي التونسي الذي تأسس قبل الاستقلال سنة 1934 (PCT). الجريدة كانت تُطبع في فرنسا على ما أظن وتوزَّعُ سرًّا في تونس وللشيوعيين أسرار لا يعلمها إلا البوليس. قرأتُ منها بعض الأعداد وأذكر عددًا كان يُوزَّع بكثافة في الحوض المنجمي، عدد مخصّص، لا لعمال المناجم، بل  مخصّص للخلاف بين ستالين وتروسكي (زعيمان شيوعيان "تونسيان" لو لم تخُنّي الذاكرة مثل الدغباجي وبن سديرة؟).

إمضاء مواطن العالَم
"أنا عند الإسلاميين شيوعي وعند الشيوعيين إسلامي! لأن المفكر الحر يستحيل تصنيفه.." المفكر الإيراني الإسلامي الحر علي شريعتي، صديق الفيلسوف الفرنسي اليساري الملحد جان بول سارتر الذي قال: "لو أجبرتُ يومًا على اختيارِ دينٍ، لاخترتُ دينَ صديقي علي شريعتي".
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ، لا أراهُ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ سياسيًّا كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
 و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأحد 24 مارس 2019.