lundi 25 mars 2019

التربية الصحية بين الممكن والمطلوب ؟ مواطن العالم





تاريخ أول نشر على الفيسبوك: حمام الشط في 19 ديسمبر 2008.

استوحيت هذا المقال من محاضرة حضرتها في الحمّامات بمناسبة الأيام الوطنيّة الثانية لتعلّميّة علوم الحياة والأرض في  28-31  مارس 2007، قامت بها الأستاذة ومقرّرة أطروحتي  السيدة "دو كرفالو"   من جامعة  "دو منهو"  في البرتغال حول "رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن".
إنّ التعريفات المقدّمة في هذا المجال لمفهوم " رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن" تعريفات عديدة، وسوف نكتفي بالتعريف  الموثّق في "ميثاق أوتاوا" لسنة 1986 : يتمثّل "رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن" في منح الشعوب كل الوسائل التي تحقق لها تحسين صحّتها ومراقبتها، والسماح للمجموعات أو الأفراد بتحقيق طموحاتهم وتلبية حاجياتهم والتطوّر والتكيّف مع محيطهم.

سوف نحاول في ما يلي إجراء مقارنة بين "النموذج الطبّي السّائد" (الطبّ الممارَس من قِبل بعض الأطبّاء في بعض مستوصفاتنا وبعض مستشفياتنا وبعض مصحّاتنا الخاصّة) وبين مفهوم " رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن" وهو النموذج المطلوب. 
1.     النموذج الطبّي السّائد في تونس:
-         يقع التركيز على المرض لا على المريض، وكأنّ الأمراض بمعزل عن ظروف حياة المريض وحالته النفسية ومحيطه الاجتماعي والسياسي والثقافي والعاطفي والبيئي والاقتصادي والتراثي والديني وغيره من العوامل المتداخلة والمتشابكة التي تنبثق منها الحالة الصحية للمريض.
-         يُصنّف المرضى من قِبل الطبيب حسب نوعيّة الأمراض فقط ويعالَجون على هذا الأساس.
-         يحتكر المهنيّون من أطبّاء وممرّضين وبيولوجيّين كلّ السلطة على المريض وكلّ المعلومات حول المرض ولا يشرّكون المريضَ في معرفة مرضه بدعوى جهله والجاهل أوْلى بالتحسيس والتثقيف الصحي لو كانوا حريصين على شفائه.
-         الطبيبُ يسأل المريضَ عن تاريخه الوراثيّ فقط (مثلا: هل لك قريب مريض بالسكري؟) ولا يهتم بحاضر المريض ومستقبله انطلاقا من نسق التفكير  السائد في علوم الحياة والذي يتلخص في القول بأن الوراثة هي السبب الوحيد المحدّد للمرض ناسيا أو متناسيا أو جاهلا الأسباب الأخرى المكتسبة منذ أن خَصّب الحيوان المنوي الذكرِي بويضةَ المرأة، عوامل تحدث داخل الرحم قبل الولادة لأن الجنين يتغذى من مكونات دم أمه، وعوامل خارج الرحم بعد الولادة مثل النظام الغذائي والعناية الصحية والقدرة الشرائية وغيرها.
-         يبدو لي أنّ بعض المهنيّين في الصحة يعتبرون أنّ المريض ليس في حاجة لثقافة صحّيّة فلذلك لا يُعْلِمه بالتفاصيل ويأخذ القرار الطبي مكانه دون استشارته (مثلا: إجراء عملية).
-         أحيانا لا يتطرّق الطبيب تمامًا إلى التاريخ الصحّي للمريض وظروفه الاجتماعية وفي جل الحالات لا يوجد دفتر تاريخ صحي موثق للمريض.
-         في جل الحالات يذهب الطبيب مباشرة إلى تشخيص المرض وكأنّ المرض ليس في المريض.
-         يتعامل الطبيب مع العضو المريض في جسم المريض كما يتعامل الميكانيكيّ مع قطعة غيار في محرك سيارة، فيبدِّل أو يصلح القطعة الفاسدة دون الاهتمام بحالة الجسم ككائنٍ حيٍّ.

2.     النموذج الطبّي المطلوب " رَفْع المستوى الصحّي لدى المواطن التونسي:
-         يجب أن يقع التركيز، لا على الأمراض فقط، بل على صحّة الأفراد والمجموعات وظروف حياتهم اليوميّة.
-         يجب أن يُصنّف المرضى على أنّهم بشر يعيشون داخل مجموعة ثقافيّة معيّنة ولا تُختزل هُويّاتهم في أنواع أمراضهم.
-         يجب على الطبيب أن يحترم المريض ويثمّن معرفته بمرضه ويشرّكه في تشخيص الدّاء مهما كان مستوى المريض الثقافي.
-         يجب فتح موقع في الأنترنات لكل مواطن منذ ولادته وعلى نفقة الدولة. يحتوي هذا الموقع على ملفّه الصحّي ويكون تحت مراقبة المريض أو السليم المهتم بوقايته الذاتية. بعد استشارة المريض, يطّلِع الطبيب على الملف الطبي ويستفيد منه قبل مقابلة المريض.
-         يجب على الدولة أن توفّر للمواطن ثقافة صحّيّة حتّى يشارك في اتّخاذ قرارات تهمّ صحّته لكي يطبّقها عن اقتناع.
-         يبدو لي أن اعتماد الأعشاب الطبيّة للتداوي قد يكون أقل ضررا للجسم، لكننا نرى أن هذه الأعشاب تُباع في بلادنا بأغلى الأثمان في الصيدليات.
-         على المواطن التونسي تخصيص أكثر وقت للزوجة والأطفال والأصدقاء والفسحة والسياحة والمطالعة والثقافة والأنترنات.
-         على الدولة تحسين الظروف المعيشيّة للمواطن من تدفئة وتكييف في المسكن والعمل والنقل.
-         على المواطن التونسي محاولة المزيد من التحكّم في التوتّرات النفسيّة المهنيّة والعائليّة إذا أمكن ذلك وهو أمرٌ صعبٌ.
-         على المواطن التونسي ممارسة الرياضة بانتظام في قاعة رياضة أو خارجها، والعشرون دينارا التي سيدفعها للقاعة شهريا سوف يعوضها صحة قد تُغنيه عن شراء أدوية باهظة الثمن.
-         على المواطن التونسي محاولة العمل بنظام غذائي متوازن مع العلم أن هذا الحلم ليس في متناول جل التونسيين.
-         على الدولة واجب تحسين القدرة الشّرائية لدى المواطن التونسي لعلاقتها الوثيقة بصحّته.
-         على الجامعة التونسية إجراء أبحاث أكاديميّة حول "التداوي العربي التقليديّ" بالأعشاب علّنا نكتشف علاجًا لأمراضنا يكون رخيصا وبيولوجيا.
-         قد يتراءى لبعض القراء أنّ المرضى غير مؤهّلين للخوض في المجال الصحّي الهام في حياة الإنسان لكن كلنا يعلم أنّ الصحّة اليوم هي مسؤوليّة مشتركة بين المريض والطبيب وقد يأتي يوم يشخّص فيه المريض مرضه بنفسه.

نرجع الآن إلى اختصاصنا التربوي وننقد المقاربة الصحّية الوقائيّة في المدرسة التي تتّسم بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" والتي فَرضت للأسف نماذج سلوكيّة عامّة وجاهزة  لا تترك مجالا للفروقات الإجتماعيّة لدى التلاميذ والأمثلة عديدة: لا تشرب الخمر لأنّها حرام. لا تتتعاطى المخدّرات لأنّها مضرّة. لا تدخّن. لا تمارس الجنس. كن دائما لطيفا ومهذّبا.
لذلك نرى أنّه من واجبنا تقديم مقاربة صحّية مدرسيّة بديلة تتمثل في النقاط التالية:
-         تشجيع التلميذ على ضمان استقلاليته تجاه السلوكات غير الصحّية وبعض المنتوجات الطبيّة والابتعاد ما أمكن عن الغرائز والإنفعالات والأفكار المسبّقة وسلطة الإعلام والقوالب الجاهزة في الموضة والرياضة.
-         تعزيز الثقة بالنفس لدى التلميذ وتدريبه على التحكّم في التوتّر وإتّقاء الأخطار المحدقة به وإنقاذ الآخرين إن استطعنا إلى ذلك سبيلا.
-         تنبيه التلميذ لدور المصانع غير المؤهّلة وبعض وسائل الإعلام في تدهور المحيط الصحّي والنفسي للمواطن.
-         إبراز دور القدرة الشرائيّة والحبّ والضحك والأصدقاء والنظام الغذائي في رفع المستوى الصحّي للمواطن.
-         توفير التجهيزات الصحيّة الكافية والنظيفة والفضاءات الترفيهيّة والتدفئة والتكييف داخل المدرسة ووسائل النقل.
-         حَثُّ العاملين بالمدرسة على ملاءمة سلوكاتهم الصحيّة اليوميّة مع ما يتلقّاه التلميذ من تربية صحّية.
-         دَمْجُ التلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصّة في المدرسة وتوفير تسهيلات لوجستيكيّة لتنقّلهم وتعلّمهم.
-         تشريك التلاميذ والأساتذة والقيّمين والأولياء ومِهنييّ الصحّة والسلط المحليّة ورجال الأمن ورجال المطافئ في إعداد برنامج التربية الصحّية المدرسية.
-         توفير إطار متخصّص قارّ لمعالجة المشاكل النفسيّة والعاطفيّة للتلميذ لأّنّها قد تعوق اكتسابه للمعرفة.
-         ربط تدريس التربية الصحّية بالإختصاصات الأخرى باعتبارها تربية على المواطنة ولا تقتصر على الجانب الفيزيولوجي فقط.

خلاصة القول : لو أدخلنا التربية الصحّية - كما نراها نحن ويراها غيرنا من المحبّين للإنسان - في برامج الإبتدائي والثانوي والجامعي باعتبارها مادّة قارّة بضارب محترم ولو خصّصنا لها عيادة وقائية في كل مستوصف لتحسّنت صحّتنا واستغنينا عن "الكنام" (الصندوق الوطني التونسي  للتغطية الصحية) الذي يوتّر أعصابنا كل يوم في فظاءاته الإدارية عند انتظار ساعة أو ساعتين لتقديم ورقة أو ورقتين من أجل استرجاع دينار أو دينارين.

إمضاء مواطن العالَم
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد رغم أن الشكر يفرحني كأي بشر.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire