مقدمة
توضيحية لرفع كل لَبس وإن لم يُرفع فالذنبُ ليس ذنبي:
أنا أرى نفسي حداثيًّا لا
أشبه الحداثيين، عَلمانيًّا لا أشبه العلمانيين، يساريًّا لا أشبه اليساريين،
مسلمًا لا أشبه الإسلاميّين. هويةٌ مركبةٌ معقدةٌ (Composite
& Complexe)، هويةٌ تضم عدة هويات، هويات اخترتُها
وفي نفس الوقت لم أخترها، ومن منكم صنع شخصيته بنفسه أو اختار زمانه أو اختار
مدرسته ولغتها، قَدري وأنا راضٍ به وأتحمّل مسؤولية ازدواجيتي وأحاول التوفيق
جدليًّا بين هويتي الأمازيغية-العربية-الإسلامية الموروثة وهويتي
العَلمانية-اليسارية-الأممية المكتسبة.
لم أنجح بعدُ وأنا في
الـ66 من عمري لكنني لم أيأس أيضًا: مرحلةٌ هجينةٌ صعبةٌ أمرُّ بها، مرحلةٌ تتناقض
ظاهريًّا مع مقاربة الأصالة التي أعرضها عليكم في هذا المقال فاصبروا عليّ أرجوكم
ولا تتعجلوا في حكمكم. أملي أن لا تدوم هذه الازدواجية طويلاً ولم يبق في العمر
إلا "رشفةً"! مرحلةٌ ربما تكون كالمَمرِّ الإجباريِّ
(Un
passage obligatoire ).
مرحلةٌ ليست بغريبةٍ عن تاريخنا. مرحلةٌ تشبه المرحلةَ التي مررنا بها في العهد
العباسي (الثالث والرابع هجري): قرنَيْ الاستفادة والنهل من كل الحضارات وخاصة
تعريب الفلسفة الإغريقية واكتشاف العلوم التجريبية الجنينية، قرنَين لو واصلنا في
نهجهما لَكُنا ربما سبقنا قرن الأنوار الفرنسي (القرن 18م)؟
أؤكد لكم أنني سأقدّم
تحليلاً فكريًّا منحازًا لحضارتي العربية-الإسلامية لكن دون تعصّبٍ ودون موقفٍ
عِدائيٍّ من الحضارة الغربية لأنني أومن بتلاقحِ الحضارات وعالمية العلم والفكر اللذان
انبنت عليهما حضارتُنا (الحضارات الفارسية والبيزنطية والمسيحية واليهودية، أضيف
إليها الحضارة الأمازيغية في المغرب الكبير الأمازيغي-العربي-الإسلامي). تحليلٌ لا
يُخفي وراءه أهدافًا إيديولوجية أو سياسية لكنه يتضمن أهدافًا حضارية إنسانية
منفتحة على العالم أجمع (العولمة التي أعنيها ليست العولمة السائدة اليوم
والمركَّزة خاصة على الحضارة الغربية، وكأن لم تُخلَق حضارات غيرها، وليست عولمة
التعصب الديني الإسلامي المنغلق على نفسه والمتعالي على الآخرين)، فمَن صدّقني
منكم فبارك الله فيه ومَن كذّبني فالله يُسهّل عليه، أكتفي دومًا بعرض مقاربتي ولا
أنتظر خَراجَها فهو ليس لي وحدي، مقاربتي لا أجمّلها، لا أسلعِنها، لا أسعى ولا
يعنيني إقناع الآخرين بوجاهتها، و كما قال جبران: "إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ
آخَرَ".
هذا التحليلُ
الذي سأقدمه قد يُزعج الإسلاميين، هو بالفعل نقدٌ موجهٌ ضد سياساتهم لكنه ليس
موجهًا ضد مرجعيتهم المعلنة والمتمثلة في الركائز الأساسية للحضارة
العربية-الإسلامية ومبادئها وقِيمها، ولا موجهًا أيضًا ضد مؤسساتها الأصيلة غير
المهجّنة. في المقابل هو تحليلٌ قد يُفرحُ
الحداثيين وخاصة اليساريين منهم لا لوجاهته بل يكفيهم أنه أزعج خصومهم التقليديين،
الإسلاميين.
التحليلُ:
يقول
الفلاسفة أن الحضارات كالفرد الحي، تمرّ بنكسات وهزائم، تمرض أحيانًا، وإذا استفحل
بها المرض وضعفت مناعتها الذاتية فقد تموت بل تنقرض وتصبح حكرًا على الباحثين المختصين
في علم الآثار (Archéologie)
وعلم الأنتروبولوجيا ( Anthropologieدراسة المجتمعات الإنسانية الغابرة): مثل
الفرعونية، البابلية، الإغريقية، الرومانية وغيرها.
كيف نشخّص
مرض الحضارات وما هي علاماته الظاهرة؟
عندما تنهزم حضارةٌ
أمام الحضارات المعاصرة لها والمنافسة، تنقص مناعتها الذاتية فتعجز أجسامُها
المضادة (مبادئها، قِيمها ومؤسساتها الأصيلة) عن مقاومة الفيروسات الغازية (استعمار،
غزو مادي وثقافي، استغلال، نهب، إلخ) عندئذٍ تلتجئ الحضارة المريضة المغلوبة لاستعمال
مضادات حيوية من صُنعِ الغالب (مبادئ الغالِب، قِيمه ومؤسساته التي أنشِئت من أجله
ولصالحه لا لصالحنا).
كل حضارة
مريضة، مهما كان اسمها، لا ينفعُها إلا طبيبٌ من صُلبِها ودواءٌ من صُنعِها، ومرضُ
الحضارة العربية-الإسلامية لا يُشفيه إلا التداوي بالأعشابِ العربيةِ ( L`indigénisation: مثل ما فعلت الصين فنهضت هي
وجاراتها وأخواتها، رجعوا إلى قِيم حضارتهم الكنفوشيوسية، الحضارةُ التي هضمت
الرأسمالية والشيوعية بواسطة أنزيمات ذاتية داخلية محلية أصيلة)!
لنفرض جدلاً
أن الإسلامَ السياسي هو الطبيبُ، فما هي وصفته إذن؟ هل دواؤه من صُنعه أمْ هو دواءٌ
مستوردٌ؟
الحزب الهرمي
الستاليني، البراڤماتية أو الماكيافيلية أو المنفعية الانتهازية، الديمقراطية
التمثيلية الشكلية، الصندوق المزوَّر سلفًا بالمال السياسي الفاسد، النظام الرئاسي، الدولة القطرية (L’état-nation)، الرأسمالية الجشعة، التجارة الحرة المشطة، الهندسة
المعمارية الغربية بمواد مستوردة، البنوك الربوية، دور العجّز، الطب الغربي
اللائنساني، العنف على الطرق الغربية الحديثة (الفاشي والنازي والأناركي الفوضوي
والستاليني)، سلعنة جسم المرأة، الصناعة والفلاحة المعاديتان للتوازن البيئي، إلخ.
كل هذه الأدوية أراها غير ملائمة لجسم حضارتِنا، لذلك لم يتعافَ المسكينُ، ولم
ينفعه العقارُ الغربي المستورَد، بل تعكّرت صحّتُه، وكلما تعكرت أكثر زدناه من هذا
الدواء-الداء، فأصبح على شفى حفرة أو أقل قليلاً، والله وحده هو المغيث، لكنه
سبحانه حذّرنا ولم نسمع كلامه عندما قال لنا: "لا يغير الله ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم"، ولم يقل بأيادي الغرب وآلياته المغشوشة المسمومة، أي
حمّلنا مسؤوليةَ مصيرنا كاملةً غير منقوصةٍ فلا يحق لنا إذن التعلل بنظرية
المؤامرة، المسكّنُ الأخطر من دوائهم-الداء.
خاتمة ليست بخاتمة:
كيف أتصور
دواءً من صُنعنا؟ (Attention: لستُ فقيهًا ولا
إسلاميًّا فأعطوني حريتي واطلقوا يديَّ، لستُ داعيةً وما جنيتُ ولا تجرّأتُ على
أحدٍ فأرجوكم لا تجنوا ولا تتجرّؤوا عليَّ. اجتهادٌ لو أصبتُ فيه فلي أجران ولو
أخطأتُ فلي أجرٌ واحدٌ، وأنا قنوعٌ بما كُتِبَ لي.):
1.
الخلافة.. لا تستغربوا! الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي، أليست خلافة؟ فلماذا نثمّن خلافتهم ونخجل من خلافتنا؟
الأحباس.. لا تستغربوا! أليست جائزة نوبل نوعًا من الحُبُس؟ الزكاة! أليست هي
الضريبة على الثروات (Taxe sur les grosses fortunes)؟ على شرط الترفيع فيها حتى تصل إلى 75%
من أرباح الرأسماليين السنوية الصافية. أليست هي المطلب الأساسي لحركة
"السترات الصفراء" في فرنسا؟ التطوع لوجه الله (Le bénévolat)! أليس قيمةً من
قيمِنا؟ استغلال الجوامع للتثقيف الاجتماعي غير المتناقض مع القيم الإسلامية
النبيلة كالإيثار والكرم والمروءة والشهامة والعفو وكظم الغيظ وكبح الشهوات والصدق
في القول والإخلاص في العمل، إلخ.
2.
سبق وأن كنت صريحًا
معكم يا إسلاميون وقلتُ لكم صراحةً أنني مسلم فرنكفوني الدراسة والمطالعة عربي
اللسان والكتابة، أممي يساري جمني غير ماركسي، لذلك أرجوكم لا تخلطوا بيني وبين
الطبيب الإسلامي (حركات الإسلام السياسي بمتطرفيها ومعتدليها): أولا، أنا أرفض
رفضًا باتًّا وصفة المتطرفين الجهاديين (القاعدة وداعش وأخواتها) لأنني - وكما قلت
وكررت مرارًا - غانديّ الهوى من الدماغ إلى النخاع، وأحب الناس جميعًا دون
استثناءٍ أو تمييزٍ من أي نوعٍ. ثانيًا، أما المعتدلين منهم فلي معهم تقاطعات كما كان
لي وما زال، تقاطعات مع اليسار الماركسي دون أفضلية لطرفِ على حساب طرفٍ آخر.
3.
لوفرضنا جدلاً أنني أخذتُ
مكان الطبيب الإسلامي (حركات الإسلام
السياسي بمتطرفيها ومعتدليها)، فماذا عساني فاعلٌ أمام الجسم المريض (الحضارة
العربية-الإسلامية المعاصرة)؟
سأتصرف مع المريض كطبيب وقائي
وليس كطبيب علاجي (الطبيب الإسلامي)، أي لن أصف للمريضِ أي دواء، بل أنصحه فقط بأن
يلقح نفسَه بنفسِه: الجسم الملقح يصنع سلاحه بنفسه ولا يستورده، ينتج أجسامًا
مضادةً (Anticorps)
من عبقرية جهازه المناعي ولا يستعمل مضادات حيوية مستوردة (Antibiotiques).
4.
أعرف حدود ثقافتي
الإسلامية ولستُ مخوّلاً أو مؤهلاً لتقديم النصح لأحد، وأعي جيدًا أن النقدَ فرديٌّ
أو لا يكون والبديلَ جماعيٌّ أو لا يكون، واجبي يتمثل في الإشارةِ للخلل والإصداحِ
بأنه خورٌ، ثم أتركُ أصحاب الشأن يقيّمون شأنهم (أعني بهم المسلمين العاديين أمثالي
وأمثالك وليس الإسلاميين بكل طوائفهم) ، يشخّصون أمراضَهم المتعددة ثم يصنعون تلاقيحهم
بأيديهم، والشفاء نسعى إليه والنتيجة مضمونة بحول الله.
إمضاء مواطن العالَم
"أنا عند الإسلاميين شيوعي وعند الشيوعيين إسلامي! لأن المفكر
الحر يستحيل تصنيفه.." المفكر الإيراني الإسلامي الحر علي شريعتي، صديق
الفيلسوف الفرنسي اليساري الملحد جان بول سارتر الذي قال: "لو أجبرتُ يومًا
على اختيارِ دينٍ، لاخترتُ دينَ صديقي علي شريعتي".
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ، لا أراهُ في الأنظمةِ القوميةِ ولا
اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ
على المستوى الفردِيِّ وكُنْ سياسيًّا كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
"النقدُ
هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ
القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك
فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ
والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ
جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الثلاثاء 26 مارس
2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire