قبل أن تصبح
شركة خفية الاسم ذات مسؤولية محدودة سنة 1896، كانت مشروعًا عائليا تصنع الدراجات
وبعض قطع الغيار. اليوم تشغّل أكثر من 200 ألف شخص ومنتشرة في العالم أجمع. في سنة
2008 أنتجت أكثر من مليون ونصف سيارة.
بأي معنى نستطيع
أن نقول أن شركة "بيجو" موجودة ؟
توجد عديد
سيارات "بيجو" لكن السيارات والشركة شيئان مختلفان.
لو أتلفنا جدلاً
كل سيارات "بيجو" في العالم فإن شركة "بيجو" لن تختفي بل سوف
تواصل وتنتج سيارات جديدة وتنشر تقريرها السنوي.
الشركة تملك
مصانع وماكينات وتشغّل ميكانيكيين ومحاسبين وكتبة، لكن كلهم مجتمعون لا يساوون شركة
"بيجو".
لو جاءت
كارثة وقتلت كل عمالها وموظفيها ودمّرت كل خطوط التجميع والمكاتب والمسيّرين فإن
شركة "بيجو" لن تختفي بل قد تنهض من جديد وتقترض وتنتدب عمالا وموظفين
ومسيرين جدد وتبني مصانع جديدة وتشتري ماكينات جديدة.
شركة "بيجو"
لها مسؤوليها ومساهميها (actionnaires) لكنهم لا يساوون أيضًا شركة "بيجو".
كل المسؤولين يمكن الاستغناء عنهم وكل الأسهم يمكن أن تُباع لكن شركة "بيجو"
لن تنقرض. شركة "بيجو" ممكن أن تنقرض لو أصدر قاضٍ أمرًا بِـحلّها، لكن
مصانعها وعمالها ومحاسبيها ومسؤوليها ومساهميها لن ينقرضوا أوتوماتيكيا مثلها.
باختصار يبدو
أن شركة "بيجو" ليس لها أي علاقة جوهرية بالعالم المادي.
هل شركة "بيجو"
هي موجودة فعلاً ؟
شركة "بيجو"
هي من خَلْقِ خيالنا الجمعي. القانونيون يتكلمون عن "خيال القانون".
شركة "بيجو"،
لا نستطيع لمسها باليد لأنها ليست شيئًا ماديًّا محسوسًا لكن في المقابل هي كيان قانوني
على نفس الدرجة مني ومنك، كيان يخضع لقانون الدول المتواجدة فيها : شركة "بيجو"
تستطيع أن تفتح حسابًا بريديًّا أو بنكيًّا وتملك ممتلكات عينية وتدفع الضرائب وقد
تَمْثُلُ أمام القاضي بموجب القانون إذا ارتكبت مخالفة لكنها تَمْثُلُ بشكل مستقل
عن باعثها أو المساهمين فيها أو العاملين فيها.
الفكرة التي
تقف وراء شركة "بيجو" ومثيلاتها فكرة جهنمية أو حيلة رأسمالية تحمي الرأسماليين
من الفقر والتشرد وتضمن عدم دخولهم السجن أو مصادرة أملاكهم الأخرى (منزل، سيارة،
ضيعة، جواهر، إلخ) لو أفلست الشركة.
في القرن 18م
لم يكن أمرُ أصحاب المشاريع الرأسمالية بهذه الأريحية، فصاحب مِشغل صغير مثلاً يحاسَب
كأي مواطن لو أفلس مشروعه ولم يسدد ديونه وقد يسجن أو تصادر أملاكه العائلية لسداد
الدين. لذلك كان الرأسمالي يفكر ألف مرة قبل بعث أي مشروع خوفًا على نفسه وعلى
عائلته من البؤس المحتمَل. جاءت الفكرة الجديدة وشجعت الرأسماليين على الاستثمار
دون مجازفة بسلامتهم فلو انقرضت الشركة فهو لن ينقرض ولو أفلست الشركة فهو لن يفلس
ولو أدينت الشركة قضائيًّا فهو لن يدخل السجن.
في القضاء الأمريكي،
يُعامَل هذا الصنف من الشركات كما يعامَل الأشخاص من لحم ودم.
لو ظهر عيبٌ
في سيارة "بيجو"، يستطيع الشاري أن يقاضي الشركة لا باعث الشركة. لو
الشركة اقترضت أموالا قبل إفلاسها بقليل فباعثها ليس مسؤولا عن سداد ديونها لأن
القرضَ أسنِد للشركة وليس لباعثها.
باعث شركة
"بيجو" سنة 1896، أرمان بيجو، مات سنة 1915 لكن شركة "بيجو"
ما زالت حية تُرزَق إلى يومنا هذا وممكن تزدهر أكثر وتدوم إلى مئات سنين أخَر.
Source : Sapiens.
Une brève histoire de l’humanité, Yuval Noah Harari Ed. Albin Michel, 2015, 492
pages, prix=24€.
تاريخ أول
نشر على صفحتي الفيسبوكية : حمام الشط في 6 جانفي 2025.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire