تخيلوني
في غرفتي بحمام الشط، جالسا أمام شاشة حاسوبي "العظيم"، متقشفا، زاهدا أو
محروما من الشهوات المادية، الحلال منها والحرام. أكرّس الزمن القليل الذي تبقّى
لي من مسيرتي المتعثّرة للقيام بمهمة واحدة وهي التالية: المطالعة والكتابة والنشر لتقديم وجهة نظر
مغايرة ومخالفة لما هو سائد بهدف محاولة محاربة التصورات غير العلمية وتعويضها قدر
المستطاع بتصورات علمية حتى أساهم مساهمة ولو متواضعة في تبديد ظلمات الجهل
والتعصب والانحطاط المنتشرة داخل مجتمعي التونسي.
أستعير
كل الكتب التي أقرأها من الأصدقاء والزملاء أو من المكتبة العمومية البسيطة بحمام
الشط. لا يوجد في حياتي أي حدث آخر غير الحدث الثقافي أو الفكري. كنتُ وما زلتُ
أقرأ وأترجم وأكتب وأنشر وأناقش.
بعض
الأحيان، أناقش الحجرْ إن لم أجد أمامي البشرْ. أجد في المطالعة والكتابة والنشر
والنقاش متعة ذهنية رائعة لا تضاهيها أي متعة حسية، متعة تفوق حسب اعتقادي المتعة
التي يجدها الآخرون في اللهو والأكل والشرب. تغلبتْ لديّ الشهوة المعرفية على
الشهوة المادية عكس ما يدّعي فرويد. أريد أن أعرف كل شيء لكي أنقد كل شيء.
في الواقع أنا مجروح في
العمق بسبب حرماني من التدريس بالجامعة، وصلتُ متأخرًا، دكتورا في الخامسة
والخمسين. وهذا الجرح هو الذي دفعني لكي أشتغل بالفكر، وأكرّس حياتي كلها للاشتغال بالفكر العلمي والنقد
ومحاولة تغيير الفكر غير العلمي. أريد أن أنتقم من واقع متخلف قاهر وظالم، لا ناقة
لي في انتصابِه ولا جمل، واقعٌ مجرمٌ يفرض نفسه عليّ بالقوة دون أن يترك لي حرية
الاختيار.
أعتبر
مقالاتي، قنابل فكرية موقوتة تريد أن تدمّر الأساسات غير العلمية التي بُني عليها
هذا الواقع. ولهذا السبب دخلتُ في صراع مع كل الجهات وليس فقط مع جهة واحدة: نقدت
على حد سواء، الرأسماليين والليبراليين واليساريين والقوميين والإسلاميين
والسلفيين والمسلمين واليهود والمسيحيين. أقصاني اليساريون المتعصبون من دائرة
نشاطهم السري سابقًا والعلني اليوم وأراهم حسنًا بي فعلوا، كرهني القوميون ولم
يغفروا لي تطاولي على عبد الناصر وصدام، أما المتعاطفون مع حزب النهضة فبعضهم لم
يقبل نقدي بصدر رحب. لا أعرف ماذا أفعل ؟ أسكت، أصمت،
أموت غيظا وكمدا أم أصرخ، أنفجر، أتشظّى فكريًّا كالقنبلة العنقودية ؟
عزلوني أولاد الحرام
ثم أقصوني -الله يسامحهم- أقصد -الله لا يسامحهم- ضيّقوا عليّ الخناق ولم يتركوا
لي مجالا أنشط فيه بحرية مطلقة إلا مجال العالم الافتراضي، أُبْحِرُ في لُجِّهِ كما أشاء دون قيد أو شرط
قد يحدّانِ من حريتي المطلقة في التعبير. رحم
الله أساتذتي من الفلاسفة والعلماء غير المسلمين وشملهم الله بعفوه رغم عدم إسلامهم وأدخلهم فراديس جنانه لِمَا قدّموه
للإنسانية جمعاء من خدمات جليلة لا تُحصى ولا تُعدّ، معيار الخالق في
المحاسبة يوم القيامة ليس معيار المخلوق ولا يعرفه المخلوق. أنا أراه غفورًا رحيمًا
بعباده المسلمين وغير المسلمين (مسيحيين ويهود وبهائيين ولاأدريين وكفار وملحدين
والناس أجمعين، آمين يا رب العالمين).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire