من المرجّح أن يرجع أصل هذه التصوّرات غير العلمية الراسخة في أذهان أفراد
العيّنة إلي دراستهم الثانوية التي تعتمد على أعمال العالم الفرنسي"بروكا",
مكتشف مركز الكلام في المخ( Le centre du
langage), أو إلي غياب
تدريس تاريخ العلوم في الاختصاصات العلميّة بالمعاهد والجامعات، ومَن لم يدرس الإبستومولوجيا،
لا يري أخطاء العلماء عند بناء علمهم.
في سنة 1861، وَزَنَ العالم الفرنسي "بول بروكا" أمخاخ مجموعة
من الرجال والنساء، فوجد أن مخ المرأة اقلّ وزنا من مخ الرجل. استنتج "بروكا"
علاقة سببية (لكنها غير علمية) بين النتيجة العلمية الّتي توصّل إليها و ظاهرة نقص
الذكاء المكتسب عند المرأة.
بعد 120 سنة، وفي كتابه " القياس الخاطئ للإنسان" ( La mal-mesure)، أعاد عالم الأحافير (Les fossiles) الأمريكي
"ستيفن جاي ڤولد" النّظر في أعمال بروكا فوجد أنّ معدّل وزن المخ عند
الذكور يساوي 1325 غرام، و عند الإناث 1144، فليكن الفارق إذن 181غ.
فنّد "ڤولد" هشاشة استنتاجات بروكا شبه العلمية وقال:"ينقص
وزن المخ مع العمر، وفي عيّنة بروكا
النساء أكبر سنّا من الرجال"، ثم أضاف: "يكبر حجم ووزن المخ تناسبيّا مع
القامة وفي عيّنة بروكا الرجال أطول من النساء 15
سم.
أعاد "ڤولد" تحليل معطيات بروكا فوجد أنّ الفارق في وزن
المخّ، بين رجل قامته 1.62 م وآخر
قامته 1.93، يساوي 113 غ، ورغم هذا الفارق
الكبير لا أحد يفكّر في اعتبار الرّجل الطّويل أكثر ذكاء من القصير، ولو
كان الذكاء مرتبطا بالوزن لكان حوت العنبر - وهو من الثدييات البحرية - أذكى مخلوق
على الأرض لأن مخه يزن 10 كغ.
أثبت " ڤولد" أن الاختلافَ في الوزن لا علاقة له بالجنس، بل
يتبع الاختلاف في القامة والعمر، لكن وبعد مرور أكثر من قرن على اكتشاف
"بروكا"، فلا زالت الاعتقادات الـ"بروكية" غير العلمية تؤثّر
في أجيال المتعلّمين.
ليس من السهل الخروج من هذا المأزق وتمرير موقف علمي من هذه التصوّرات الـ"بروكية"
غير العلمية الّتي قد تؤدّي في جل الأحيان إلي أفكار تقلّل من ذكاء المرأة في
المجتمع. من البديهي أنّ الأفكار المبنية علي معلومات غير علمية، تكون أكيدا خاطئة،
لكن إصلاح المعلومة العلمية لا يعني بالضرورة تغيير هذه الأفكار الناتجة عنها، وفي
كلّ الحالات يبدو أن الذكاء لا علاقة له بالوزن أو الحجم، بل له علاقة بالشّبكات
العصبيّة الّتي يبنيها المخ في تفاعله مع التجارب الّتي يعيشها الإنسان أثناء
حياته اليومية.
تتكوّن الشّبكة العصبيّة الواحدة من مجموعة من الخلايا العصبيّة المخية
التي تتصل في ما بينها وتتعاون للقيام بمهمّة معيّنة، مثلا مهمة "تهريب اليد
عند لمس النار ". خذ مثلا: شقيقان
توأمان حقيقيان في ملجأ أيتام، تبنّتهما عائلتان مختلفتان، واحد منهما أصبح مهندسا
والآخر طبيبا. اذا قمنا بتشريح مخيّهما، بعد موتهما الطّبيعي، فسنجد شبكات مخ الطّبيب تختلف عن شبكات مخ
المهندس رغم تماثلهما الكامل في الوزن والحجم وعدد الخلايا وطبيعة الجينات
الوراثية.
إذن من الطبيعي جدا أن نجد فروقا بين شبكات مخ المرأة وشبكات مخ الرجل لأن
المرأة تمكث في البيت والرجل يسافر، المرأة تطبخ والرجل يقرأ الصحف، المرأة تُزوّج
و الرجل يتزوّج، المرأة تحبل والرجل لا يحبل، الخ... وشيئا فشيئا مخ كل واحد منهما
يختلف عن الآخر في تشعّب شبكاته، يلعب التقسيم الاجتماعي والتاريخي بين المرأة والرجل
دورا في تكوين أمخاخ مختلفة تفرز بدورها أفكارا مختلفة، فالمخ يؤثّر في السّلوك والسلوك
يؤثّر في المخ. مع العلم أنّ تشعب هذه
الشبكات العصبية المخية لا يزيد تناسبيّا
مع وزن المخ، ومخ العصافير أكبر دليل علي ذلك فرغم صغر حجمه فهو يحتوي علي شبكات
خلوية عصبية مخية معقّدة جدّا ذات كفاءة عالية، في التغريد العذب مثلا.
الأفكار المختلفة عند المرأة والرجل ليست معلّقة في الهواء ولا نازلة من
السّماء، بل هي وليدة عمل مليارات الشّبكات الّتي تبنيها خلايا المادّة الشخمة في
القشرة المخيّة. ينتج نضوج المخ عن تفاعلات الموروث مع المكتسب. لن يصل ذكاء القرد
إلي ذكاء الإنسان حتى لو وضع في محيط بشريّ لأنّه ببساطة لم يرث مخ إنسان منذ
البداية.
خلاصة القول:
مخ المرأة ليس أقلّ من مخ
الرجل وليس مماثلا له، و التصوّرات غير العلمية لا تتغيّر بعصا سحريّة، ولا
"بِكن فيكون"، ولا بالعنف رجعيّا كان أو ثوريّا، ولا أوتوماتيكيا بتصحيح
المعلومات غير العلمية، والدليل أن
المعلومة العلمية الصحيحة متوفرة في كتاب السنة الرابعة علوم تجريبية، وهي
تقول حرفيا: "يتغير وزن المخ حسب وزن الجسم". هذه التصوّرات غير العلمية
تنتقل من جيل إلي جيل عبر الموروث الثّقافي المكتسب، وفي كلّ جيل تترك بصمات
بيولوجيّة في المخّ علي شكل شبكات عصبيّة
حاملة للفكر والتفكير. بعض العبارات الشعبيّة المتوارثة مثل "الرأس الكبير
للتدبير" أو نعت الأغبياء "بمخّ العصافير" تدلّ علي طول عمر هذه
التصوّرات غير العلمية وصلابتها و تجذّرها في المجتمع.
أنهي هذا المقال بطرح
الإشكالية التالية: كيف نغيّر هذه التصوّرات غير العلمية التي تبيح حقوقا للرجال وتمنعها
علي النساء حسب حجم الجمجمة لدى
الجنسين؟
إمضائي
"الذهن غير المتقلّب غير حرّ".
لا أحد مُجبر
على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن
يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي.
يطلب الداعية
السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج
العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض
رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى
كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي أو الرمزي.
"الكاتب منعزل
إذا لم يكن له قارئ ناقد".
عزيزي القارئ, عزيزتي
القارئة، أنا لست داعية، لا فكري ولا سياسي, أنا مواطن عادي مثلك، أعرض عليك وجهة نظري المتواضعة والمختلفة عن السائد, إن
تبنيتها أكون سعيدا جدا, وإن نقدتها أكون أسعد لأنك ستثريها بإضافة ما عجزت أنا عن
إدراكه, وإن عارضتها فيشرّفني أن يصبح
لفكرتي معارضون.
البديل يُصنع بيني وبينك،
البديل لا يُهدى ولا يُستورَد ولا ينزل من السماء (قال تعالى: إن الله لا
يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وواهم أو ديكتاتور من يتصور أنه يملك البديل
جاهزا.
تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 27 نوفمبر 2008.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire