lundi 23 décembre 2024

حفرَ الغربُ هُوَّةً بين مستقبل العربِ وحاضرهم وحفر العربُ بأيديهم هُوَّةً أخرى بين حاضرهم وماضيهم المجيد جزئيًّا ونسبيًّا، فأصبحوا أمة بين هُوَّتَيْن أو هاوِتَيْن ! ترجمة مواطن العالَم محمد كشكار، دكتور في إبستمولوجيا تعليم البيولوجيا

 

 

المصدر:

Les identités meurtrières, Amin Maalouf, Ed Grasset & Fasquelle, Paris, 1998, 211 pages.

نبذة عن أمين معلوف:

كاتب باللغة الفرنسية (Prix Goncourt 1993 pour « Le Rocher de Tanios »)، مزدوج الجنسية، من عائلة وتنشِئة مسيحية-عربية، لبناني-فرنسي، متعدد الهويات، لا ينكر انتماءه إلى أي واحدة منها وفي الوقت نفسه لا يضخّم من شأن واحدة على حساب الأخرى.

نصوص مختارة من أمين معلوف:

صفحة 76: "الشيء الذي أناضل اليوم ضده وسأناضل دومًا ضده، هو هذه الفكرة الثنائية الخاطئة القائلة بوجود من جهة، دينٌ -مسيحي- يهدف إلى نشر التقدم والحرية والتسامح والديمقراطية، ومن الجهة الأخرى دينٌ -إسلامي- مهيأ من البداية للاستبداد والظلامية".

"أعرِّف المؤمن كالآتي: هو مَن يؤمن بـبعض القيم -التي ألخصها في واحدة :  كرامة الكائن البشري. أما الباقي فلا يعدو أن يكون إلا أساطير وآمال".

"لا تخلو ديانة من التعصب والتشدد والتطرف، لكن إذا قمنا بجردِ ما أنجزته الديانتان المتنافستان عبر التاريخ، لَلَاحظنا أن الإسلامَ لا يخجل من ماضيه.  لو كان أجدادي مسلمين في بلدٍ محتل من قِبل الجيوش المسيحية عوض أن يكونوا مسيحيين في بلدٍ محتل من قِبل الجيوش الإسلامية، لا أعتقد أنهم كانوا قادرين على مواصلة العيش والمحافظة على إسلامهم في مدنهم وقراهم طيلة 14 قرن. ماذا حصل في المقابل لمسلمي إسبانيا وسيسيليا ؟ انقرضوا عن بكرة أبيهم، مقتولين أو مُكرَهين على الهجرة أو مُمَسَّحِين بالقوة. منذ فجره، يزخَر التاريخ الإسلامي بقدرة عجيبة على التعايش مع الآخر. في أواخر القرن XIX، كانت إستطبول، عاصمة أكبر قوة إسلامية في ذلك العصر، تعدّ في سكّانها أغلبية غير مسلمة، أساسيا يونانيين وأرمينيين ويهود. لـنتخيل في نفس العصر أن نصف سكان باريس أو لندن أو فيانّا أو برلين يتكون من مسلمين ويهود ؟ لا يزال بعض المواطنين الأوروبيين إلى اليوم يمتعضون من سماع الآذان في مدنهم".

"يجب أن نقارن ما يصلح للمقارنة. أسّسَ الإسلام "اتفاقية تسامح" (un “protocole de tolérance”) في عهدٍ كانت فيه المجتمعات المسيحية لا تتحمل الآخر".

"بعد ما كان العالَم الإسلامي وعلى مدى قرون، رافعًا راية التسامح، أصبح اليوم في مؤخرة الأمم" (كشكار: "أضحى العالَم الإسلامي اليوم يُنعتُ بالتشدد والتطرف والتعصب والرجعية والظلامية ومعاداة المرأة والفن وحقوق الإنسان".)

"بالنسبة لي، بيّنَ التاريخ بوضوح أن الإسلامَ يحمل في داخلِه استعدادات وإمكانيات كبيرة للتعايش والتفاعل الخصب مع الثقافات الأخرى، لكن التاريخ الحديث بيّن أيضا أن رِدّة قد تحدث وقد تبقى هذه الإمكانيات الكامنة فيه كامنة على طول. (...) لو طبقنا التاريخ المقارَن على العالَم المسيحي والعالَم الإسلامي، سنكتشف من جهة، دين متعصب، حامل لنزعة الاستبداد، لكنه تغيّر شيئا فشيئا إلى دين تفتّح على الآخر، ومن الجهة الأخرى، دين حاملٌ لرسالة تفتّح، لكنه شيئا فشيئا انحرف إلى سلوكيات متطرفة واستبدادية".

صفحة 85: "المجتمع الغربي صَنَعَ الكنيسة والدين اللذان كان هو في حاجة لهما". ... كل المجتمع شارَك، بمؤمنيه وملحديه" (كشكار: " يبدو لي، حسب اجتهادي، أن هذه الجملة الأخيرة لأمين معلوف، يقابلها في قرآننا : "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم").

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، الاثنين 23 نوفمبر 2015.

فلسفة حول العنوان ؟ الفيلسوف الفرنسي ميشال سارّ، ترجمة وتأثيث مواطن العالَم

 


 (L`adresse)

لو تسألني: ما هو عنوانك ؟ أقول: 4 نهج باردو حمام الشط (محدَّد في الجغرافيا والفضاء ويخضع للقانون منذ زمان مثل الجباية البلدية، أي "الزبلة والخرّوبة"). عنوان يصلني فيه الإشهار فأرميه في سلة المهملات.

لو أعدتَ عليَّ السؤال ؟ أقول: 23139868، رقم جوّالي، وعنواني الألكتروني هو mkochkar@gmail.com. عنوانَان فِعليان لكنهما غير محدَّدَين في الجغرافيا والفضاء أو الأصحّ، محدَّدَان في فضاءٍ آخرَ بمعاييرَ جديدةٍ، فضاء، المسافات فيه لم تتغيّر لكن سرعة اختراقه هي التي تغيرت، فضاء لا يخضع للقانون ولا للسياسة، فضاء صَنَعَ قانونه وسياسته، فضاء صَنَعَ ثورةً ثقافيةً، فضاء أضاع ذاكرتنا وعوّضها ببنوك للمعلومات.

حمام الشط، الخميس 27 سبتمبر 2018.

 


 

dimanche 22 décembre 2024

بعد ما نشرتُ مقالي في جريدة الشعب حول "التفكير العلمي والتفكير الديني", قرأتُ في موقع فاكتشفتُ أن ما قلتُه يتوافق تماما مع ما قاله عالِم الإحاثة الأمريكي "ڤولد" :

 

“WIKIPÉDIA" (Le paléontologiste Stephen Jay Gould)

مبدأ "فصل السلطات العقائدية والفكرية والأخلاقية بين الدين والعلم"، مبدأ يهدف إلى إرساء استقلالية متبادلة في الاختصاصات. باسم هذا المبدأ, يوبّخ "ڤولد" الأصوليين الذين يعتقدون أن قيمة النص في الكتاب المقدس تساوي قيمة النص في المجلة العلمية الثانية في أمريكا, وباسم هذا المبدأ نفسه يوبّخ أيضا العلماء الذين, بسبب إلحادهم, يهاجمون اعتقادات المتدينين.

Le texte original complet en français :

Le paléontologiste Stephen Jay Gould a dit : « Les fausses alternatives : créationniste religieux ou évolutionniste athée ? On peut être athée et créationniste comme on peut être religieux et évolutionniste ».

La science et la religion, deux mondes : Pas de concordisme, ni affrontement systématique entre les deux mondes.

Dans le site « WIKIPÉDIA », j’ai lu sur Gould : principe de NOMA (Non-Overlapping Magisteria) : non recouvrement des magistères, destiné à instaurer une autonomie réciproque des compétences de la science et de la religion dans leurs domaines respectifs.

Au nom de ce principe, Gould fustige les fondamentalistes religieux, pour lesquels le texte de la Bible a la même valeur que les Proceedings of the National Academyof Sciences (2ème revue scientifique américaine). Mais il réprouve également les scientifiques qui, en raison de leur athéisme, attaquent les croyances religieuses.

حمام الشط في7 فيفري 2010.

انتصارًا للديداكتيك اختصاصِي وليس انتصارًا للإسلامِ دينِي، ولكلّ مقامٍ مقالٌ ؟

 

 

يخافون على الصغار من التعليم الديني في بلاد مسلمة بنسبة 99%.

مَن هُمْ ؟

هم رفاقي اليساريون الستالينيون والأقربون إليهم الحداثيون ولائكيّو فرنسا المناوئون للدين عمومًا الذين، كُرهُهم الإيديولوجي للنهضاويين القاعديين (لم أقل للإسلام) أعماهم عن المنطقِ (لا تعنيني قيادة النهضة).

أقول لهم ما يلي:

1.   المدرسة السلوكية (Le béhaviorisme de Pavlov, Watson et Skinner) ترى أن الطفلَ إناءٌ فارغٌ يملؤه المعلم بما يشاء، صفحةٌ بيضاءُ يَكتب عليها ما يريد، صلصالٌ يشكّله حسب هواه.

2.   الطفلُ يا سادتي، يا مؤمنون بحرية الضمير والمعتقد، الطفلُ ذاتٌ حرةٌ مستقلةٌ تَملأ نفسَها بما تشاء، صفحةٌ بيضاءُ تَكتب على نفسها ما تريد، مخٌّ صلصالٌ غير مكتمل الوصلات العصبية المجهرية الوظيفية (La plasticité cérébrale) يتشكل حسب هوى صاحبه متفاعلاً مع محيطه وأقرانِه ومعلّمِه (L`épigenèsecérébrale).

هكذا قال زارادُشتْ أو تهيّأ لي أنه قالَ (عِلم الديداكتيك أو فلسفة التعلم أو إبسمولوجيا التعليم بكل أنواعه، فروعه وتفرّعاته) وهكذا قالت المدرسة البنائية (Le constructivisme de Montessori et Piaget) على عكس ما قالت زميلتها البافلوفية، قالت: يبني التلميذ معرفته بنفسه متفاعلاً مع محيطه، أقرانه ومعلمه (Le socioconstructivisme de Vygotsky).

3.   على سبيل الذكر لا الحصر أذكّركم ببعض الاستثناءات ولا أهدف البتّة إلى إقناعكم بل أطمح فقط إلى التخفيف من تعصبكم ضد أبناء وطنكم. ستقولون لي "الشاذ يُحفظ ولا يقاس عليه" وأنا لا أطالبكم إلا بحفظ ما سأقول، أي تصونوه مِنَ الضَّيَاعِ وَالتَّلَفِ، أن لا تُدخِلوا أبناءَكم مدارسَ دينية وتُعلموهم في مدارسَ عَلمانية فلن يضمن لكم صنيعكم هذا أن أبناءَكم سيتخرّجون عَلمانيين:

-       مئات الدواعش الفرنسيين في سوريا المولودين في باريس وليونْ من الجيل الثاني دَرَسوا في المدارس الفرنسية العلمانية ولا يَحفَظونَ من القرآن إلا الفاتحةَ وقُلْ هو الله أحد الله الصمد.

-       مئات آلاف الدواعش السوريين دَرَسوا في المدارسَ السوريةَ الحديثةَ شبه العلمانية.

-       آلاف الدواعش التونسيينَ في سوريا دَرَسوا في المدارسَ التونسيةَ الحديثةَ شبه العلمانية.

-       أكبر مَن أجرموا في حق الإنسانية في الحرب العالمية الثانية (60 مليون قتيل) دَرَسوا في مدارسَ علمانية: سياسيو وعسكريو المحور (هتلر، موسولوني، هيروهيتو، إلخ.) وخصومهم الحلفاء (ستالين، إيزنهاور، شرشل، ديڤول) وعلماء الجهتين مصمِّمو القنبلة الذرية والأسلحة الكيميائية والألغام الشخصية وتسميم الغابات والبحر والتربة والجو. دول الحلفاء كانت تحارب دول المحور، والاثنان يتسابقان في احتلال دول العالم الثالث.

4.   في المقابل، إن الذين لم يُدخِلوا أبناءَهم مدارسَ علمانية وعلّموهم في مدارسَ دينية لم يضمن لهم صنيعهم ذلك أن أبناءهم تخرّجوا متدينين:

-       العالِم الشهير داروين صاحب نظرية التطور المناقضة لنظرية الخلق في الإنجيل دَرَسَ في مدرسة دينية.

-       الفيلسوف هيڤل دَرَسَ العالي في مدرسة دينية، كانوا يُعِدّونه ليصبح قِسًّا فأصبح أكبر فيلسوف لتاريخ الفلسفة وخاتم الفلاسفة وقد صدق في ادّعائه. لم أقرأ هيڤل، كلمتين حفظتهم أمس مساءً في مقهى الأمازونيا من صديقي فيلسوف حمام الشط لكيلا أقول على هيڤل خطأً !

-       مندال، مؤسس علم الوراثة هو قس مسيحي.

-       حسين مروة أكبر مُنظِّر في الحزب الشيوعي اللبناني وكاتب كتاب "النزعات المادية في الإسلام" دَرَسَ 14 عامًا في الحزوة الشيعية في النجف في العراق.

-       طه حسين والطهطاوي، رمزا النهضة العربية العقلانية، دَرَسا في جامع الأزهر.

-       الطاهر الحداد محرر المرأة التونسية دَرَسَ في جامع الزيتونة.

خلاصة القول: مقولةُ "غسل الدماغ" مقولةٌ فيها مبالغة: المخ ليس صحنًا نغسل بالصابون ما علق به من دهون، المخ عشرة مليارات خلية عصبية أو أكثر. كل خلية قادرة على أن تُقيم مع جاراتها عشرة آلاف وصلة عصبية أي ما يُقدّر مجموعه بمليون مليار علاقة عصبية في المخ بين خلية وأخرى. علاقات تتشكل طيلة العمر كله حسب التجربة التي يمر بها كل شخصٍ على حِده (L`épigenèse cérébrale).

وصلات عصبية غير قارّة (La plasticité cérébrale) ولا أحد يستطيع التنبّؤ بكيفية تشكلها في كل ثانية من جديد، تتشكل بالتفاعل مع ثلاثين ألف جينة داخل نواة كل خلية (ADN) ومع المحيط الخلوي الداخلي ومع المحيط الخارجي بكل مكوّناته المتعددة والمتحركة وهي غير معروف اتجاه حركتها مسبقًا. المخ البشري عالَمٌ معقدٌ جدًّا، عجز العلم عن كشف جل ميكانيزماته وأعمق أسراره

(ses mécanismes et ses mystères)

ولا أعْتَى حاسوب في "سيليكون فالِي" أمريكا أو الصين يَقدر على مراقبة تفاعلاته الفيزيائية-الكيميائية أو قيس ذبذباته الكهرو-مغناطيسية، لا يَقدر عليه إلا الخالق الذي أبدعه و"ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" !

خاتمة: أنا أدينُ وبشدة كل تجاوزٍ يقع على الأطفال وفي أي مكان في تونس أو في العالَم، الرڤاب أو غيرها، وإذا ثبتت التهمة على المتهمين في قضية المدرسة القرآنية بالرڤاب فأنا أطالب بتسليط أشد العقاب عليهم هم وعلى مسؤولي الطفولة المحليين والجهويين والوطنيين ولا تنسوا أمثالهم السياسيين والإداريين.

لي طلبٌ آخرَ ولو أنني أثقلتُ عليكم زملائي البيداغوجيين ورفاقي اليساريين والحداثيين ولائكيِّ فرنسا: لا تنسوا أن تتفقدوا ما يحدث من تجاوزات مماثلة أو أفظعَ في مهرجانات الأولياء الصالحين (الله ينفعنا ببركاتهم) والروضات ونوادي الأطفال والمبيتات التلمذية والرحلات المدرسية بأكثر من يوم وإقامات المصائف والجولات المطوّلة وغرف ملابس الصغار في ملاعب الكرة والمخيمات الكشفية والمراكز المندمجة (قُرَى أطفال بورڤيبة سابقًا)، إلخ. هذا لا يعني تمييعًا لجريمة الرڤاب وليس تبريرًا لها ولا تخفيفًا بأي شكلٍ من الأشكالِ.

لماذا كتبتُ هذا المقال ؟: هو مواصلة لنقاش في مقهى الشيحي وليس ردّا أو استفزازًا لأحد. لقد تناولتُ الموضوع من جانب علمي ديداكتيكي (فلسفة التعلّم، تعلّم القرآن أو غيره من المواد) وليس من جانب عاطفي ديني وإن لم تصدّقوني فـ"اجعلكم لا صدّقتم" ! لكي أكتبَ يكفي أن أصدّقَ نفسي وأرضِي ضميري وبَسْ. ولو سألوني أين ستُعلِّم ابنك ؟ سأجيبُ كالآتي، مع العلم أنني لستُ نهضاويًّا ولن أكون ولا جبهاويًّا ولن أكون أيضًا. أنا مسلم يساري، يسار ما قبل ماركس، علماني على الطريقة الأنڤلوساكسونية غير المناوئة للدين عمومًا والحمد لله على ما أعطاني:

-       قبل المدرسة أدخِله كُتّاباً (3-6) لا يُحفَّظ فيه إلا القرآن ودون تفسيرٍ، درسٌ أعتبره علميًّا حمّامًا لغويًّا (Un bainlinguistique) يتعلم فيه الفصحى والنطق السليم للحروف مثلما تعلمتهما أنا في "خَلوة" جمنة في الخمسينيات عند "المِدِّبْ" محمود، الله يرحمه.

-       في التعليم العمومي الأساسي (6-15) يتعلم المواد الأخرى ويتعلم القرآنَ والتفسيرَ والحديثَ والشرحَ في التربية الإسلامية.

-       في التعليم العمومي الثانوي (15-19)، علمي أو أدبي،  يتعلم الفقهَ والتفكيرَ الإسلامي.

-       في التعليم العمومي العالي (19-22)، علمي أو أدبي، يتعلم الدينَ المقارنَ اختصاص علي شريعتي (قال عنه سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد: لو قررتُ يومًا أن أختارَ دينًا لاخترتُ دينَ صديقي علي شريعتي، أي الإسلام) ويتعلم أنتروبولوجيا الأديان اختصاص جاكلين الشابي.

-       يحق لكل مواطن تونسي مسلم غير يساري وغير علماني أن يُدخِلَ ابنه مدرسة علمانية أو يُدخِلَه مدرسة دينية من الكتّاب إلى الجامعة وليس ضروريًّا أن يعلّمه علوم الدين فقط وهذا النوع الأخير من التعليم الديني موجود وبكثرة في الدول العلمانية المسيحية والدولة العلمانية اليهودية مغتصبة فلسطين.


 

مشارَكة متواضعة في الجدلِ القائمِ سنة 2017 حول موضوع الأطروحة التي تُشكك في كروية الأرض ودورانها حول الشمس

 

 

لماذا أقول "مشارَكة متواضعة" ؟ أولا أنا لستُ مختصًّا في علوم الفضاء ولا في الهندسة الجيوفيزيائية، بل مختصٌّ فقط في ديداكتيك البيولوجيا وأستاذ علوم الحياة والأرض، ونحن معشر أساتذة هذه المادة ناقِصِي تكوين في الجيولوجيا بالذات. ثانيًا لم أقرأ الأطروحة المعنية، وحتى وإن قرأتُها فلستُ مؤهلاً لِدحضِ ما ورد فيها، والعلمُ لا يُردُّ عليه إلا بعلمٍ وفي نشريات علمية مختصة ومرقّمَة (Une revue scientifique spécialisée et cotée)، نشريات باللغة العربية غير موجودة للأسف الشديد في جميع دولِ العالَمِ العربِي. ثالثًا، العلماء أنفسهم لم يؤتُوا من العلم إلا قليلاً (مرجعيتي في حكمي هذا علمية وليست قرآنية) فما بالكَ إذن بِطالِبِ علمٍ وناقِلِه من أمثالي، لم يؤتَ من العلم إلا قليلُ القليلِ.

دون إطالة سأدلِي بِدلوي في الموضوع من خارج الموضوع معتمدًا ومركزًا على المنهجية العلمية (La méthodologie) التي تعلمتُها خلال سبع سنوات بحث علمي (AEA-DEA + Doctorat) وهي منهجيةٌ مناقضة في مجملها للحس العام السائد (Le sens commun dominant):

-       العلم -يا سادتِي يا كرامْ- تراكمٌ وبناءٌ على بناءْ (Accumulation et Construction) وليس وحيًا من السماءْ أو اكتشافًا معلقًا في الهواءْ (Une découverte brusque et spontanée) فلا تتوهموا إذن أن علمًا قد ينبثق يومًا من جامعةٍ عربيةٍ قاحلةٍ جدباءْ ولو عاش أينشتاين في الصحراء لأصبح في أحسن الحالات أمهرَ صياد غزلانٍ وضِباءْ ولو درس في تونس أو دمشق أو صنعاء لَتخرّج ببغاء أستاذُ رياضياتٍ أو فيزياءْ !

-       العلم -يا سادتِي يا كرامْ- يلزمه مخبر والمخبر يلزمه ميزانية وميزانية العرب تُصرفُ على الانحراف والبذخ والرشوة ونشر الخرافات الجوفاءْ ! وخاصة مخابر الفضاء فميزانياتها تفوق ميزانية جامعات العرب جمعاءْ !

-       البحث العلمي -يا سادتِي يا كرامْ- أصبح اليوم جماعيًّا (Travail d`équipe) أو لا يكون ؟ والاختصاص العلمي توسّعَ بدرجة أنه لم يعد في وِسْعِ عالِمٍ واحدٍ أن يُلِمَّ بجميع فروعِه فلم يعد إذن في مقدورِ عالمٍ معزولٍ مهما كانت عبقريتُه أن يؤكد بمفرده أو يدحض نظرية علمية وهو قابِعٌ في صومعته.

-       يا سادتِي يا كرامْ، يبدو لي -والله أعلم- أن جميع أطروحات الجامعات العربية ليست إلا نُسَخًا باهتةً لعلومٍ غربيةٍ فاتها الغربُ من زمان، ولا أستثنِي أطروحتي رغم أنني حصلتُ عليها تحت إشرافٍ مشتركٍ في غالبيته فرنسي (UCBL1, 2007).

ملاحظة: سمعتُ مُؤطٍّرَ الطالبةِ -التي يُقالُ أنها متفوقةٌ- الأستاذ جمال الطوير في قناة "نسمة" يقول أنها لم تستند في بحثِها على الدين ولم تستشهد بِآية قرآنيةٍ واحدةٍ، وأنا أصدّقه إلى أن يأتي ما يخالفُ ذلك والسلام.

ما الفرق بين التفكير العلمي والتفكير الديني ؟

 

 

في هذا المقال، أنطلق من محاضرة ألقاها أحمد شبشوب, الأستاذ والباحث التونسي القدير في علوم التربية, أثناء المؤتمر الوطني الرابع لتعلّمية العلوم (أو فلسفة تعليم العلوم كما أود أن أسميها).

La didactique des disciplines ou épistémologie de l’enseignement.

نُظِّمَ المؤتمر في كلية العلوم بمدينة صفاقس التونسية سنة 1998 وعنوانه "التربية العلمية للتلاميذ: أيّ عوائق يجب تجاوزها ؟" قال شبشوب: "في الواقع نحن ننتمي إلى ثقافة ما زالت شديدة التأثّر بما هو سحريّ و/أو ما هو وراء الطبيعة مع العلم أن التعليم المكثف للعلوم العصرية مازال حديث العهد في تونس: في سنة 1875 بدأت مدرسة الصادقية تنشره لدى النخبة، والمفروض أن الإصلاح التربوي لسنة 1958 قام بتعميمه على كامل التونسيين، لكن علينا أن ننتظر قانون جويلية 1991  ليصبح التعليم إجباريا حتى سن السادسة عشرة، ثم قانون التوجيه سنة 2002، ورغم تعليمه الطويل مازال التونسي المتوسط يعتمد في حياته اليومية على طريقة تفكير, في إدراك العالم وتفسيره, تتداخل فيها النتائج المادية والأسباب غير المادية وهذا مخالف للتفكير العلمي".

 نبدأ بتعريف التفكير العلمي الذي يعتمد منهجية تتألف من المراحل التالية:

الملاحظة: تنبع الملاحظة من نظريات مسبقة عند العالِم وهي لا تحدث صدفة كما يعتقد الكثيرون في أسطورة حادثة التفاحة عند "نيوتن". عين العالِم، عين واعية ومُدرِكة، ليست كعيون غير العلماء والعامة.

الإشكاليات: تمثل مداخل البحوث العلمية وتأتي بعد الملاحظات الصادرة من العلماء بعد تفكير أيضًا وليس صدفة.

الفرضيات : تُطرَح قبل بداية البحث العلمي وهي استشرافٌ لنتائجه لكن تبقي رهينة التجارب, تؤكدها أو تنفيها.

التجارب: يقوم بها العالِم أو الباحث أو التقني ويتحرى فيها الدقة والأمانة العلمية.

النتائج: يجمعها العالِم أو الباحث أو التقني ويتحرى فيها الدقة والأمانة العلمية.

تحليل النتائج وتفسيرها: هي أهم مرحلة لأنها الأصعب ولا يقوم بها إلا العالِم أو الباحث الملم بالنظريات العلمية السابقة.

الاستنتاجات: هي خلاصات البحوث العلمية الذي ينشرها العالِم أو الباحث في المجلات العلمية المختصة أو يلقيها في المؤتمرات العلمية الجامعية لتوضيح رؤيته الجديدة للآخرين (Le savoir savant).

لا يوجد فصل ميكانيكي بين هذه المراحل لا في الزمن ولا في الترتيب، بينما يوجد بينها تداخل وتفاعل وأخذ ورد وتغيير في الترتيب.

 بعد هذه المقدمة، نحاول مقارنة منهجين سائدين في العالم : التفكير العلمي والتفكير الديني :

- ينبني التفكير العلمي على الأرض فهو أرضي وعلى الإنسان فهو إنساني صرف يحرّكه الشك (في مجالِ العلومِ،
الشكُّ طريقٌ إلى مزيدٍ من الشكِّ وليسَ طريقًا إلى اليقينِ
لأنه لا يوجدُ يقينًا أبديًّا في العلومِ.)، ويحرّكه أيضًا الخطأ والصواب والتطور والاختلاف في وجهات النظر وهو يحمل تاريخا وفلسفة وإيديولوجيا. يستطيع الإنسان أن يجدد ويضيف فيه بلا حدود ويعيد بناء أسسه متجاوزًا النظريات القاصرة أو غير العلمية.

- أما التفكير الديني فينبني على ما هو آت من "السماء"، فهو سماوي وإلهي وغيبي، وهو صواب لا يحتمل الخطأ، ويقين يقود حتما إلى مزيد من اليقين، وهو ثابت في نصه متحول في تفسيره. يستطيع الفرد أن يجتهد داخل دائرة صدقه دون أن يمس ثوابته.

- يتصف التفكير العلمي بالشفافية والتحدي فهو يعرض نفسه متطوعا للدحض أو النقض على صفحات المجلات المختصة وفي المؤتمرات العلمية لكل مَن استطاع إلى ذلك سبيلا, لا يحمل جنسا ولا جنسية ولا هوية ولا وطنية ولا عصبية ولا لون ولا عرق ولا دين. يراجع نفسه بلا خجل ويتخلى في أكثر الأحيان على الأفكار السابقة التي كان يمجدها في يوم ما إذا أثبتت التجربة خطأها.

- يتعالى التفكير الديني على التفكير العلمي بنسبه غير البشري (الله مصدره وليس الإنسان)، ويقينه المطلق وعدم التزامه بالزمان والمكان (صالح لكل زمان ومكان). يتعصب له المؤمنون ويكفرون غير المؤمنين، ويقصون المخالفين لهم حتى لو كانوا موحدين مثلهم (الكفر ليس الإلحاد، المسلم كافر بالمسيحية واليهودية ولا يؤمن إلا بالإسلام الدين الوحيد غير المحرّف في نظره، أما المسيحي فهو كافر بالإسلام. الملحد لا يؤمن بكل الأديان السماوية ولا يؤمن بوجود إله أصلا).

- التفكير العلمي متواضع بإنسانيته وماديته ونسبيته وتحديد مكانه وزمانه وشكه المتجدد والمتواصل.

- التفكير العلمي يؤمن به كل العالَم، والتفكير الديني يؤمن به بعض العالَم. يعرض الأول نفسه على الدحض والتعديل ويطالب الثاني بالتسليم والتقديس دون جدل.

التفكير العلمي والتفكير الديني، خطان متوازيان ولو حدث أن تواجدا في شخص واحد فهو ثنائي التفكير، ولا ضرر في ذلك عند عظماء العلماء المتدينين مثل الفيلسوف المسلم الكاتب والطبيب "ابن سينا" (980-1037) والمعلم الثاني بعد أرسطو الفيلسوف المسلم "الفارابي" (872-950) والراهب المسيحي عالِم النباتات والأب المؤسس لعلم الوراثة، القس "مندال" (1822-1884).

أما الضرر الجسيم -حسب رأيي- فيكمن في الخلط بينهما، وهذا وارد في عقول  بعض المتدينين حين يستشهدون بالعلم لتقوية إيمانهم ولو عكسوا لأصابوا، وكأن العلم في أذهانهم أعظم شأنا من الإيمان، أما بعض العلمانيين الملحدين (بفتح العين وليس بكسرها لأن المفهوم مشتق من كلمة العالَم وليس من كلمة العِلم كما يعتقد الكثيرون)، فهم يؤمنون بالإنسان ويثقون في قدرته على صنع مصيره بنفسه، لذلك يتنافسون في محاربة المقدس ويكذّبون بالدين وهذه تجارة خاسرة لو تفكّروا لأن الإيمان إحساس ذاتي لا يخضع للقياس (La mesure) ولا للتجارب العلمية أو العلوم الإنسانية.

 خلاصة القول حسب اجتهادي المتواضع: للعلم منهجٌ, مَن مشي فيه واحترم قواعده, حقق المعجزات، وللدين بابٌ من دخل فيه وصدّق معجزاته وجد فيه راحة البال.

 هذان النمطان من التفكير يستطيعان التعايش إذا احترم كل واحد منهما الآخر، لأن غاياتهما السامية تتمثل في تحقيق القيم الإنسانية النبيلة على الأرض, من عدالة وتضامن وصدق وإخلاص وسلم ومقاومة للقيم الهدامة السائدة للأسف منذ ظهور الإنسان على الأرض  من ظلم وجشع وكذب وخيانة وحرب.

العلم "عمومي مشترك" والإيمان "ذاتي بحت" رغم أن الدين في ممارسته اجتماعي أو لا يكون، أنت حر في إيمانك تمارسه كيفما يشاء ربك وتشاء أنت في علاقة عمودية، ولن تأتي فيه بجديد مهما علا شأنك. أما العلم فتمارسه كيفما يشاء اتفاق العلماء وتشاء أنت في علاقة أفقية، لذلك تستطيع أن تبدع في مجالك وتثبت صحة فرضياتك فتُجازَى على قدر إبداعاتك أو تُكذِّبُ فرضياتك فيستفيد الآخرون من النتيجة السلبية كما استفادوا من نجاحات غيرك.

 الرسالات الدينية موجهة للبشرية جمعاء فهي ليست حكرا على المتدينين، والعالَم الإنساني المادي المحسوس مِلك للعلمانيين ولغيرهم. فمِن المفروض إذن أن يكون العَلماني "متدينا محتملا" بالنسبة للمتدين المعتدل والمتسامح، ويكون المتدين "عَلمانيا محتملا" بالنسبة للعلماني المتفتح والمتفائل.

العلم والدين -لكل محرابه- فرجاءً من مريدي الاثنين أن لا يهدم الواحد منهم محرابَ أخيه في الإنسانية، وإذا رُمتَ المقام في أحدهما أو في كِليهما فالدين رحبٌ، يؤمن به المؤمنون فقط وهم كُثْرُ, والعلم أرحبُ، تؤمن به أغلبية البشر، مؤمنون وغير مؤمنين.

ستيفن جاي ﭬولد قال: "مِن الأفضل أن لا نسجن أنفسنا في خانة الخيارات الخاطئة مثل: أنت مؤمن بنظرية التطور لداروين، إذن أنت ملحد، أو العكس أنت مؤمن  بالله إذا أنت لا تعترف بهذه النظرية. مِن الممكن أن يكون الإنسان مؤمنا بالله ويعترف بنظرية التطور أو ملحدا ولا يعترف بها. يكوّن التفكير الديني والتفكير العلمي عالَمَين مختلفين ومنفصلين ومستقلين، فلا تطابق بينهما ولا تناقض، والمواجهة بينهما معركة خاسرة للاثنين. قد يلتقيان في علم الأخلاقيات (L’éthique)".