vendredi 15 décembre 2023

مجموعةٌ من الأسئلةِ، أرّقتني طيلةَ عقود، وجدتُ لها اليومَ جوابًا في كتابْ ؟ فكرة كريستيان دو دوف، ترجمة وتأثيث مواطن العالَم

 

 

الأسئلة التي كانت تُحيّرني:

-         لماذا يتحارب البشر فوق الأرض وفيها من الخيراتِ ما يكفيهم وزيادة ؟

-         لماذا ننفق أموالاً طائلةً على الهدمِ ولو أنفقناها على البناء لأصبحت الدنيا جنة على وجه الأرض، ولَانْقرضَ الفقرُ والجهلُ والجوعُ وزالت جل الأمراضِ ؟

-         لماذا لا نرى للأخلاق الوضعية ولا للأخلاق الدينية أيّ تأثيرٍ على السلوكات الأنانية والعُدوانية للبشر ؟

-         لماذا لم يجلب لنا العِلمُ كل المنافع التي كنا ننتظرها منه ؟

-         لماذا تَبنّيتُ مفهوم المواطنة العالمية ؟ (justification a posteriori)

-         لماذا اخترتُ مفهوم "ما فوق الوراثي" أو "التخلق" (L`épigenèse) كموضوع لأطروحة الدكتورا سنة  2007 ؟ (justification a posteriori)

 

نص صاحب الجواب في كتابه، صفحة 165:

"الانتقاء الطبيعي الدارويني" 

(La sélection naturelle

انتقى في النوع البشري نوعَين من المميزات (Les traits):  مميزات تعزّز اللحمة داخل مجموعة بشرية معيّنة (عائلة، قبيلة، نقابة، وطن، عِرق، طائفة، لون، دين، إلخ.)، وفي نفس الوقت مميزات تدعّم العداوة حيال المجموعات الأخرى:

على المستوى الاجتماعي، انتقى "الانتقاء الطبيعي" بعض القِيم، مثل التضامن، التعاون، التسامح، الشفقة، الإيثار. قِيمٌ وصلت إلى حد التضحية بالنفس من أجل مصلحة مجموعة بشرية معيّنة، قِيمٌ إيجابيةٌ كوّنت أسس العيش المشترك داخل المجتمعات البشرية المختلفة، كلّ على حِدَةٍ. لكن خراجَ هذه القِيم بقي بشكل عام مقتصرًا على أعضاء المجموعة دون سواها.

هذه القيم الإيجابية ولّدت لدى أفراد المجموعة الواحدة النزعة الدفاعية المفرطة، انعدام الثقة في الآخر، التنافسية والعِدائية حيال أعضاء المجموعات الأخرى. المفارقة الكبرى أن هذه القِيم السلبية وُلِدَتْ من رحم قيم إيجابية وهي التي كوّنت بذور الصراعات والحروب التي تركت بصماتها على طول تاريخ البشرية جمعاء حتى يومنا هذا.

هذا التحليل يرجع بنا إلى عشرة آلاف سنة قبل عصرنا الحالي، عصر كانت فيها مجموعات قليلة من البشر البدائيين تعيش في القارّة الأفريقية وتتخاصم حول أهم المصادر الغذائية التي توفرها لهم الغابة أو السافانا (la savane). في البداية كانت تُحدَّد المجموعة حسب علاقات القرابة الدموية السائدة داخل العائلة أو القبيلة طِبقًا للصفات المبرمجة في الجينات. (إضافة مواطن العالَم: Notre ADN est un logiciel performant et sophistiqué mais il est très ancien et conçu pour l`homme primitif de la forêt.

لا تغترّ أيها الإنسان، فأنتَ والشانبانزي تتشابهان في 98،5% من الجِينات المشتركة 

(des gènes communs)، 

وأنت وشجرة المَوز في 60%، ونبات الأرز يفوقُك في الجينات عددًا: هو 30-40 ألف جِينة، وأنتَ 25-30 ألف فقط !). مرّ زمنٌ وأتى آخر، وتوسعت المجموعة البشرية المعيّنة الصغيرة، فضمّت أراضي مشتركة، مصالح مشتركة، امتيازات مشتركة، اعتقادات مشتركة، قِيم مشتركة (des valeurs partagées)، أحكام مسبقة مشتركة (des préjugés)، أحقاد مشتركة، أي الاشتراك في سلوكات (des comportements) تدعم وحدة هذه المجموعة لا غيرها، "مجموعتنا ضد مجموعتهم" (إضافة مواطن العالَم: مقولة "مجموعتنا ضد مجموعتهم" تُتَرجَم بلغة عصرنا، فتصبح:  يهود ضد عرب، غرب ضد باقي العالَم أي المركزية الأوروبية، دار الإسلام ضد دار الحرب، بورجوازية ضد بروليتاريا، شيوعية ضد رأسمالية، يسار ضد يمين، داعش ضد بشار، إخوان ضد السيسي، مدينة ضد ريف، الرجل ضد المرأة، الحاكم ضد المحكوم، الأغنياء ضد الفقراء، العالَم الأول ضد العالم الثالث، أعراف ضد عمال، محامون ضد قضاة، إلخ.).

ما هي الإيديولوجيات العصرية التي تدعم اليوم الوحدة داخل المجموعة الواحدة وتؤجج الصراعات وتشعل الحروب بينها وبين المجموعات الأخري ؟

هي إيديولوجية القومية، غربية كانت أو عربية. هي الإيديولوجية الدينية، إسلامية (سوريا، العراق، ليبيا، مصر، أفغانستان) كانت أو يهودية (إسرائيل) أو بوذية (بيرمانيا، التيبت، الكشمير). (إضافة مواطن العالَم: هي الإيديولوجية الامبريالية، رأسمالية أمريكا كانت أو شيوعية الصين).

 

صفحة 166:

من سوء حظ البشر أن "الانتقاء الطبيعي الدارويني" لم  ينتقِ لفائدتنا قيمتَي الحيطة والحكمة الضروريتَين لتوليد الرغبة في تقديم التضحية بالامتيازات الحينية في سبيل التحضير لمستقبل أفضل للإنسانية جمعاء. على العكس انتقى لنا قيمة البحث عن المصلحة الحينية، سواء كانت فردية أو جماعية، وهذا ما يفسّر استغلالنا اللامسئول للثروات الطبيعية، ويفسر أيضًا تجاهلنا للعواقب الوخيمة التي قد تنجر عن فعلنا المشين هذا. عواقبٌ بدأت اليوم تهدد جنسنا البشري وتهدد بالانقراض أنواعًا كثيرة من الكائنات الحية الأخرى، حيوانات ونباتات.

لم يعد يشغلنا كل ما يتجاوز مستقبلنا الحيني مثل ما بعد التقاعد أو أمل حياتنا (l’espérance de vie) أو مصير أولادنا وأحفادنا من بعدنا.

ما أردتُ تبليغَه كعالِم بيولوجيا يتمثل في التأكيد على أن القيم السلبية (النزعة الدفاعية المفرطة، انعدام الثقة في الآخر، التنافسية والعدائية حيال أعضاء المجموعات الأخرى) هي قيم فطرية جينية وراثية  مبرمجة لإنتاج إنسان لزمانٍ غير زماننا، زمان سبقنا بعشرة آلاف سنة عند بداية تشكل المجموعات البشرية الصغيرة في إفريقيا أولا (من 3.000 إلى 10.000 نسمة). قيم وسلوكات كانت صالحة وضرورية في ذلك العصر، عصر ندرة الموارد الغذائية أو صعوبة التحصل عليها. صفات ساعدتنا على الصمود في طورٍ من أطوار تطورنا الطبيعي (L`évolution) ولولاها لانقرضنا كالديناصورات ولَذهبت ريحنا ولم تبق إلا أحافيرُنا (Fossiles humains). هذه القيم أو الصفات أو السلوكات أصبحت اليوم عبئًا ثقيلاً نحمله منذ الولادة، وباتت معطِّلة للقيم الإيجابية فينا (التضامن مع المجموعات الأخرى، التعاون معها والتسامح والشفقة والإيثار والمساواة).

انتهى الاستشهاد.

 

خلاصة القول وليس خاتمته:

الإنسانُ لا يولدُ إنسانًا متحضّرًا منذ البداية بل يصبح متحضِّرًا بجهده وعلمه وثقافته: لا أقيسُ على الإنسان الغربي الحالي، فهو في الواقع أقل منا في العمق تحضرًا، وإلا لَما احتلنا وقتل منا الملايين ظلمًا وبهتانًا، ولَما قصفنا بالطائرات في بور سعيد وبنزرت والساقية ودمشق وبغداد وطرابلس و.. و... ولَما باع لنا سلاحًا فتّاكًا من صنعه وترويجه وتآمره وانتهازيته.

يولد الإنسان طبيعيًّا  (L`homme de la nature)، وهو حضاريًّا أقرب لإنسان القرن  3000 قبل-الميلاد، أكثر من قُربه إلى إنسان القرن 21 ميلادي. إنسانٌ تولد معه غرائزه المحدَّدَة شبه كليًّا من قِبل جيناته، غرائزٌ تشده إلى الأسفل، أي إلى الحيوانية، إلى الطبيعة، إلى الأنانية. غرائز تحدّد القيمَ السلبية فينا (النزعة الدفاعية المفرطة، انعدام الثقة في الآخر، التنافسية والعِدائية حيال أعضاء المجموعات الأخرى).

المتدينون يسمّونها "النفس الأمّارة بالسوء"، وعلماء النفس يسمّونها "الهُوَ" في اللاوعي (Le Ça ).  نفسٌ أمّارةٌ بالسوء وهي نفسٌ موروثةٌ (Le tout-génétique)، تقابلها  نفسٌ مكتسبةٌ بواسطة ما ينبثق عن التفاعل المستمر بين الجينات الموروثة والمحيط (محيط الجينات الخلوي والمحيط الخارج عن الجسم تمامًا – c’est ce qu’on appelle l`épigenèse, sujet de ma thèse de doctorat, UCBL1, 2007) وهي نفسٌ أمّارةٌ بالخير وإذا كنتَ علمانيًّا سمّها النفس المتحضرة المتسلحة بالقيم الإيجابية فينا (التضامن مع المجموعات الأخرى، التعاون معها والتسامح والشفقة والإيثار)، وإذا كنتَ متديّنًا سمّها جهادًا ضد "النفس الأمّارة بالسوء"، وإذا كنتَ فرويديًّا (la psychanalyse de Freud) سمّها صراعًا مريرًا بين الثقافة والطبيعة (Interaction entre culture et nature d`où émerge l`homme de l`homme au dépens de l`homme de la nature)، صراعًا بين "الأنا" في الوعي (Le Moi) و"الهُوَ" في اللاوعي (Le Ça ).

المهم هو الجهادُ الذي قد يحدّ من سيطرة شهواتنا وغرائزنا على سلوكاتنا اليومية. جهادٌ يهذبها، يعلمها، يربيها، يَشْكُمُها، يطهِّرها من أدرانها ويقودها برفقٍ نحو الرقي والتمدن والتحضر والرقة واللياقة والأدب والذوق الفني الرفيق وصقل الحواس والحب والتواضع ونكران الذات والتطوع من أجل خدمة الغير.

نصقلها بالدين، بالفلسفة، بالفن، بالتصوف، بالعلم، بالزهد، بالتقوى، كلها أنواع راقية من مواد التطهير: وسائل نبيلة لبلوغ غايات أنبل.

وإذا لم نبذل هذا الجهد فرديًّا وجماعيًّا، ونحن التونسيون في الواقع وللأسف لم نبذله (يساريون وإسلاميون وقوميون وليبراليون)، لذلك لم تُغيِّرنا الأخلاق الإسلامية ولا اليسارية، فلا دين فينا نفع ولا علمَ ولا فلسفةَ !

 

أما كيف ثَبَّتَ فيّ هذا الكتابُ اختياري للمواطنة العالمية (justification a posteriori)، فأظنه سؤالٌ لا يتطلب شرحًا على الشرح الذي سبق. المواطنة العالمية، أراها تمرّدًا على الفطرة وعلى التقوقع وخروجٌ إراديٌّ عن الهوية الأمازيغية-العربية-الإسلامية دون انبِتاتٍ فجٍّ، خروجٌ عن الانتماء القومي الضيق أو الديني المتعصب، خروجٌ إلى آفاقٍ أرحبَ، آفاقٍ لا نرثها بل نكتسبها. المواطنة العالمية هي الاستعداد للشعور بالحب لكل البشر دون تمييزٍ، هي سموٌّ على غرائز العصبيات القبلية والوطنية والدينية والعِرقية والطائفية واللغوية، هي مستقبلُ العالَم خاصة في عصر الاتصالات والمواصلات، عصرٌ افتراضي (Facebook, Twitter, YouTube, etc)، عصرٌ اختفت فيه الحدود ومعها التأشيرات والجدران العازلة، عصرٌ أصبح فيه للإنسان جناحان افتراضيان وأصبحنا كالعصافير لا نمرّ من البوابات الحدودية، حلمٌ تحقق، حلمٌ غير مبرمجٍ في جيناتنا.

أحلامي كل يومٍ تكبرُ، ويومي أصبحَ أفضلَ من أمسِي. يبدو أن واقعي أصبح أسرع من أحلامي: أكتبُ مقالاً وأنا في "مقهى الشيحي التعيسة التي لم تعد تعيسة"، فيتفاعل معي في الحين صديقٌ افتراضيٌّ في موسكو أو واشنطن، حلمٌ للإنسانية تحقق. للأسف واقعي يسبق جيناتي، مورّثاتي لا تطاوعني، خَطْوَتُها بمليون سنة، ما أبطأَها، لم أعُدْ أطِيقُ انتظارَها.. جيناتي المتخلفة !

آه يا جيناتي لو تلحقي بأحلامي، وتزرعي في جنبَيَّ جناحَين كجناحَي طير، أزورُ بهما ابنتي عبير حبيبتي في كندا، لم أرها منذ ثمان سنوات، أعِدُكِ، أضمّها مرة واحدة ثم أقفل راجعًا، حفيدتي سلمى دخلت المدرسة ولم أقبّلها لا عند الذهابِ إلى المدرسة ولا عند الإيابِ منها !

 

المصدر:

Livre : Génétique du péché originel. Le poids du passé sur l`avenir de la vie. Christian de Duve (Prix Nobel de médecine en 1974, Un biologiste et moraliste), Editions Poches Odile Jacob, Paris, 2017, 240 pages.

 

 

إمضائي:

أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ كما شِئتَ (La rectitude morale et la spiritualité à l`échelle individuelle).

"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار

"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو

"وإذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.

 

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 8 مارس 2019.

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire