المصدر:
Henri Atlan, La fin du « tout
génétique » ? Vers de nouveaux paradigmes en biologie, éditions INRA,
Paris 1998, 91 pages.
نص هنري أتلان:
في مقال بعنوان "السبب و النتيجة في علم الأحياء" 1961، يميّز
"أرنست ماير" بين مقاربتين مهمتين تصفان أنواع الأسئلة المطروحة في
البيولوجيا:
1.
المقاربة الأولى تتمثل في "البيولوجيا الوظيفية" (La biologie fonctionnelle) التي تحاول أن تفهم
آليات الوظائف البيولوجية كالتنفس والهضم والطرح داخل الخلية، أصغر وحدة تركيبية
ووظيفية في كل جسم حي. في هذا الإطار، تُطرح أسئلة من نوع "كيف ؟" (Comment). والطريقة المعتمدة هي طريقة
"فيزيائية-كيميائية" تسعى جاهدة لإعادة الظواهر الملاحظة إلى آلياتها
الفيزيولوجية الدقيقة. يستشهد ماير بكلود برنار الذي يصر على إضافة مفهوم "خطة
التنظيم" للاختزالية "الفيزيائية-كيميائية" لكي نفهم "علم
الوظائف الحيوية". من الواضح أن فكرة
كلود برنار تفوح منها رائحة "مذهب الإحيائية" (Le vitalisme) لكن ماير بيّن كيف أن
"البيولوجيا الجزيئية"، بفضل اكتشاف "الشفرة الجينية" (Le code génétique)، قد أعادت صياغة هذه
الفكرة وخلّصتها من سياقها الإحيائي. تنطوي فكرة " خطة التنظيم" على
"غائية" (Le finalisme)، على حافة شكل
من أشكال "قصدية" الحياة (L’intentionnalité ) أو
"قصدية" الحي (للحياة وللحي هدف بيولوجي محدّد سلفا)، وهذا مما لا يقبله
الفكر العلمي المادي. غير أن الملاحظة المباشرة، خاصة ملاحظة "تطوّر
الجنين" في رحم أمه، من نطفة إلى جنين كامل الأعضاء والوظائف، توحي بقوة وجود
مثل هذه الغائية سلفا في جينات هذا الأخير. يؤكد ماير أن هذا المشكل قد حلّ بفضل
الاكتشافات المؤسِّسة للبيولوجيا الجزيئية والتي تتجسم في اكتشاف تركيب الحمض
النووي وخاصة الشفرة الجينية. مكّنتنا هذه الاكتشافات من التعامل مع آليات تركيب
وصنع البروتينات على أنها آليات "نقل معلومات" وَوَصْفٍ لجزيئات ضخمة (الحمض النووي
والبروتينات) بأنها جزيئات حاملة لمعلومات وراثية. لقد سمح لنا في الواقع اكتشاف
الشفرة الجينية (مفتاح التطابق بين تركيب الحمض النووي وتركيب البروتينات) من التعرض
بكفاءة لفكرة المعلومات الوراثية في البيولوجيا. انطلاقا مما سبق وبسرعة رهيبة
ينتقل ماير من الشفرة الجينية إلى فكرة "البرنامج الوراثي". بالنسبة له وبوضوح،
لقد كُتِبَ البرنامج الوراثي سلفا في جينات الحمض النووي وهذا البرنامج يوفّر
لنا تفسيرا آليا ماديا وليس إحيائيا
للتطور الموجّه للكائنات الحية. يتراءى لنا أن ليس لهذا التطور غاية.. لا.. له
غاية، لكن بصفة آلية. حول هذا الموضوع، اخترع ماير عبارات، سوف تعرف شهرة كبيرة،
خاصة عبارة "القصدية الآلية" (L’intentionnalité mécanique ). تتوفر في هذا النموذج
كل مظاهر القصدية لكنها تبقى فقط مظاهر لأن تنفيذ البرنامج الوراثي في الخلية يقع
آليا ويشتغل مثل برنامج الحاسوب، يعني دون قصد أو بِـقصدٍ آلي بواسطة آلة الخلية
لتركيب وصنع البروتينات. قِسْ على ذلك تطوّر أو عمل الكائنات الحية الذي نستطيع
فهمه وتفسيره بالتنفيذ الآلي البسيط للبرنامج الوراثي دون اللجوء لقصد أو نية
مسبقة روحانية أو فكرية. يحاول ماير تجاوز الغائية الروحانية التي تحدد هدفا مسبقا
للحياة بفكرة أن الهدف موجود ماديا وآليا في الحمض النووي لكن غير مقصود روحانيا
أو ما ورائيا.
2.
المقاربة الثانية تتمثل، حسب ماير، في "البيولوجيا
التطوّرية" (La biologie évolutionniste)، التي لا تبحث في
كيفية عمل أجسام الكائنات الحية بل تسأل لماذا هم هكذا ويشتغلون كما هم يشتغلون ؟
لا يجب أن نحمّل هذا السؤال صيغة غائية مثل: من أجل ماذا هم هكذا ؟ بل نترجمه إلى
السؤالين التاليين: كيف حصل هذا ؟ كيف تمت الأشياء بهذه الصفة ؟ يتعلق الأمر إذن بالجانب التاريخي للبيولوجيا ويستحضر ماير أكيدا النظرية
الداروينية الجديدة الكلاسيكية القائلة بـ"التحول النوعي" (Mutation ) و"الانتقاء
الطبيعي". التطور البيولجي هو الذي ينتج كائنات حية غائية في
ظاهرها لكن هي ليست كذلك حقا لأنها تشتغل بواسطة برنامج وراثي مسبق.
وهذا ملخص لأسس "براديـﭬم" قائم الذات هو براديـﭬم
"الكل وراثي" (Le tout génétique ou le déterminisme génétique) وهو يُدَرَّسُ على
نطاق واسع وقد حُظِيَ بتطوّر كبير وما زال إلى اليوم يتعزّز بصفة مذهلة. مع ذلك نلاحظ
منذ أمد قصير نوعا من الإضعاف التدريجي لهذا البراديـﭬم. كيف نفسّر هذا التناقض ؟
بغض النظر عن ضعفه المفاهيمي، الذي سوف نرجع إليه في
مقال آخر، لقد أثبت استغلال هذا الإطار من التفكير (براديـﭬم) خصوبة علمية عالية
وسمح بتطوّر خارق للعادة للنتائج التجريبية الحيوية. بلغ هذا الاستغلال قمته مع
مشروع اكتشاف جينات الحمض النووي البشري (سنة 2000، انخفض تقديرها العلمي داخل كل
خلية بشرية من 100 ألف جينة إلى 25 ألف فقط). استغِل هذا الاكتشاف من قِبل بعض
المؤمنين بالحتمية البيولوجية أو الوراثيين وقالوا لنا: ما دام كل شيء مكتوب في
البرنامج الوراثي فيكفي أن نحل شفرته ورموزه حتى نفهم كل طبيعة الكائن الحي مهما
كان، بكتيريا أو إنسان أو أي كائن حي آخر. من هنا أتت الفكرة الداعية لقراءة تسلسل
المعلومات المبرمجة في الجينات حتى نكتشف- مثل قائمة معلومات في برنامج حاسوب-
منطق طبيعة تنظيم الجسم البشري.
الاستغلال المفرط لهذا البراديـﭬم هو الذي كشف ضعفه بنفسه
وبدأت تتزعزع بجدية فكرة "الكل وراثي"، هذه الفكرة التي تقول أن كل أو
جل تطوّر وعمل الأجسام الحية مقرر مسبقا ومكتوب في جينات البرنامج الوراثي في
الحمض النووي لكل كائن حي. بدأت هذه الفكرة تُعَوَّضُ تدريجيا بنموذج أكثر تعقيدا.
يرتكز هذا النموذج الجديد على جملة من الأفكار كالتفاعلات والتأثيرات المتبادلة
بين الوراثي، الذي لا ننكر دوره المركزي، وبين ما "ما بعد الوراثي" (L’Épigenèse ) الذي بدأنا نتلمّس
أهميته. هل يبشر هذا الانزلاق الفكري بولادة براديـﭬم جديد ؟
الجديد:
في مارس 1997، نشرت مجلة "طبيعة
بيوتكنولوجيا" مقالا ممضَى من قِبل أستاذ البيولوجيا الخلوية
والجزيئية بجامعة بركلاي، ريشار سترومان. في هذا المقال الذي أثار قليلا من الضجة،
كيفما يشير إلى ذلك العنوان "الثورة الكونيانية القادمة في البيولوجيا"
(The coming Kuhnian revolution in biology)، يحلل سترومان، وكما
ورد أيضا في العنوان الفرعي للمقال "ما بعد الوراثي ونظرية التعقيد" (La complexité) ويقول: يتكون هذا البراديـﭬم
المنبثق والجديد، من مفهومَيْ "ما بعد الوراثي" و"التعقيد" ويضيف
إليهما مكون ثالث أو مفهوم ثالث، هو "التنظيم الذاتي" (L’auto-organisation).
لقد انبثقت البيولوجيا الجزيئية (La biologie moléculaire) من شلاّلٍ رائعٍ من الاكتشافات
وأوجدت خلال بضع سنين حلولا لسلسلة من المشاكل الكبرى تخص الحمض النووي الحامل
المادي للجينات وتركيب البروتينات بجميع مراحله الوسيطة. لكنها وقعت في خطأ نظري وإبستومولوجي
يتمثل في اعتقادها تفسير كل الوظائف الخلوية اعتمادا على هذا الجزء الأساسي من
المعلومات الجديدة وقد جرّنا هذا التوسع الفاحش إلى تمشّيات مغلوطة أفضت بدورها إلى سيطرة براديـﭬم "الكل وراثي". رغم أن
البراديـﭬم الجديد الذي يسمَّى "ما بعد الوراثي" عرف كيف يصلح البراديـﭬم
السابق "الكل وراثي" ويكمله بإضافة تمثلات أكثر تعقيدا، تمثلات تدخل في
حسابها آليات "ما بعد الوراثي" في عمل وتطور الكائنات الحية، لكن من
المؤسف أن براديـﭬم " الكل وراثي" سبق وأرسي عديد المعتقدات غير العلمية
في المجتمعات العلمية: نستحضر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر، المعتقد المركزي
المتمثل في التفسير الخطي البسيط لمراحل صنع البروتينات من جينة إلى أنزيم إلى
وظيفة أو صفة خلقية. نعلم منذ وقت طويل أن هذا التسلسل المبسّط، المكتشف لدى
الكائنات غير مكتملة النواة كالبكتيريا، لا يصلح لتفسير نفس الظاهرة عند الكائنات
مكتملة النواة كالإنسان، حيث تشارك عدة جينات أو مورّثات في التعبير عن صفة واحدة من
الصفات الخلقية أو قد تساهم جينة واحدة في التعبير عن عدة صفات وراثية كتحديد
الفصيلة الدموية مثلا. ونعلم أيضا أن هذا التسلسل الخطي ذو الاتجاه الواحد، من
الحمض النووي (ADN) داخل النواة إلى
نسخته على شكل حمض نووي ريبي (ARN) داخل السيتوبلازم وصولا إلى ترجمة هذا الأخير إلى
بروتينات مسؤولة عن الوظائف البيولوجية، تسلسلٌ لم يعد قادرا وحده على تفسير تركيب
وصُنْعِ البروتينات داخل الخلية الواحدة مهما كان اختصاصها عصبية أو عضلية أو
دموية أو جلدية أو قلبية أو شحمية أو رئوية أو كبدية أو عظمية أو غيرها. نواجه هذا
النموذج الناقص بنموذج أفضل يتكون من علاقات رجعية ذات اتجاهين وليس اتجاه واحد:
الجينات تتدخل في صنع البروتينات، والبروتينات بدورها تأثر على عمل الجينات، وتنبثق
الوظيفة البيولوجية ليس من بروتين واحد و إنما من التفاعل الذي يتم بين عدة
بروتينات، كل هذه الشبكات من العلاقات المعقدة التي أحْدِثَتْ في السيتوبلازم قد ترجع
وتؤثر أيضا في عمل الحمض النووي داخل النواة. بصفة عامة، نلاحظ بُرَوزَ براديـﭬم واعد
يجدّد الاعتناء بـ"الجزيئات الناقلة للمعلومات" (مثل جينات الحمض النووي
أو جينات الحمض النووي الريبي أو جينات العضيّة الخلوية المتخصصة في التنفس الخلوي
وإنتاج الطاقة -Les mitochondries- أو جينات السيتوبلازم
والبروتينات)، ولا يختزلها في جينات الحمض النووي فقط، مما ينقل مركز الاهتمام
والثقل من براديـﭬم "الكل وراثيّ" -حيث يُخْتَزَلُ كل شيء في المصدر
الأصلي أي الحمض النووي- إلى براديـﭬم "ما بعد الوراثي"، حيث التحليل أصبح
أكثر تعقيدا مما يُجبرنا على إقامة حلقات من العلاقات الرجعية (تنطلق من
"أ" نحو "ب" ثم ترجع نحو "أ") في كل مرحلة من مراحل
صُنْعِ البروتينات بين الحمض النووي والبروتينات وبين البروتينات والوظائف
البيولوجية.
إمضائي:
لا
أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه
إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه.
عبد الله العروي
يطلب
الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا -اقتداء
بالمنهج العلمي- أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد
المفيد.
لا
أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر
أخرى وعلى كل مقال
سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 17 أوت 2010.