محاولة فلسفية أولى: الموروث و
المكتسب؟ مواطن العالم د. محمد كشكار
ملاحظة
كتبت هذا المقال ونشرته لأول مرة
قبل الثورة في 14 أوت 2010 و أعيد نشره للمرة الثالثة، اليوم 13 مارس 2013، لِما يحمله حسب تقديري من أفكار ثقافية تشاؤمية.
أثبتت الثورات العربية الحالية مغالاة هذه الأفكار في التشاؤم و أثبتت أيضا ضيق
فكر و أفق معتنقيها من المفكرين و المثقفين العرب أمثالي و أمثالك. إن المثقف يعيش
في برجه العاجي. أثبتت الثورات العربية أن المواطن العربي لا ينقصه من الحكمة شيء
مقارنة بزميله الإسكندنافي و عندما أراد إسقاط الطاغية، سقط الطاغية
كلمة فلسفة تعني حرفيا حب الحكمة و
أنا أعشق الحكمة منذ وعيت هذه الدنيا فأنا إذن فيلسوف بالقوة حتى و إن لم أكن
فيلسوفا بالفعل. الفلسفة هي تساؤل و تأويل و تفكير حول العالم و الوجود الإنساني و
هذا ما أفعله عن هواية بهدف تقصير زمن انتظار الموت
هل الإنسان العربي الحالي مسيّر أم
مخيّر؟
يولد الفرد من والدين اثنين و هو
يحمل ستة و أريعين صبغية وراثية، أخذ نصفها من الحيوان المنوي للأب و النصف الثاني
من بويضة الأم. يدخل الدنيا و هو مكبّل بتراث بيولوجي وراثي لا مناص له منه قبل أن
يحكم تكبيله تراثا حضاريا لا دخل له فيه و لم يشارك البتة في صنعه
منذ التحام البويضة "أ"
بالحيوان المنوي "ب" صدفة، يتقرر اعتباطا المصير البيولوجي للفرد و يُعرف
سلفا لونه، شكله، طوله، أمراضه الخَلقية، قابليته للإصابة ببعض الأمراض الوراثية
المستقبلية و تتحدّد نهائيا ملامح وجهه التي سيعرضها يوميا على مجتمع قاس غير
متحضر و أناني. صحيح أنه كنوع من الحيوان قد شارك تاريخيا في التطور البيولجي و التفاعل
الذي تم عبر ملايين السنين بين جيناته أو مورّثاته الثلاثون ألف و المحيط، هذا
التفاعل بين ما هو جيني و ما هو بيئي أوصل إلينا هذه المورّثات على هذه الحال في
منزلة بين المنزلتين لا هي صفات بشرية كاملة و متعالية و لا هي صفات حيوانية
غريزية بسيطة و أظن حسب رأيي أنها للحيوانية الغريزية أقرب
تمعّن فيما فعله و يفعله الحكام الغربيون
و الشرقيون و هم في الظلم متساوون! هل الحيوان يقتل ابن فصيلته؟ هل الحيوان يقتل
للكسب و الربح و الجشع و التسلط؟ هل الحيوان يقتل بالقنبلة النووية مائة و خمسين ألف
بشر ياباني في يوم واحد؟ هل الحيوان يقتل خمسة و أربعين ألف جزائري في مدينة سطيف
في يوم واحد؟ هل الحيوان يقاتل أبناء بلده و يبيد منهم عبثا مائتي ألف في الجزائر؟
هل الحيوان يَعبُر المحيطات و يذِلّ شعوبا و يخصي أمما بأكملها؟ هل رأيت أسرابا من
الطيور تمطر بلدا مليون قنبلة عنقودية؟ إلا طير أبابيل في القرآن ترمي أبرهة الحبشي و جيشه بحجارة من سجيل
لكن في المقابل، هل الفرد يتحمل
مسؤولية الجدلية التطورية التاريخية التي تمت بين جيناته و البيئة عبر ملايين
السنين منذ انبثاق جزيء الحمض النووي ّأ. د. ن." و ظهور الحياة على وجه الأرض؟
و الغريب أن انفصال الإنسان عن ابن عمه القرد في شجرة التطور قد وقع صدفة أيضا و
القرد ليس جد الإنسان بيولوجيا كما يُؤوِّل الناس غير العلميين خطأ نظرية التطور
الداروينية. نتج هذا الانفصال البشري من شجرة الحياة عن خطأ حدث في جزيء الحمض
النووي، فوجودنا إذن و من أساسه مبني على خطأ كيميائي، أفرز هذا الخطأ نقلة نوعية
إيجابية في تكويننا
يبدو لي أن المقاربة
"الحتمية" الجينية تعظم من شأن الحمض النووي و جيناته الثلاثين ألف في تقرير مصير الفرد. تعارضها مقاربة أخرى، لكن "لاحتمية"
تسمى "ما بعد أو ما فوق الوراثي" التي تنادي بعدم التسليم بالقدر
البيولجي المحتوم و محاولة التصدي له و تغييره بالتعلّم و التمرّن و تغيير العادات
و التقاليد و النظام الغذائي و لهذه النظرية في سِجلّها الجديد نسبيا بعض
الانتصارات. هذه المقاربة "اللاحتمية" العلمية التقدمية و الواعدة تواجه
عدة عراقيل: منها ما يتعلق بتكلّس الأوساط العلمية المؤمنة بالمقاربة "
الحتمية" القديمة و المهيمنة المسماة "كل شيء وراثي"، و التي تأله
الحمض النووي، و منها ما يتعلق بتسييس العلم و عدم حياديته عندما يُستغل من قبل
بعض السياسيين للتهرّب من مسؤولياتهم و تبرير عدم المساواة الاجتماعية بالحتمية
الجينية كقولهم أن العنف وراثي و الذكاء وراثي و هم أبرياء و غير مسؤولين على ما هو طبيعي و وراثي
منذ ولادته، يُنسب الفرد لأب و أم
لم يخترهما، لم يختر أيضا أخيه و لا أخته و لا عمه و لا خالته و لا لغته و لا دينه
و لا جنسيته و لا مكان ولادته و لا حليب أمه أو حليب الصيدلية. جاء و هو مسيّر
فاقد الإرادة، جاء و الحاكم العربي جاثم على صدره و كاتم لنفسه و الحزب العربي الواحد
الأحد لا حزب شريك له مهيمن على الدولة و الشعب و جبّار على الضعفاء و مذلّ
للفقراء و رقيب على الصحافيين و مانع للحرية و مقدّم للزيادة في الأسعار و مؤخّر
للزيادة في الرواتب و منتقم من المعارضين و ضارّ للناس أجمعين و الأوّل في التخلف،
الآخر في التقدّم، موجود موجود موجود! جاء و النظام الديمقراطي و حرية الصحافة و
دولة المؤسسات و القانون و حقوق الإنسان و استقلال القضاء، موعود موعود موعود! جاء
و فلسطين محتلة و العرب و المسلمين مكروهين و مهانين فورث قدرهم و كسلهم و فشلهم
كما ورث لون بشرته فهل له دخل في كل هذا العبث الذي سيقرر مصيره و اتجاهه و طموحه رغم
ما قد يفعله من مكارم في المستقبل؟ هل يستطيع أن يعيش بعزة و كرامة في وطنه؟ هل
يستطيع أن يعارض السلطة و كرامته مصانة؟ هل يستطيع أن يحافظ و يفعّل الفصل العاشر من قانون
الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يحرّم الترشح لأكثر من دورتين في المسؤولية
النقابية؟ هل يستطيع أن يقف دون تجريد ضد ديناصورات المكتب التنفيذي للإتحاد العام
التونسي للشغل؟ ديناصوراتنا النقابية أطول عمرا من ديناصورات الحقبة الجوراسية،
لقد انقرضت الأخيرة و هم لا ينقرضون و على رؤوسنا قابعون و للنشاط النقابي قامعون
و بالسلطة و الخارج يستقوون على العمال المثقفين المفكرين و على العمال الذين هم
بالساعد شغالون
في عالمنا العربي تحالف الثلاثي
المقدس، الموروث البيولوجي و التراث الحضاري المتكلّس و الأنظمة السياسية القروسطية،
ضيّقوا الخناق على المواطن العربي المسكين
و أجبروه على أن يكون مسيّرا مائة بالمائة حتى و لو كان زميله المواطن الإسكندنافي مخيّرا مائة بالمائة في اختياراته و مسيّرا مائة
بالمائة في موروثاته و مورّثاته في الوقت نفسه
الإمضاء
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم
بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا
بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي أو بالحيلة، لأن الحيلة تُعتبر عنفا مقنّعا و
غير مباشر
الكتابة بالنسبة لي، هي
مَلْءُ فراغ، لا أكثر و لا أقل، و هواية أمارسها و أستمتع بها، متعة ذهنية لا يمكن
أن تتخيلوها
تحية دائمة و متجددة لزملائي المربين: في ألمانيا المعلمون أعلى دخلاً في البلد، وعندما
طالب القضاة والأطباء والمهندسون بالمساواة ؛ ردت عليهم ميركل: كيف أساويكم بمن
علّموكم؟
قال ويليام بلوم: لو كان الحب أعمى فـالوطنية الشوفينية
الضيقة
الإقصائية و
المتعصبة فاقدة للحواس الخمس
تاريخ أول
نشر على النات
حمام الشط
في 14 أوت 2010
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire