محاولة فلسفية ثالثة: هل ندرس
في العالم العربي، علوما و معارف أم قيما و أخلاقا؟ مواطن العالم د محمد كشكار
هل ندرّس في مؤسساتنا
التربوية معارف أم قيما؟ هنا يكمن السؤال
أبدأ بنقل هذا الحوار
العلمي الشيق حول هذا السؤال
-
قال المنظّر في البيولوجيا و البيوفيزياء و العضو في الهيئة الاستشارية
للأخلاق في علوم الحياة و الصحة، "هنري أتلان"، 1994: " تَصْدُرُ
أقوال العلماء أنفسهم من قيمهم الذاتية، على الأقل كما تصدر من معرفتهم الموضوعية
-
طرحت الصحافية العلمية و الكاتبة الفرنسية "كاترين بوسكيه"،
1994، على "أتلان"، السؤال التالي حول البيولوجيا: " هل تُحدّثنا
البيولوجيا عن الحياة؟ حياتنا؟... خاصة عندما يتعلق الأمر بمعرفة كيف يجب أن نعيش؟
نحب؟ نتألّم؟...نموت؟ لا يسعنا إلا الجواب بلا على هذا السؤال، نلاحظ أن التجربة
المعيشة ليست في الحقيقة موضوع البيولوجيا. في الواقع، العلوم، حتى المنتسبة منها
للحياة، ليس لها الشيء الكثير لتقوله حول هذه الأسئلة الوجودية
-
أتلان: في الجدل الذي يعارض فيه "سقراط"، قال الفيلسوف الإغريقي "بروتاقوراس"
في موضوع "كيف ندرّس الفضيلة؟" ما يلي: بالنسبة لسقراط، يكفي أن ندرّس
العلوم و معرفة الحقيقة تؤدي حتما إلى معرفة الخير. أما بالنسبة لبروتاقوراس، يجب
تدريس الشعر الملحمي: الخير ليس نظرية هندسية أو قاعدة فيزيائية، الخير هو تقمّص نفسيّة
بطل. لقد سَخِرنا من بروتاقوراس لكن ماذا يحصل اليوم ؟ تدرّس التلفزة الأخلاق ببث
صور تثير السخط أو الإعجاب. إذن، لقد كان بروتاقوراس على صواب في جميع ما قاله
-
بوسكيه: هل تأسف لذلك؟
-
أتلان: نعم و لا. لا أتأسف لذلك لو أدى الأسف مرة أخرى إلى إعادة تأهيل
الموقف الذي يدافع عنه سقراط في هذا الحوار لأن هذا الموقف وهمي. لكن أقول نعم،
أسف لأن التعليم الشامل للأخلاق التي يقوم به الإعلام هو مجرد غضب أخلاقي
يقرّ النظام الأساسي الرسمي التونسي في نصوص مادة علوم الحياة و الأرض ما
يلي: مجالات المعرفة التي تغطيها المادة تهم مباشرة حياة الإنسان و صحته و علاقاته
بالمحيط البيئي و استغلال الثروات البيولوجية و الجيولوجية مما يعطي هذا الفرع من
المعرفة بُعدا تربويا كبيرا يحمل قيما و مواقفَ و سلوكيات تصب في صالح
الصحة و البيئة
هل يقوم المدرّس التونسي بتطبيق ما جاء في النظام الأساسي الرسمي؟ أشك في
ذلك كثيرا! خاصة فيما يهم القيم العلمية الإنسانية الراقية. سأضرب لكم مثلا يؤكد
شكي: سأل أستاذ علوم إعدادي زميلته في نفس المادة: "هل تدرّسين تلامذتك وسائل
الوقاية من مرض السيدا؟" أجابته بكل الوثوق غير العلمي: "طبعا لا، لأن
من ارتكب معصية يتحمل وحده وزر ما فعل من عقاب إلهي" أبدأ بالتعليق العلمي
على قول زميلتي المحترمة: "يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه" لأن
التلميذ غير الواعي بوسائل الوقاية قد يساهم في انتشار المرض دون قصد و قد يصبح
وباء قد لا تسلم منه زميلتنا الموقرة لا قدر الله. ثانيا، أردّ إنسانيا و دينيا،
لأن لا تناقض في تعريف الأخلاق السامية بين العلم و الدين و القوانين الوضعية، يصل
إليها الأوّل عن طريق الإقناع و التجربة و الخطأ و يأمر بها الثاني بواسطة الوعظ و
الإرشاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المُنكر أمّا القوانين الوضعية فتحاول تقنين
ما توصّل إليه العلم و ما جاءت به الأديان السماوية و الأرضية: نسيت هذه الزميلة
أو تناست أن التشفي في المريض هو فعل غير أخلاقي تُنكره و تحرّمه كل الشرائع
السماوية و الأرضية حتى و لو أخطأ الفاعل عن قصد و أساء إلى نفسه دون قصد. يحتاج
المريض، مهما كان دينه و سلوكه، إلى علاج و مواساة عوض اللوم و المحاسبة. تحدّ توعية
المريض علميا و وقاية السليم صحيا من انتشار المرض المُعدي وتضمن السلامة لباقي
أفراد المجتمع. أستنتج أن الزميلة لم تتمسك بميثاق وزارة التربية التونسية و لا
بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان و لا بدينها الحنيف الذي يجرّم العالِم الذي لا
يفيد الناس بعلمه و ينهى الإسلام كذلك عن الإيذاء بالنفس و بالغير
في الفقرة الموالية و بحكم اختصاصي، سأحاول التطرّق إلى القيم البيولوجية
الإنسانية الراقية التي يعتقد البعض أنها حكرا على الأديان و الإيديولوجيات. نحن
ندرك الآن أن العلم منحاز و ليس موضوعيا كما سبق و أن ذكرت في مقالي السابق " هل العلم موضوعي أم متحيّز؟". ينحاز العلم و يخدم مَن ينتجه و نحن نستورده فكيف نطلب
منه أن يكون في صفنا؟ عندما نُصبح في صفه إن شاء الله و شاء عقلنا، سيكون من
جانبنا ضد عدونا الداخلي قبل الخارجي المتمثل في جهلنا و تخلفنا و كسلنا و نفاقنا
و عنصريتنا و تمييزنا العرقي و الديني و تكبرنا و إقصائنا للآخر بدعاوى باطلة و
إيماننا بالغيب في مسائل مادية غير غيبية
سأعدد على سبيل الذكر لا الحصر بعض القيم العلمية المفيدة للبشرية جمعاء
دون تمييز ديني أو عرقي أو جنسي
1. العمل الجماعي
لم يعد بوسع عالِم منزو في مخبره أن ينتج شيئا مهمّا لاستحالة الإلمام جملة
بعديد الاختصاصات الضرورية في كل علم. قال العالم "المصري – الأمريكي"،
صاحب جائزة نوبل في الكيمياء، 1999، أحمد زويل في حديث تلفزي: "قبل هجرتي إلى الولايات المتحدة لإتمام
دراساتي العليا، كنا معشر البحّاثة في جامعة الإسكندرية، يقفل كل واحد منا على بحوثه
الخاصة في خزانته حرصا عليها من عيون زملائه. سافرت إلى أمريكا حاملا معي قُفلي و
عندما وصلت إلى مخبر الجامعة أخرجته، سخر مني زملائي الأمريكيين قائلين أن بحوثنا
تكمّل بعضها البعض فلا داعي للقفل يا أستاذ. ضحكت من جهلي و من تخلف البحث العلمي
عندنا. توصلت لاكتشافي الذي نلت بموجبه جائزة نوبل بفضل فريق من العلماء المتعاونين في كنف العمل
الجماعي الشفاف
2. التنمية المستدامة: القناعة كنز لا يفنى
أدرّس للسنة الثالثة رياضيات التنمية المستديمة أو المستدامة، هذا المفهوم
العلمي الجديد نسبيا الذي يحث على عدم الاستغلال المفرط للمصادر الطبيعية للإنتاج
كالتربة و البحر حتى لا نلوثها و نتركها إرثا فقيرا للأجيال القادمة. تجعل التنمية
المستديمة من مصادر إنتاجنا الغذائي كنزا لا يفنى. حتى لا تنعت بعض العقول العربية
القاصرة أفكاري بأضغاث أحلام و تنظير فلسفي يستحيل تطبيقه، أسوق لكم تجربة دولة
النورفاج الناجحة في التنمية المستديمة و هي الدولة المصنفة عالميا منذ سنة 2000،
على رأس الدول التي يطيب فيها العيش: أعدّت الدولة إستراتيجية أخلاقية، نعم
أخلاقية و ليست غلطة مطبعية، لإدارة ثروتها النفطية، إستراتيجية لم يسبقها
إليها أحد و لن تقلدها الدول العربية في القريب العاجل. تتمثل هذه الإستراتيجية في
ادّخار نسبة من أرباح البترول الحالية للأجيال القادمة على شكل صندوق تنموي -
أليست القناعة كنز لا يفنى؟ - و تتجسم إستراتيجية
هذا الصندوق سنة 2004 في ميثاقه القاضي بعدم عقد صفقات تجارية مع شركات الصناعات
الحربية اللائنسانية مثل صناعة الأسلحة الكيميائية و النووية و البيولوجية و طبق
الصندوق مقاطعته فعليا على أربع شركات كبرى
لومي الوحيد، كمواطن يحمل بطاقة تعريف عالمية، على حكومة النورفاج أنها
نسيت حقي القانوني و حق المليارات أمثالي في حصة من ثرواتها النفطية و "لم
يصلنا من الحب نائب". الثروات النفطية النورفيجية، ثروات أحفورية، صنعها
تاريخ الأرض الجيولوجي عبر أربع مليارات من السنين و لم يشارك في صنعها نورفيجي
واحد، بل لم يكونوا موجودين أصلا عند تشكّلها في باطن الأرض. لماذا إذن يحتكر
استغلالها النورفيجيون وحدهم ؟ ثقتي في النورفيجيين كبيرة و أكيد سيدخرون نسبة
أخرى للإنسانية! كذلك الثروات النفطية و الغازية السعودية و القطرية و الجزائرية و
الليبية و العراقية و البريطانية و الكويتية و الأمريكية! لماذا لا تُؤمّم عالميا
و تُقسّم عن طريق الأمم المتحدة و يصبح لكل تونسي دخل سنوي محترم حلال محلّل من رَيْع
ممتلكاته الطبيعية العالمية في النورفاج و روسيا و كندا؟ يستحضرني في هذه اللحظة
مثال تونسي طريف و معبّر جدّا: "يَحلم الكلب، يقلي الفطّار (صانع الفطائر) و يعطيه، قام في الصباح فوجد
نفسه مربوطا في سلسلة حديدية
أما نحن العرب، فحالنا يسرّ العدو و يحبط الصديق: السعودية تزيد في إنتاجها
كلما طالبت مجموعة الأوبيك للدول المنتجة للبترول بالزيادة في الأسعار. يفرّط العراق
في ثروته النفطية للأمريكان و البريطانيين، حماة نظامه الحاكم الديكتاتوري الغاصب،
بأبخس الأثمان. تبيع مصر غازها بأبخس الأثمان لعدوها الإسرائيلي و تترك مواطنينا
يموتون من الازدحام في طوابير لشراء قنينة غاز المطبخ. أبرمت حكومة المجاهدين
الجزائريين الثوريين الوطنيين السابقة صفقة سرية مع الحكومة الفرنسية السابقة
لإجراء تجارب نووية في الصحراء الجزائرية. في المقابل تدّخر حكومة النورفاج الليبرالية المال لأجيالها
القادمة و تدّخر حكومة الجزائر الإشعاعات النووية المسرطنة لآلاف الأجيال الجزائرية القادمة
أضيف اليوم للمقال فقرة من وحي الأحداث الحالية، زلزال اليابان المروّع
كلمة عزاء و حب و تقدير ، أوجهها
كمواطن العالم إلى أعظم شعب في الوجود و
التاريخ حسب وجهة نظري المتواضعة، الشعب الياباني المُجدّ العامل الذي أحببته و
عشقته لعلمه و دماثة أخلاقه، الشعب الذي قاوم بالعلم أشرس استعمار دون طلقة نارية واحدة.
لم يردّ على العنف الأمريكي بعنف ياباني و هو القادر على ذلك و لم يسعَ لإنتاج
القنبلة النووية لكن ألومه بكل لطف على استثماره في النووي السلمي الذي رجع عليه
بالوبال بعد الزلزال الرهيب الذي أصابه. أنا أحمل موقفا شخصيا قديما متصلّبا و
معاديا لكل استثمار في النووي، سلميا كان أو حربيا و ذلك لسبب علمي بسيط: يعجز
الإنسان الآن علميا على إعادة تدوير (رسكلة) الفضلات النووية الناتجة عن الصناعة
النووية الحربية و السلمية و قد تبقى هذه الفضلات آلاف السنين تبعث إشعاعات نووية
في الجو، قد تتسبب في أمراض السرطان عند
الإنسان و الحيوان. يبدو لي أنه كان من الأجدر بعلماء اليابان العظام الاستثمار في
الطاقة النظيفة و الدائمة مثل الطاقة المُستخرجة من أشعة الشمس أو من قوة الريح،
خاصة و أن الشعب الياباني هو أول من اكتوى بنار القنبلة الذرية سنة 1945 في
هيروشيما و ناكزاكي و فقد ما يقارب الـ150 ألف بشر في لمح البصر و لا زال
اليابانيون، و بعد مرور 66 سنة على الكارثة النووية، يُعانون من الآثار السلبية
للإشعاعات النووية على صحتهم و صحة أولادهم و على تربتهم و هوائهم و مياههم
3. الوطنية الحقيقية
أدرّس لقسم السنة الثالثة
رياضيات محور التغذية منذ 15 سنة (أفضل الأقسام عندي و أَحَبّها إلى قلبي لقلة عدد
تلاميذه و لارتفاع معدلاتهم عموما)، لي درس سنوي ثابت، عنوانه "البسيسة"
(تتكون البسيسة من دقيق القمح أو الشعير المحمّص أو
المحمي على النار بشدة و المطحون تقليديا غير المكرّر صناعيا و المُصَفّى في غربال
تقليدي. نضيف له ما شئنا من زيت الزيتون و دقيق البقول أو الفواكه الجافة و المواد
الغذائية الأخرى و النباتات الجبلية البيولوجية المعطّرة)، درس غير موجود في البرنامج الرسمي. لسائل أن يسأل: ما
هي العلاقة بين البسيسة و الوطنية؟ البسيسة هي الراعي للوطنية و الرافض للتبعية
الغذائية الغربية. هزم غاندي بريطانيا باعتماده على الصناعة التقليدية الهندية
للقطن و الحرير المُحاكين يدويا على آلة تقليدية الصنع و بسيطة جدا. البسيسة سلاح
من لا سلاح له، وجبة وطنية و تقليدية بامتياز، نظيفة من صنع الأمهات و بيولوجية
خالية من المواد الكيميائية، سهلة الوصفة في الصنع و الإعداد، وجبة كاملة و
متوازنة، غنية بالألياف فقيرة بالدهنيات تصلح للطفل و الشيخ والسليم و مرضى السكري و القلب و الشرايين،
غذاء متعدد الاختيارات (باللوز، بالحمص، بالشامية، بالحلبة، بالدرع، بالعدس، بزيت
الزيتون، بالسكر أو بالعسل، معطرة بالإكليل أو الزعتر أو القشور الجافة للبرتقال الحلو،
ألخ)، تسهّل مرور الطعام في الأنبوب الهضمي و تمنع القبض و تحمينا من سرطان
القولون، غذاء اقتصادي جدا (كنت و أنا بمدينة ليون الفرنسية، أنهي دراساتي العليا،
أكتفي في بعض الأحيان بكأس بسيسة غداء أو عشاء لقلة ذات اليد و غياب تشجيع البحث
العلمي من قبل الدولة التونسية)، أكلة غير تمييزية لأنها مُستهلكة من كل فئات
المجتمع التونسي، يستهلكها الغني و الفقير، سهلة النقل في كيس من البلاستيك أو
الكاغظ أو القماش، عابرة للقارّات، خفيفة الوزن، صديقة المسافرين و "الحرّاقة"
(الشباب المغامرون الهاربون عبر البحر من تونس إلى إيطاليا بحثا عن لقمة العيش)، وجبة
سهلة الحفظ خارج الثلاجة صيفا و شتاء، سهلة التناول في أي وقت و في أي مكان و في
أواني بسيطة. لماذا لم نطوّر هذا السلاح الغذائي الرهيب لنتخلص من التبعية
الغذائية الغربية المقيتة و المذلّة ؟ لماذا لم نصنّع البسيسة و نصدّرها على أوسع
نطاق تحت علامة ّصنع تونسي"، آه ثم
آه، سبقنا الغرب و فعلها كما سرق بذورنا المحلية و سرق خرّيجي معاهدنا النموذجية
الذين صرفنا عليهم دم قلوبنا و سرق علماءنا الذين تكونوا في جامعاتنا و سرق أمهر
عمّالنا و سرق أفضل معارضينا السياسيين و سرق آمالنا و أحلامنا في النهضة و
التقدم، كل هذه المصائب بسبب غياب القيمة الأساسية في أوطاننا، ألا و هي الحرية.
لماذا لا نعلّب البسيسة و نغيث بها إخواننا في الدين الباكستانيين في محنة
الفيضانات و نجهّز طائرات البسيسة و نزوّد كل منكوب بكيس بسيسة يسدّ رمقه في هذا الشهر
المبارك. لماذا لا نعطيها لمجة لأطفالنا في الروضات و المدارس الابتدائية؟ لماذا
لا نجدها وجبة تُباع في المطاعم التونسية بنصف دينار للموظف التونسي الفقير حتى
يفرّج عليه فرّاج الكروب؟ و هل بعد كل هذا الشرح المستفيظ، ستقولون لي: أفكارك
أضغاث أحلام و صعبة التطبيق! أم يُستحسن بكم أيها المعارضون لكل فكر جديد، أن تُلصِقوا
عبارة "أضغاث أحلام"، على تسلّط حكّامكم القوميين الوطنيين رافعي
الشعارات السياسية الديماغوجية مثل الوحدة العربية الناصرية أو الصدامية أو القذافية
و الاشتراكية اللينينية أو الستالينية و الطائفية
الإسلامية المتناحرة بين الشيعة و السُنّة و المعارضة السياسية الصورية؟ أفضل الاستثمار
في صناعة و ترويج البسيسة عن الاستثمار في صناعة القنبلة النووية
4. حرية المبادرة و الصدق و الأمانة العلمية و الشفافية و
تجنّب السرقة الفكرية
نستطيع أن نُرسّخ كل هذه القيم في التلاميذ بتطبيق النموذج التربوي الحديث
المتمثل في "بيداغوجيا المشروع" حيث يبادر التلميذ باختيار موضوع للبحث
العلمي منذ الثانوي و يطوّره دون أستاذ رقيب على سكناته و حركاته، ينتفي الغش خلال
إعداد المشروع المشترك و ننمّي مكانه العمل داخل فريق متجانس علميا و نبعث الثقة
في النفس و في الغير و نعلّم التلميذ النقل الأمين من المصادر العلمية دون نسبة
مجهودات الآخرين لأنفسنا
5. الاعتماد على النفس
يحاول الأستاذ التخلي تدريجيا عن التدريس التلقيني العقيم و يترك المجال
لتطبيق النموذج التربوي الحديث المتمثل في "المقاربة البنائية لبياجي و
فيقوتسكي" حيث يصنع التلميذ معرفته بنفسه تحت إشراف أستاذه و دون توجيه
"بافلوفي" منه. يتعلم التلميذ قيمة الاعتماد على النفس فيتخرّج مواطنا
واثقا من نفسه و من قدراته التي بناها بنفسه و لم يمنحها له الأستاذ المؤطّر على
شكل شهادة دكتورا يتباهى بها كتباهي زائر الكعبة بلقب حاج و قد سمعت في الجنوب
الغربي التونسي، عن مهندس فلاحي، متخرّج حديثا، لا يعرف كيف يغرس نخلة، معلومة
يعرفها أبسط فلاح أمّي عندنا
6. الاختلاف لا يفسد للود قضية
يختلف العلماء فيما بينهم و لا يجاملون بعضهم بل يعمّقون خلافهم و ينشرونه بشفافية على صفحات
المجلات العلمية و في المؤتمرات العلمية و يجلسون مع بعضهم يشربون القهوة و
يتبادلون النكات و ينزلون إلى الشارع و يساندون القضايا العادلة كما يفعل العالم
الفرنسي الكبير في علم الوراثة، ألبير جاكار، عندما يخلع أبواب بيوت مهجورة في
باريس ليسكّن فيها عائلة صومالية أو عراقية دون مأوى و دون مصدر رزق كريم معرّضا
نفسه للمساءلة القانونية
7. التقييم الذاتي و الاعتراف بالفشل و الإصرار على النجاح
نحن بعض المدرّسين التونسيين، يكفينا تعسّفا و ظلما لملايين التلاميذ: نقيّمهم
و نسند لهم أعدادا و شهائد و نحن لم ندرس علم التقييم. لماذا لا نطالب مدرسينا
بشهادة في علم التقييم حتى يعلّموا تلامذتهم التقييم الذاتي. يعترف التلميذ
بأخطائه عندما يكتشفها بنفسه و بمساعدة الأستاذ لذلك يبدو لي أنه من الأفضل أن لا
تُفرض عليه فرضا دون نقاش و دون معارضة. يعترف التلميذ بفشله بمحض إرادته و بمحض
إرادته أيضا يصرّ على إعادة الكرّة و السعي إلى النجاح. يفرض بعض المدرّسين على
التلميذ في القسم الاستكانة و الجبن و السكوت عن الظلم و عدم المعارضة و يغيّبون
الديمقراطية تماما. في المقهى، يتغير الخطاب و يصبح الرجعيّ ثوريا، يلعن نفس
المدرّسين المتقاعسين سلطة القمع و الاستبداد و غياب حرية التعبير. من هي السلطة
يا ترى؟ المدرّس في القسم سلطة، فمن أمرك بالظلم و من أباح لك شتم التلميذ و ضربه
و إهانتهّ؟ إذا أنت لم تقدر على تغيير نفسك فكيف تطالب الآخرين بتغييرأنفسهم؟
نوبّخ التلميذ الذي يفشل و يخطئ و ننسى أن أكبر العلماء أخطئوا في مسيرتهم
العلمية أخطاء فظيعة لا يرتكبها الآن تلميذ في السادسة أساسي. أصبح الخطأ في القسم
إيجابيا بعد أن كان سلبيا و هو كما يقول علماء التربية "محرّك القسم
8. الحرية
قال جمال البنّا، أحد الفقهاء المصريين العِصاميين، غير المعترف بفقههم من
قِبل علماء الأزهر لأنه يعارض الفقه المتكلس السائد، قال ما معناه و ليس حرفيا في
قناة دريم 2 المصرية: لو كان للمذاهب بصمة كبصمة الإبهام عند الإنسان لكان التوحيد
بصمة اليهودية (ربما لأنها أول ديانة توحيدية وصلت إلينا) و المحبة بصمة المسيحية
و العدل بصمة الإسلام و المساواة بصمة الشيوعية و الحرية بصمة الرأسمالية
الليبرالية. أعلّق على ما قاله الفقيه مُضيفا: لم يحقق أي واحد من هذه المذاهب السماوية
و الأرضية بصمته على أرض الواقع و بقيت محنّطة في نصوصهم القديمة و الحديثة لا
لقصور في النظريات و إنما لعجز في البشر، كل البشر، المتعلّمين منهم و الأمّيين،
الأغنياء و الفقراء، التقدّميين و الرجعيين، الشيوعيين و الإسلاميين، الكهول و
الشباب، المنتمين و المستقلّين و الناس أجمعين . لم تحقق اليهودية التوحيد، ما زال
اليهود الصهاينة يعبدون ناتنياهو و أوباما. لم تحقق المسيحية المحبة، ما زال
المسيحيون الجدد يكرهوننا نحن العرب و المسلمين خاصة لسبب و دون سبب. لم يحقق
الإسلام العدل منذ موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 13 هجري و حجب عنّا الحاكم
المسلم المستبد الحرية و معها العدل على مدى 1412 سنة. لم تحقق الشيوعية المساواة بل خلقت طبقة هجينة من أعضاء الحزب الشيوعي تحكم
باسم العمّال و الفلاحين و تقمع بالحديد و النار العمّال و الفلاحين و المثقفين
المستقلين المعارضين. حققت الرأسمالية الحرية لكن أفرغتها من العدل، حققت الحرية للطبقة
البورجوازية على حساب عرق العمّال و الفلاحين الغربيين و الشرقيين و العرب و
الهنود و غيرهم من المستضعفين في الأرض. فهل يتساوى في أمريكا الشمالية، المعارض
اليهودي غير الصهيوني ناعوم شومسكي في
حرية التعبير مع اليهودي مالك قناة "السي آنان"؟
لكن من حسن حظنا، نحن المعذّبون في الأرض، حقق العلم و جمّع و وحّد البصمات
الأربع الأخيرة لأن بصمة التوحيد الإلهي تخرج عن اختصاص العلم. يستطيع مستعملي
النات، متساوين لا فرق بين أعرابي و أعجمي إلا بسرعة التحميل، الإبحار بكل حرية
عدى بعض المطبّات التي ستزول إن شاء الله و شاء محرّك البحث "قوقل". يوزّع
النات المعلومات على جميع أنحاء العالم بالعدل و القسطاس. يحب سكان
العالم الافتراضي بعضهم بعضا و يتبادلون التهاني بمناسبة أعياد الميلاد و الأعياد
المحلية و العالمية و يَشْكُون هموم بعضهم لبعض و يختلفون في الرأي و يحافظون على
صداقاتهم و يتصارعون فكريا و حتى و إن غضبوا فالنات يجنّبهم تبادل العنف المادي و
يقاومون الظلم و غياب الحريات سلميا دون سلاح. سيصبحون قوة ديمقراطية إن شاء الله
و شاء محرّك البحث "قوقل" و الحمد لله لقد أثبتت الثورة العربية سنة
2011 صحّة تنبئي هذا
يتميّز العلم عن كل هذه المذاهب ببشريته و استقلاليته و ماديته و شكّه و ضعفه الكامن في إمكانية تفنيده كما أشرت سابقا في
مقالي "ما الفرق بين التفكير العلمي و التفكير الديني؟". يتميّز العلم عن باقي المذاهب البشرية بكونه النادي الوحيد الذي يجتمع فيه و يصلّي في
محرابه، دون حرج و دون تمييز، المسلم و المسيحي و اليهودي و الرأسمالي و الشيوعي و
السني و الشيعي و الكاتوليكي و البروتستانتي و البوذي و الملحد و غيرهم. يحاول كل
طرف من مرتادي نادي العلم تدجينه و ضمّه إلى صفه و هو، العلم، متكبّر و جبّار و
عصيّ و صعب المراس أكثر من منتجيه. يحاول كل طرف تجميل نفسه بورود العلم دون
التقرح بأشواكه. أنساهم سعيهم الدؤوب لاستغلال العلم لأغراض سياسية رخيصة، أنّ قوته تكمن في هشاشته
و ظرفيته و قابليته للتكذيب و المراجعة في أي وقت و هو غير صالح لكل زمان و مكان.
تتعسف الأديان و الإيديولوجيات على نصوصها و تحاول توظيف اكتشافات العلم و حقائقه
المؤقتة و هذا التعسّف يمثل اعترافا ضمنيا بتفوق العلم عليهم جميعا و في جميع
المجالات ما عدى مجال الإيمان بالله، مجال لا يخضع للتجربة المادية. يزيّنون
بأحجار العلم الكريمة صدورهم جاهلين أو متجاهلين أن أحجار العلم الكريمة قد تتحول
تحت مطرقة اكتشاف نظرية علمية جديدة إلى
أحجار غير كريمة تُنزلهم من سماوات الإيمان العليا إلى أراضي العلم الدنيا. لو تفكّروا
و أفاقوا من غفوتهم لعرفوا أن الإيمان بالله لا يحتاج إلى إثباتات علمية تأكّده أو
تنفيه لأنه اعتقاد سرّي ذاتي شخصي غير موضوعي في علاقة غيبية عمودية لا وساطة فيها
للأنبياء و لا العلماء مهما علا شأنهم عند قومهم. أنا أتساءل: كيف يتكئ الإيمان على العلم و العلم لا دين له و لا
ملّة؟ الإيمان أزلي و العلم موضوع، الإيمان ثابت و العلم يغيّر جلده مع كل عصر دون
حياء و على الملأ ، الإيمان يتمسك بقوة بتراثه و العلم يغربل و ينتقد تراثه يوميا
و يوظف الجيد منه و يترك الباقي في سلة تاريخ العلوم، العلماء بشر ليسوا مقدسين و
لا معصومين من الخطأ و الأنبياء بشر أيضا ليسوا مقدسين أيضا و لا معصومين من الخطأ
إلا في تبليغ رسالتهم الإلهية رغم ما يضفونه عليهم أتباعهم من صفات لم يدّعونها
لأنفسهم في حياتهم و لا نزلت في كتبهم
9. العدالة
أنا
أثق في العلماء المثقفين المستقلين العَلمانيين، مؤمنين و غير مؤمنين، و أدعوهم
عند الإمكان بالابتعاد عن الشركات الصناعية الحربية اللائنسانية حتى يستفيد من
علمهم كل البشر و ينتشر العدل بسلاح العلم رغم أنف الرأسماليين الجشعين و الحكام
الدكتاتوريين و العلماء الانتهازيين. تشفي المضادات الحيوية من الحمّى كل مريض دون
تمييز عرقي أو ديني
الخلاصة
نحن
ندرّس في مدارسنا و معاهدنا و جامعاتنا علوما جافة دون قيم. يتخرّج من جامعات سنويا
آلاف المهندسين و المعلمين و الأساتذة و الأطباء و المحامين و غيرهم، حاملين علما لكن
فاقدين للقيم السامية المشتركة بين البشر أجمعين. فكيف سننهض بآلات بشرية فاقدة
للإنسانية؟ علينا في تعليمنا بالجمع بين العلوم و القيم و لا نترك هذه المهمة
للعلماء المختصين المحتكرين للمعرفة أو للدجالين السياسيين الانتهازيين المرتزقة
أو للدعاة الجهلة بالدين و الدنيا أو لمحترفي
الأنترنات
لا
يختلف حول قيم العلم اثنان و لا تحمل قيم العلم أحكاما مسبقة و لا تلزم أحدا
بتطبيقها و لا تعاقب أحدا على تركها لكن يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه
الإمضاء
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم
بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا
بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي أو بالحيلة، لأن الحيلة تُعتبر عنفا مقنّعا و غير
مباشر
الكتابة بالنسبة لي، هي مَلْءُ
فراغ، لا أكثر و لا أقل، و هواية أمارسها و أستمتع بها، متعة ذهنية لا يمكن أن
تتخيلوها
تحية دائمة و متجددة لزملائي المربين: في ألمانيا المعلمون أعلى دخلاً في البلد، وعندما
طالب القضاة والأطباء والمهندسون بالمساواة ؛ ردت عليهم ميركل: كيف أساويكم بمن
علّموكم؟
قال ويليام بلوم: لو كان الحب أعمى فـالوطنية الشوفينية
الضيقة
الإقصائية و
المتعصبة فاقدة للحواس الخمس
تاريخ أول نشر على مدونتي و صفحاتي الفيسبوكية الثلاث
حمام الشط في 31 أوت 2010