أنا نِصْفُ
مثقفٍ، كائنٌ هشٌّ عجوزٌ مهزوزٌ، منتوجٌ تعيسٌ من منتوجات هذا العصر التعيس تعاسة
النمط الغربي الرأسمالي-الليبرالي الحديث والسائد، للأسف الشديد، في العالم أجمع.
نمطٌ جبّارْ منافقٌ قهّارْ، جبّار بـعلومٍ براءاتُ اختراعِها محتكرةٌ من قِبله
وَحْدِهِ واكتشافاتُها منحازةٌ إلى مصالحه المادية الضيقة جدًّا، غربٌ منافقٌ
متاجرٌ بحقوق الإنسان الغربي ضد الإنسان غير الغربي، قهّار يحرق بالنووي والنار.
نِصْفُ مثقفٍ
وأموتُ لو قُطِعت عني شهرًا واحدًا جِراية التقاعد الهزيلة، أو ألغِيَ اشتركي
فجأةً في "تُوبْناتْ"، أو أغلِقت في وجهي مقهى الشيحي ذات صباحٍ الله لا
يُقدّر، أو مُنِع يومًا تهريبُ عُلبِ سجائرْ الرخيصة، أوكْسِجِينِي المفضّل !
ليس لي رغبةٌ
في العودة إلى حياة البداوة (حياةٌ أبسطُ وأنظفُ وأخشنُ)، حياةٌ تعتمد على المشقة
والجهد البدني الضروري لفلاحة الأرض أو تربية الأغنام، لكن.. لكن وبمعنى أعمق
أحِنُّ إلى زمن الطفولة في جمنة الخمسينيات، أحِنُّ إلى كل هذا (حياةٌ أبسطُ
وأنظفُ وأخشنُ)، ومعه أيضًا "شوية" تَقَدّم حضاري، تَقَدٌّمٌ لا يتجاوزُ
بشريةَ البشرْ، لكنه ليس كالذي في أمريكا أو قَطَرْ (Une croissance à la mesure de
l’homme, la vertu est le juste milieu, a bien dit un jour Aristote). وفي الوقت نفسِه، تَقَدٌّمٌ لا يَخلقُ كائنًا مشوّهًا مثلي أنا
محمد كشكار:
كائنٌ نِصْفُ
مثاليٍّ - نِصْفُ واقعيٍّ، نِصْفُ مثقفٍ - نِصْفُ جاهلٍ، نِصْفُ عاقِلٍ- نِصْفُ
مجنونٍ، نِصْفُ حداثىٍّ- نِصْفُ محافظٍ، نِصْفُ حضريٍّ- نِصْفُ بدويٍّ، نِصْفُ
حمّام شطّي- نِصْفُ جمني، نِصْفُ ماركسيٍّ- نِصْفُ برودونيٍّ، نِصْفُ مادّيٍّ-
نِصْفُ روحانيٍّ، نِصْفُ مسالمٍ- نِصْفُ عنيفٍ، نِصْفُ ساذجٍ- نِصْفُ
"مْزَوَّرْ"، نِصْفُ عربي القلم واللسان- نِصْفُ فرنكفوني القلم واللسان
وأخجل من جهلي المُطْبَقِ باللغة الأكثر استعمالاً في العالم، نِصْفُ أمميٍّ-
نِصْفُ قوميٍّ، نِصْفُ نُخبويٍّ- نِصْفُ ديمقراطيٍّ، مسلمٌ نِصْفُ مُلتزِمٍ-
نِصْفُ عاصٍ، نِصْفُ متأصّلٍ في هُويته- نِصْفُ منبتٍّ في حضارتِه
الأمازيغيةِ-الإسلاميةِ-العربيةِ، نِصْفُ عالِم- نِصْفُ حالِم، نِصْفُ مفكّر-
نِصْفُ "خَلْواضْ"، نِصْفُ لَباسْ - نِصْفُ "مُوشْ لباسْ"،
نِصْفُ سيّدٍ - نِصْفُ عبدٍ، نِصْفُ فقيرٍ- نِصْفُ متوسطِ الحالِ، نِصْفُ-نِصْفُ
أو شِبْهْ-شِبْهْ في كل شيء، حتى في يساريتي وأحلامي نِصْفُ-نِصْفُ...
النمط الغربي
الرأسمالي-الليبرالي الحديث والسائد، للأسف الشديد، في العالم أجمع ، نمطٌ قهرني،
هزمني وبحبال شهواته المصطنعة كتّفني (des désirs non naturels et non nécessaires). إغراءاتُه المادية الحسية غزت جسمي وفكري: اخترقتْ مسامَّ
جِلدي، عَششتْ في تلافيفَ قشرتي المخية، ونسجتْ في داخلها شبكاتٍ من الوصْلات
العصبية (des réseaux
neuronaux ou un million de milliards de synapses: l’homme neuronal).
يَصحّ فيك، أيها "النمطُ"، ما قاله المتنبي في الحُمّى:
"وزائِرَتي
كأنَّ بِها حَياءاً *** فليسَ تَزورُ إلاّ في الظّلامِ
بَذَلتُ لهَا
المطارِفَ والحَشَايا *** فَعافَتها وباتَت في عِظامِي".
أيها
"النمطُ"، الله لا تربحك دنيا وآخرة، لقد جعلتَ مني كيانًا نافرًا من
(حياةٌ أبسطُ وأنظفُ وأخشنُ) ولها كارهًا ومنها ومن الحنينِ إليها مُطأطئ الرأسِ
ذليلاً "حاشِمًا"، رغم أن الأنتروبولوجيا (علم الإنسان) قد قالت حول
الانتماء قولتَها الفصلْ "لا حضارةَ أفضلَ من حضارةٍ، ولا ثقافةَ شعبٍ تفوقُ ثقافةَ
شعبٍ آخرَ" (أعلَيتِ من مَقامِنا، كعرب ومسلمين، أيتها الأنتروبولوجيا، الله
يُعلِيك، ورفعتِ
رؤوسَنا عاليًا أمام الغربيين العنصريين والذين عنّا كالدخان متعالين، الله يُعلي
من مقامِكِ ويُهنِئ مَنامِكِ ويُزيّن أيامِكِ، آمين يا رب العالَمين).
أيها النمط،
دلّلتني، وعلى حبك ربّيتني وعلى ألاعيبك البهلوانية درّبتني وعلى حِبالِك البائدةِ
رقّصْتني ومن حليبك المغشوش أرضعتني، ثم، وعلى حين غِرّة وفي غفلة مِنِّي، غدرتني،
جعلتَ مني كاراكوزَا وأضحكْتَ عليَّ "أمة لا إله إلا الله"، ومن حواسّي
الستة "سَلْسَلْتَني وَسَرْسَبْتَني"، وبإرادتي شبه الحرة في براديـﭬم
تَحرُّرِكَ سجنتني، قفلتَ البابَ ومعك أخذتَ المفاتيحَ وتركتني حرًّا دون عَسَسٍ
كعصفورٍ في قَفَصٍ مفتوحٍ.
خاتمة: الحمد
لله أن الاستلابَ الثقافيَّ (L’aliénation culturelle) لا يُورَّثُ،
ومع كل ولادةٍ جديدةٍ يولَدُ أملٌ جديدٌ.
ملاحظة: هذا
النص، أعتبرُه، أنا، من أفضلِ ما أوْحَتْ به إليَّ قراءاتي في الفكر العالمي،
العربي والفركفوني والأنـﭬلوفوني المترجَم للغة الفرنسية أو العربية.
مقالات من وحي جريدتي المفضّلة "لوموند ديبلوماتيك" (النسخة
الفرنسية 2019-2023)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire