أوّل ما استلمتُ العمل
وقرأتُ عنوانه (المدرّسون لا يفهمون لماذا تلامذتهم لا يفهمون) استيقظ فيّ سؤال
ألقيته ذات يوم على السّامعين في خطبة الجمعة (لماذا يخطب الإمام خطبتَيْ الجمعة ؟
لماذا لا نجد أثرا لما يقول الإمام ؟ أين يكمن العيب ؟ في السّامعين ؟ أم في
الإمام وخطابه ولغته ؟ لماذا هذا التّمايز الحادّ بين حياة واقعية نعيشها بأبعادها
المختلفة وحياة مثالية إيتوبية (utopique) تعرضها المرويات وكُتب السِّيَر والأحاديث
وغيرها...؟
وأخذتني الذّاكرة لكتاب (Comment
éduquer ses parents)[1] حيث أثارني العنوان
وجعلني أتساءل: من يعلّم مَن ؟ وبعبارة أخرى: هل يكون الأستاذ في قسمه معلّما
دائما ؟ ولماذا يظلّ المتعلّم متقبّلا على الدّوام ؟ وكيف للمتعلّم أن يتبوّأ
مقاما متقدّما في العمليّة التّعليميّة ؟
لقد ذكّرني عنوان العمل
بذلك الجدل الذي دار بين مُنكِرو دعوة الرّسول محمّد عليه السلام وبين الله حيث لم
يعترفوا بالرّسالة واستكثروا على اليتيم الفقير رسالة تأتيه من السماء (وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)[2]
ولعلّ مردّ هذا الإنكار عدم فهم المُنكِرين وعدم استيعابهم مكوّنات الرّسالة
وشعورهم أنّها لا تخاطبهم ولا تعنيهم. فأجابهم الله بما يؤكّد أن الرّسالات
السّماوية كلّها نزلت من أجل الإنسان وصلاحه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[3].
إنّ الله لم يَجْرِ في
بعثة الرّسل مجرى الإعجاز وخرق العادة، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضّلال
شيئاً. ومربط الفرس في الآية هنا اللّسان، فهو يعني أداة التّواصل ووسيلة
التّبليغ، وهو أمر طبيعيّ، بل ضروريّ أن يتكلّم أيّ رسول لغة الذين أرسِل إليهم.
ولكنّ الأعمق من ذلك حسب رأيي الخاصّ أن يأتي الرّسول بالحلول لمشكلات قومه،
فالدعوة لا معنى لها إذا لم تنقذ المدعوّين من مشاكلهم وتيسّر صعوباتهم وعوائق
حياتهم. فيكون اللّسان الوارد في الآية هو قدرة الرّسول على فهم قومه ووعي واقعهم
وإدراك حاجاتهم، ومعايشة التّحديّات التي تواجههم جميعا. ولأجل هذه المهمة
الاجتماعيّة وجب على الرسول بذل جهده في هداية قومه وإنقاذهم.
لماذا تبنّى محمّد كشكار
في عنوان كتابه خطابا تقريريّا (المدرّسون لا يفهمون لماذا تلامذتهم لا يفهمون)
ولم يجعل المسألة فرضيّة يبحث في إثباتها أو دحضها ؟ من أين لِـمحمّد كشكار هذا
الإدراك وهذا الاطّلاع وهذا اليقين بِـكون الأساتذة (المدرّسون والمعلّمون) لا يفقهون
ولا يعلمون، بل حتى لا يشعرون أو لا يحسّون بأن تلاميذهم (المتعلّمون) لا يستوعبون
الدّروس، ولا يفهمون ما يُنجز من تعلّمات ؟
لعلّ ما يشفع لمحمّد
كشكار في هذا الموقف التّقريري الجازم والرّأي الواثق، خبرة الكاتب[4]،
وإحاطته الدّقيقة بالمسألة التربويّة، فهو دكتور الدّيداكتيك، وهو العارف بالقسم
وفضاءات التعلّم والتّكوين، وهو المدرك لطبيعة العلاقة بين المعلّم والمتعلّم كما
يصوّرها المثلثّ الديداكتيكي.
وأحسب أنّ الجملة
التقريريّة في عنوان الكتاب هي رسالة يريد محمّد كشكار تبليغها للقرّاء وللمشتغلين
بالتّربية والبيداغوجيا والدّيداكتك من أجل اتّهام النّفس الباحثة ومساءلتها. فهل
ترى الكتاب محاكمة للخيارات التّربوية منذ بداية الاستقلال ؟ أم بحثا عن نموذج
تربويّ يحتضن المتعلّم ويقيه غول الإخفاق، ويحمي المؤسّسة التّربوية من الهدر
والتّسرّب.
يطرح الدّكتور محمّد كشكار
أسئلة جوهرية حول العمليّة التعليميّة ومكوّناتها ومدى نجاعتها. مستندا إلى
الفلسفة تارة وإلى الدّيداكتيك تارة أخرى ويراوح بين النّظري والتّطبيقي، ويزاوج
بين الفكرة والمنهج في البحث عن الحلول.
فبعد كتابه الموسوم بـ"الإشكاليات
العامّة في النّظام التّربوي التّونسي" الذي تناول فيه قضايا المنظومة
التّربوية التّونسيّة وعناصرها، فأخضع الأستاذ والمتفقّد وطُرُقَ التّدريس وأساليب
التّقييم والتّشريعات إلى المساءلة. وكشف بعين الخبير المجرّب، الذي حنّكته الأيام
والخبرة في التّدريس والتّأطير، وبيّن عناصر التّهافت في ذلك جميعا. فكان الكتاب
شهادة على واقع التّعليم في تونس. ومن أجل التّجاوز اقترح مخارج متنوّعة وموزّعة
بين الدّيداكتيكي والبيداغوجي والاجتماعي والثّقافي والسّياسي... وَدَعَا إلى
الاستلهام من التّجارب النّاجحة في العالم لتكون نموذجا يُقتدى به في إصلاح
المنظومة التّربوية التّونسيّة.
يطلّ علينا محمّد كشكار
بكتابه الجديد (المدرّسون لا يفهمون لماذا تلامذتهم لا يفهمون) متبنّيا ما يعتقده
باشلار حول المعلّمين الذين لا يأخذون في الاعتبار الحالة الذّهنيّة للمتعلّمين
إلا قليلاً، والتي تجعلهم عرضة للخطأ أو الجهل أو عدم التّفكير والتي تمثّل المصدر
الرّئيس للفشل المدرسي. ومستلهما من باشلار دهشته حيث يقول: "وغالبا ما
اندهشتُ من واقع أنّ أساتذة العلوم، أكثر من المؤلفين والعلماء إذا أمكن، لا
يفهمون أنّنا لم نفهم. قلّة هم أولئك الذين خاضوا في علم نفس الخطأ، الجهل واللّا
تفكير..."[5]
فيكون هذا الكتاب بحثا في
العائق الإبستمولوجي[6]
وأسباب عدم تحقيق المتعلّم لنتائج جيّدة في الدّراسة، وبالتّالي الفشل المدرسي،
والانقطاع عن التّعليم.
كأنّي بمحمّد كشكار يُرجِع
عدم قدرة المتعلّمين على فهم مضامين الدّروس التّعلّمات وأسئلة الامتحان وفشلهم في
الإجابة عنها، إلى المعلّمين والمدرّسين الذين لم يتفطّنوا لعديد العوائق التي تَحُولُ
دون تمثّل التّلميذ للتعلّمات وفهمها... بل أكثر من ذلك فهو يعتبر غياب المتعة
والمعنى عن التعلّم[7]
في ذهن التّلميذ وحياته المدرسيّة السبب الرّئيس في التسرّب المدرسي والإخفاق الدّراسي،
وفشل المنظومة التّربويّة....
فعندما يخاطب المعلّمون
والمدرّسون جميع التلاميذ بلغة واحدة وبأسلوب واحد، ولا يتفطّنون إلى اختلاف
مستويات الفهم والمعرفة بين التلاميذ، ولا يدركون الفروق الفرديّة بينهم، ولا يعي
المعلّم حاجة كل تلميذ النفسيّة والمعرفيّة إلى نوع متفرّد من التفسيرات والشّروح،
وإلى مساعدة مخصوصة، وفقًا لاحتياجاته، ومستوياته النّفسيّة والمعرفيّة.
عندما يكون موضوع التعلّم
غير مقدور على تصوّره تنشأ الصّعوبة ويكبر عائق التعلّم في ذهن التّلميذ، وتصبح
المفاهيم المدروسة رموزا وأشكالا، ويصير الدّرس غير واقعيّ. ولعلّ الأمر يزداد
تعقيدا في دروس الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأرض، حيث تنعدم التّجربة،
ويغيب التّطبيق المخبريّ.
ولتحسين فهم التّلاميذ
للتعلّمات، ينبغي على المدرّسين تشجيع التلاميذ على المناقشة والإسهام في بناء
الدّرس، وتقديم المواد بِـطُرُقٍ تجذب انتباههم وتحفّزهم...
الأسئلة التي طرحها محمّد
كشكار في التّصدير واستهلّ بها الكتاب أسئلة عميقة وحارقة تبحث في كلّ مكوّنات
المنظومة التّربويّة (من يعلّم مَن ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟) (ماذا نعلّم معارف أم
مهارات أم قيما ؟) (أيّ المدارس نعتمد البنائيّة أم الاجتماعيّة أم البنائيّة
الاجتماعيّة ؟)
في رحلة للبحث عن الأعطاب
التي أصابت المنظومة التّربويّة التّونسيّة يستقرأ محمّد كشكار الإخلالات التي
أصابت التّعليم والتّعلّم في العالم فيتّهم اللّيبرالية المجحفة التي سَلْعَنَت
التّعليم وحوّلت الأستاذ المعلّم إلى بروليتاري يلهث وراء تأمين مرافق الحياة
واحتياجاته، (وليس أدل على ذلك من انتشار الدّروس الخصوصيّة في الواقع التّونسي.)
وكان محمّد كشكار قد صرّح بذلك بوضوح في مقارنة أقامها بين أستاذ تعليم عال يُلْقِي
محاضرة ويتقاضى عليها منحة تساوي مائة دولارا
وأستاذ مكوِّن للتعليم الثّانوي ينفق من عمره خمسة عشر يوما في الإعداد وأربع
ساعات في التّكوين ليحصل على منحة تساوي دولارا واحدا.
واعتبر محمّد كشكار مع
ميشيل سار (فصل الإنسانيّ عن العلمي) جريمة كبرى في حق التّربية والتّعليم في
العالم. إذ جعلت التّعليم أعرجا يمشي على رِجل واحدة، فلا تلاميذ الآداب يعتنون
بالمواد العلمية[8]،
وكذلك تلاميذ شعب العلوم والتّقنية لا يهتمّون بالمواد الأدبية والاجتماعيّة.
فتألّم محمّد كشكار لذلك، وسخر من هذا الفصل المقيت فاعتبر "بفضل التّعليم
الانفصالي، أصبحت نخبة العالَم مقسّمةً بين "مثقّفين جهلة بالعلم"
(خرّيجو كلّيات العلوم الإنسانيّة والفلسفة والقانون، هُمُ حُكّام العالَم)
و"علماء غير مثقّفين" (خرّيجو كليات العلوم الصلبة، "الصحيحة"
والتجريبيّة، هُمُ مغيّرو العالَم !... شُعَبُ العلوم الصّحيحة وشُعَبُ العلوم
الإنسانيّة، مفصولتان منذ الثّانوي: تعليمُ أنتج لنا "علماء غير مثقفين"
غيّروا العالم و"مثقفين جهلة بالعلوم..."[9]
وعبر هذه القطيعة غير
العلميّة بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الصّحيحة أو الصّلبة تهاوى الإنسانيّ في
التّربوي وأصبح التّعليم والتّعلّم دون غاية وفقد المعلّم رسالته، وسادت الفوضى
العقليّة في الأذهان على حد تعبير أوغست كونت، "وإعادة النّظام إلى المجتمع
يقتضي إزالة الفوضى الأخلاقيّة، وهو الأمر الذي يتطلّب النّظر في الفوضى العقليّة
بإقامة المعرفة العلميّة بالحياة العمليّة للمجتمع، من حيث إنّ هذه المعرفة هي
السّبيل الأكثر صلاحيّة للتّأثير في مجرى الحياة المجتمعيّة بصورة موضوعيّة. فكما
إنّ ما يسمح لنا بالتّأثير في ظواهر الطّبيعة هو المعرفة العلميّة التي يقدّمها لنا
علم الفيزياء، فإنّ ما يسمح لنا بتأثير مماثل في الظّواهر الإنسانيّة هو قيام
الفيزياء للظّواهر المجتمعيّة"[10]
يفكّك محمّد كشكار ويحلّل
وجوه الخلل الذي تمكّن بالمنظومة التّربوية فردّه إلى تركيز التّعليم التّونسي على
تعليم الكفاءات (أستاذ، طبيب، مهندس...) وإهمال تعليم القِيم الضامنة للكفاءات
(التّضامن، التّطوع، نقد المعرفة نفسها، الحوار...) فالتّعليم التّونسي في نظر
محمّد كشكار لا يهتم إلّا بتكوين كفاءات عمليّة فاقدة لرسالتها الإنسانيّة مثل جلّ
المدرسين والأطباء والمحامين. ووسمه بالتّعليم الذي كانت تخصّصه أثينا للعبيد. ممّا
جعل المدرسة التّونسيّة مدرستان، الأولى عموميّة تفتقر لأبسط الوسائل والضّرورات،
واستحالت إلى ملجأ بعدما كانت مصعدا اجتماعيّا. والثّانية مدرسة خاصّة ربحيّة
همّها الدّخل، حوّلت المتعلّمين إلى روبوتات (robots) للحفظ والاستظهار
واستنساخ مسارات أوليائهم ووراثتها.
يلتقي محمّد كشكار مع
باولو فرايري (Paulo Freire) في ندائه إلى تجويد التّعليم وجعله يستجيب لحاجيات
المجتمع ويبتعد عن التعليم البنكي. فاعتبر "مهمّة التّدريس مسؤوليّة جسيمة
وخطرة تستدعي الجديّة الفكريّة الدائمة، وتحفيز دوافع التّطلّع المعرفي، والقدرة
على الحب وعلى الإبداع وعلى الكفاءة العلميّة، والابتعاد عن الاختزال العلمي،
ويتطلّب التدريس كذلك القدرة على الكفاح من أجل الحريّة، والتي دونها تخلو مهمّة
التدريس من كلّ معنى."[11]
فكأنّي بمحمّد كشكار
ينادي المدرّسين بصوت عال: لا تجعلوا المعلومات تلهيكم عن حقيقة دوركم في الأقسام.
فليس الدّرس مناسبة لشحن العقول بالمعلومات والمسلّمات وإنّما هو فرصتكم لصناعة
الشّخصيّات والعقول على ضفاف المعارف والمعلومات. فعقل محكم الصّياغة والبناء خير
ألف مرّة من عقل مترع بالمعلومات يتخبّط في شراكها ولا يكاد يتعدّاها. وقيم فاعلة
في السّلوك عن وعي، محبّبة إلى نفس المتعلّم، مؤثّرة في خياراته ومواقفه، خير من
ألف قصيدة تتغنّى بالأخلاق يلقيها الفتى لا تتجاوز لسانه. وكما قال إيمانويل كانط:
(لا يجب أن ندرّس أفكارا، بل نعلّم كيفية التفكير، ويجب عدم حمل المتعلّم، ولكن
يجب أن نوجّهه إذا أردنا أن يكون قادرًا في المستقبل على المشي بمفرده)[12]
وإلى جنب ذلك يدعو
المتفقّدين إلى ممارسة المرافقة والإرشاد في مهنتهم أكثر من ممارسة الرّقابة
والتّفقّد. فكلّما اتسعت مساحة التّواصل والتّعاون بين الأستاذ والمتفقّد كلّما
كانت التّوجيهات والتّوصيات مؤثّرة. وكلّما كان الأستاذ والمعلّم محور عمليّة
التّكوين كلّما كانت النّتائج أفضل.
يغوص محمّد كشكار في
المنظومة التربويّة التّونسيّة كمستكشف البحار بحثا وتفتيشا عن لؤلؤة فلا يظفر
بها. ومتسلّحا بالبركار والمنقلة كمهندس معماريّ يخطّط مثالا لبناية المدرسة أو
المعهد المنشود، فتتكسّر الأدوات ويتمزّق ورق الرسم بين يديه لكثرة العوائق. ويدخل
غرفة عمليّات الإصلاح التّربوي مستعينا بالمقصّات والإبر وممسكا بالمشرط كطبيب
جرّاح فيقضي المريض ويموت لتمكّن المرض اللّعين من جسده وانهيار قواه...
وكطبيب ماهر يحرّر الوصفة
اللّازمة لعلاج المنظومة التربوية، يدعو إلى مراجعة نظام التّقييم. فالعودة إلى
المناظرات الوطنية وإجباريتها، وردّ الاعتبار للتّكوين المهني من أوكد الوسائل
التي يراها محمّد كشكار للخروج من نفق أزمة المنظومة التّربوية. فاستبدال منهاج
دراسي بآخر أو طريقة بيداغوجيّة بأخرى دون تبديل نظام التّقييم لا يؤدّي في أغلب
الأحيان إلى شيء ذي بال. ولكن تغيير نظام التقييم يؤثّر تأثيرا بالغا في طبيعة
التعلّم ونوعيته حتى في صورة الإبقاء على المنهاج الدراسي القديم.
ويدعو إلى تربية المتعلّم
على القيم فهي في نظره المدخل الأساس لتجاوز قلّة انضباط التّلاميذ. فالقيم تزوّد
المتعلّم بمعايير للحكم على
مواقف الحياة وأنماط السلوك. وتسييج القيم
المتعلّم (بسياج قيمي) يحمي من الشرور (الفكر المنحرف، الرّؤية المنغلقة، أحادية
المقاربة...) فالقيم فضائل عليا تؤطّر سلوك الفرد بالخير والفضيلة والحق والجمال
وتعطي الفرد القوّة والفاعليّة وتزوّده بعوامل النجاح والتميّز. وتشبع الحاجات
النفسية للمتعلّم فيكتسب السعادة.
أخيرا لماذا يصرّ محمّد
كشكار على دراسة الإبستمولوجيا وتدريسها ؟ لماذا يجعلها شرطا معرفيّا ومهارة
تدريسيّة للمعلّم والأستاذ ؟ لماذا يراها السّبيل الرّئيس لإصلاح التّعليم ؟
إنّ الإبستمولوجيا هي
الدّراسة النّقدية لمبادئ العلوم ومناهجها ونتائجها قال ﭬاستون باشلار: "إن
معرفة الواقع هي نور يعكس دائما ظلاله في مكان ما، فهي ليست أبدًا معرفة مباشرة
ومليئة، وتجلّيات الواقع ليست دائما متواترة. فالواقع ليس دائما ما يمكننا أن
نعتقده، لكنّه على الدّوام ما كان يُفترض أن نفكّر فيه. ويكون الفكر التّجريبي
واضحاً في النّهاية، عندما يكون جهاز العقول عاملاً. وبالعودة إلى ماضٍ من
الأخطاء، نجد الحقيقة في توبة عقليّة حقيقيّة. ففي الواقع، إنّنا نعرف مقابل معرفة
سابقة، بتقويض معارف سيّئة الصّنع، وبِـتخطّي ما يعوق عملية الرّوحنة في العقل
بالذات."[13]
فالإبستيمولوجيا لا تشكّل
مبحثا واحدا أو موحّدا، لأنّها تأخذ من الفلسفة الشكّ والتّفكير النّقدي وتقليب
الأمور على وجوهها المختلفة، وتأخذ من العلم الصّرامة في بناء المفاهيم، وطُرُقِ
الاستدلال. ولأنّ العلم لا يقدّم -ما عدا في البرامج المدرسية التي هي بالضرورة
بيداغوجية ودغمائية (dogmatique)- اليقين والموضوعية
المطلقَين دائما، فلا وجود لنظرية علمية نهائيّة وثابتة. "بالنّسبة إلى العقل
العلمي تُعتبر كلّ معرفة جوابا عن مسألة. فإذا لم يكن ثمّة مسالة لا يمكن أن يكون
هناك معرفة علميّة. لا شيء ينطلق بداهة. لا شيء معطى. كل شيء مبنيّ."[14]
في العملية التعليمية
التعلّميّة، تساعد الابستمولوجيا على تحليل المفاهيم وتقييمها والتّفكير فيها، وهو
ما يتيح للمعلّمين والمدرّسين فَهْمَ أفضل طريقة للتعليم والتعلّم وتقييم النّتائج
التي يحصلون عليها.
تلعب الإبستيمولوجيا دورا
مهمّا في مجال التّدريس، إذ تساعد على فهم كيفيّات اكتساب المتعلّمين للمعرفة
وتفسيرها وقدرتهم على إعادة بناء التّصوّرات وتصحيحها. كما تساعد المعلّمين على
تطوير طُرُقِ التّدريس وممارسة النّقل الدّيداكتيكي (transposition didactique) بأكثر فعاليّة وتحفيز المتعلّمين على التّعلم.
واستخدام الإبستيمولوجيا
في التّدريس تساعد المتعلّمين على تطوير قدرات التّفكير النّقدي لديهم. فعندما
يتدرّب التّلاميذ على طُرُقِ تحليل المعرفة وفهم مصادرها وتحديد نسبيّتها، فإنّهم
يتعلّمون الحجاج وأساليبه المختلفة ويكتسبون ملكة اتّخاذ القرار وبناء المواقف
المنطقية. وبشكل عام، تساعد
الإبستيمولوجيا على تحسين جودة التّعليم ومردوديّته وزيادة فعّاليته.
[1] Pete Johnson,
comment éduquer ses parents, Éditeur Folio Junior, publié 23 août 2007.
) Je m'appelle Louis. Je ne suis
pas ce qu'on appelle un enfant difficile, mais je ne suis pas non plus du genre
à me tuer au travail, à rester des heures devant un exercice de maths. Enfin,
vous voyez ce que je veux dire… Moi, j'aime bien rigoler. Tout allait bien dans
ma vie, jusqu'au jour où mes parents ont décidé de faire de moi un enfant
modèle. Alors là, j'ai carrément dû prendre les choses en mains !»
Louis vient de
déménager avec sa famille et il a beaucoup de mal à se faire à sa nouvelle vie
et à son nouveau collège. D'autant plus que ses parents sont influencés par
leurs nouveaux voisins qui ne laissent pas un instant de libre à leurs enfants,
estimant qu'ils doivent être excellents dans tous les domaines… Louis,
jusque-là, menait une existence tranquille, rêvait de devenir un jour un acteur
comique et n'accordait pas trop d'importance aux études !
Écrit sous la
forme d'un journal, ce roman humoristique, plein de rythme et de fantaisie, est
également une réflexion sur les méthodes d'éducation « intensives » de certains
parents. (
[2] سورة النحل، الآية103
[3] سورة إبراهيم، الآية4
[4] انظر محمّد كشكار، سيرة ذاتيّة وغير ذاتية،
موضوعية وغير موضوعية كتاب "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي،
سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956 - 2016)" تونس، 2017م
[5] باشلار، غاستون، تكوين
العقل العلمي، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت،
لبنان، ط.2، 1982م، ص.16
« J'ai souvent été frappé du fait que
les professeurs de sciences, plus encore que les autres si c'est possible, ne comprennent
pas qu'on ne comprenne pas. Peu nombreux sont ceux qui ont creusé la
psychologie de l'erreur, de l'ignorance et de l'irréflexion. » Gaston
Bachelard, La formation de l'esprit scientifique, 1938
[6] هدف-عائق: مصطلح الهدف-العائق وضعه الباحث الفرنسي (مار
تيناند Martinand
1986 )، وهو مفهوم يرتبط بحقل ديداكتيك العلوم الفيزيائية
والطبيعية، ولقد وظّفه العديد من العلماء، وهو مصطلح مركب يتألف من: لفظ هدف objectif المأخوذ من بيداغوجيا الأهداف ولفظ عائق obstacle المستمد من إيبستيمولوجيا باشلار.
إن التوليف بين هذين اللفظين في إطار هدف عائق يفقدهما المعنى الأصلي مما
يضفي على المصطلح دلالة جديدة، فهناك من جهة تراكم التأثير الدينامي للعائق بمعناه
الابيستيمولوجي، ومن جهة ثانية يفقد لفظ "هدف" مقدار من الشفافية التي
يتصف بها وهو مستعمل داخل بيداغوجيا الأهداف. كما أن جدة هذا المصطلح
"هدف-عائق" تظهر على مستوى آخر: فعوض تحديد الأهداف انطلاقا من تحليل
قبلي للمادة الدراسية فقط، وتحديد العوائق الابستيمولوجية والسيكولوجية انطلاقا من
نشاط الذات، يتم انتقاء الأهداف بناء على طبيعة العوائق كمرجع أساسي؛ البيداغوجي والهدف
العائق، وقد يشير اللفظ إلى الإستراتيجية التي يتبعها الممارس البيداغوجي؛ تلك
البيداغوجيا القائمة على أساس إمكانية رفع العوائق التي يكشف عنها لدى التلاميذ،
وتفترض هذه الإستراتيجية أن يتم فرز العوائق، على أن البعض منها قابل للتجاوز،
بينما لا يمكن تجاوز البعض الآخر. وينبغي من جهة أخرى التمييز بين مفهومي: الهدف
العائق ومفهوم الحصر Blocage وذلك اعتبارا للدلالة السلبية التي ينطوي عليها مفهوم الحصر Blocage. وهكذا فإذا كان مفهوم الهدف العائق يتمتع بقابلية
التجاوز فإن مفهوم الحصر يتسم بالعقم، بل ويعكس إحساس الذات بالعجز وذلك لكون
كيفية تجاوزه غير معروفة.
[7] "ألاحظ أن مدارسنا كئيبة يعلو البؤس
محيّاها، بوّاباتها صدئة وجدرانها غير مطلية ومشققة احيانًا وحديقتها مفقودة أو
مهملة وطاولاتها وكراسيها مضرّة بالظهر وحدتها الصحية غير صحية وفضاءاتها خالية من
النوادي الثقافية أو عامرة بالمزيفة منها (على الورق فقط). لا أكل ولا شرب صحيين
فيها ولا بشاشة ولا استقبال طيب ولا حتى ابتسامة أو كلمة طيبة." محمد كشكار، المدرّسون لا يفهمون لماذا تلامذتهم لا يفهمون، ص.......
[8] ذكرني مقطع محمّد كشكار
بأبيات شعرية قلتها أيام الدراسة الثانوية سنة 1981م:
نحن
قوم (littéraire) ما فهمنا ال(math) قطّ
ما
فهمنا (équation) وما عرفنا ما
يخطّ
فاستمع
لي يا صديقي وافهمني يا مغطّ
هل
سمعت (x) يوما فوق (y) تنطّ
[9] محمد كشكار، حدّث
ميشيل سار قال: نسخة رقمية، ص.16و وص.47
[10] محمّد وفيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا،
الطبعة 1، جانفي 1983م، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ص.17-18
[11] باولو فرايري، المعلمون بناة ثقافة: رسائل إلى
الذين يتجاسرون على اتخاذ التدريس مهنة، الدار المصرية اللبنانية، ص: 41
[12] يقول باشلار:
)On
ne doit pas enseigner des pensées, mais apprendre à penser ; on ne doit
pas porter l’élève, mais le conduire si l’on veut qu’à l’avenir il soit en état
de marcher de lui-même..(
Kant : Fondements de la
métaphasique des mœurs p.8
[13] باشلار، تكوين العقل العلمي، م. س.
ص.13
[14] باشلار،
تكوين
العقل العلمي، م. س. ص.14
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire