مبادرات بيداغوجية عالمية طريفة
و مفيدة. مواطن العالم د. محمد كشكار
تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 16
ديسمبر 2010.
1.
المبادرة الأولى في جينيف:
كان أستاذنا الكبير
"أندري جيوردان" يدرّس أطباء
المستشفى مادة تعلّمية البيولوجيا (La
didactique de la biologie)، وعند أول درس و في آخر النهار،
يسحب أستاذنا طلبته الأطباء إلى حاويات مهملات المستشفى الذي يشتغلون فيه،
يفتشونها بأيديهم باهتمام و جدية، يرتبون الأدوية غير المستعملة الملقاة فيها و
يقارنوها بالأدوية التي وصفوها لمرضاهم في نفس اليوم.
و يا لخيبة الأمل، يكتشف
الأطباء المجتهدون أن المرضى لم يقتنعوا بوصفتهم و رموا جلها أو كلها في سلة
المهملات حتى يتخلص منها و من هنا تُطرح إشكالية الدرس: لماذا لا يستعمل المريض
دواءه الذي وصفه له الطبيب؟ هل لعدم نجاعته؟ هل لتعقيد في استعماله؟ هل خوفا من
الأعراض الجانبية؟ هل لعدم ثقة في طبيبه؟
عند الدرس الثاني، يواجه
الأستاذ طلبته بما أنتجه مرضى السرطان من تصورات علمية و غير علمية تصف مرضهم لحظة
بلحظة، يتصفح الطلبة ما أنتجه هذا النوع من الأساتذة الجدد الذين لم يروا مثلهم في
الجامعة و يندهشون لغزارة المعارف و دقة الوصف الذي لا يقدر عليه غير المرضى مهما
علت شهائد الطبيب الأكاديمية. هل يمثل المريض وعاء فارغا يملؤه الطبيب بما يشاء؟
هل يمثل المريض صفحة بيضاء يخط عليها الطبيب وصفته؟ هل الطبيب يعلم أكثر من
المريض؟ هل الطبيب المختص في عضو فقط قادر على علاج هذا العضو في المريض دون
الاهتمام بالأعضاء الأخرى؟ هل يحق للطبيب فرض علاجه على المريض؟ هل يحق للمريض رفض
علاج طبيبه؟ هل يحق للمريض التدخل في كيفية علاجه و توقيته؟
أستغل هذه الفرصة و ألفت نظر
القارئ إلى اهتمام العالم المتقدم بهذا العلم الجديد - تعلّمية البيولوجيا أو
فلسفة تعليم البيولوجيا- و تعميم تدريسه في كل الاختصاصات و ليس في التعليم الجامعي فقط و انظر كيف نهمله نحن في تونس و لا
نوليه أية أهمية و لا ندرّسه حتى لأساتذة المستقبل لا بل نهمله و نتركه لغير أهل الاختصاص يشوهونه
عن غير قصد.
2.
المبادرة الثانية أيضا في جينيف:
حدثت مع نفس الأستاذ المبدع
"أندري جيوردان" الذي ورث مهمة و منصب العالم المشهور "جان
بياجي" في مخبر الإبستومولوجيا بجينيف. بينما كان الأستاذ يقوم بدرس علمي
داخل مخبر العلوم، إذ بمهرج "كلون" يقتحم القسم و يقوم بحركات بهلوانية
فيضحك التلامذة و يمرحون مع الممثل لمدة ربع ساعة. يغادر المتطفل خفيف الظل -
المبرمَج من قبل الأستاذ- القاعة و يرجع التلامذة إلى الجد و العمل بروح يقظة و
تركيز أكبر.
3.
المبادرة الثالثة في تونس:
حدثت بمعهد نموذجي تونسي.
زارت بعثة تعليمية بريطانية المعهد و في نطاق تنشيط التلامذة أثناء الراحة، طرحت
عليهم هذه البعثة "وضعبة تعلمية" في صيغة مشكل ينتظر حلا: طلبت البعثة
من تلاميذ المعهد قيس طول العمود الخشبي أو المطاطي الرافع للعلم الوطني. حاول
التلامذة حل المشكل بشتى الطرق المعقدة كما تعودوا في تعليمهم النظري، استعملوا
قواعد رياضية و قاسوا ظل العمود و تسلّقوا العمود ليقيسوه بمتر قماشي طويل و لكن لم
يصلوا إلى الحل رغم أن الحل بسيط جدا و هو قيس طول الحبل الذي ينزل عندما يصعد
العلم. في مدارسنا و معاهدنا و جامعاتنا التونسية، نملأ عقول تلامذة الثانوي
بمعلومات كثيفة و معقدة لحل مسائل نظرية لا وجود لها في واقعنا المتخلف و نتجاهل
تعليم أولادنا توظيف معلومات بسيطة لحل مسائل بسيطة كمشاكلنا اليومية مثل تغيير
فانوس محروق أو إبدال مربع زجاجي مهشم أو إصلاح عطل كهربائي أو تحضير وجبة غذائية
متوازنة في المنزل أو في المعهد.
4.
المبادرة الرابعة في فرنسا:
حدثت و ما زالت متواصلة حتى
الآن. أستاذ تاريخ و جغرافيا يرى أن الأعداد المسندة في الامتحانات إلى التلامذة
قد تحبطهم و تحط من عزائمهم لذلك ارتأى هذا الأستاذ القدير إسناد 20 على 20 لكل
تلامذته و في كل الامتحانات. أستاذ مبدع في عمله: كان عندما يدرّس المقاومة
الفرنسية للألمان، يكلف تلامذته بإجراء بحوث ميدانية و مكتبية و الاتصال
بالمقاومين الأحياء و تسجيل بحوثهم في أقراص ليزرية مضغوطة بالصوت و الصورة ثم
ينشر بحوث تلامذته بأسمائهم في مجلات علمية مختصة فيجعل منهم كتّاب المستقبل. أثناء
تدريس محور المقاومة، يستدعي مقاوم حي أو كاتب متخصص في المقاومة إلى القسم و يدير
حوارا بينه و بين التلامذة. تخيل أيها القارئ ما يحدثه هذا النوع من التدريس في
عقول التلامذة على صغر سنهم و ما سيتركه من آثار نفسية إيجابية في تكوين شخصيتهم و
تدريبهم على روح المبادرة و الثقة بالنفس و المغامرة و الإنتاج الكتابي و المصور. سعت
وزارة التربية الفرنسية بكل جهدها إلى إقالة هذا الأستاذ العبقري المناضل التعلّمي
و البيداغوجي أو على الأقل إحالته على عمل إداري. لم توفّق الوزارة منذ عام و نيف
في سعيها و إن شاء الله لن توفّق. لم تجد الوزارة مبررا قانونيا واحدا يمنع
الأستاذ من إسناد العدد الذي يراه هو مناسبا لعمل التلميذ. أُنشئت جبهة مساندة
لهذا الأستاذ متكونة من تلاميذ و أولياء و زملاء و لا زالت قضيته تهز الرأي العام
الفرنسي حتى الآن.
5.
المبادرة الخامسة في غار الدماء:
سنة 1980، كنت أدرس محور
"التناسل عند الإنسان" لتلامذة الثالثة ثانوي (التاسعة أساسي الآن) بإعدادية
غار الدماء. تغيبت على عملي أسبوعا في الكاف و ذلك للمشاركة في تربص تكويني في
الميكروبيولوجيا. فوجئت بوصول رسالة باسمي إلى الكاف و اكتشفت أن الباعث تلميذ من
تلامذتي النجباء بغار الدماء. يقول في رسالته هذه أن أستاذ الرسم الفني - المتعصب لرأيه
- استغل غيابي عن الإعدادية و شن حملة مضادة لشخصي منتقدا تدريسي للجهاز التناسلي
البشري و مكذبا المعلومات البيولوجية التي سجلناها في القسم. قال هذا الزميل غير
المختص في البيولوجيا أن الحيوانات المنوية للرجل تأتي من الصلب كما يقول القرآن
الكريم و ليس من الخصيتين كما يقول أستاذكم في العلوم. عدت من الكاف و اتصلت
مباشرة بمدير المعهد و أبلغته ما سمعته عن
التدخل السافر في اختصاصي من زميل غير مختص و لم أطلب من المدير التدخل بيني و بين
زميلي الفاضل بل اكتفيت بإعلامه أنني أسير وفق البرنامج الرسمي و أستقي معلوماتي
من مصادر علمية موثوق بها. أما ردي فهو الآتي: حملت مجهري و و أتيت بأرنب ذكر، نصبت طاولة وسط الساحة أثناء راحة العاشرة
صباحا، التف حولي تلاميذ المعهد و كلهم تلامذتي، خدرت الأرنب الضحية و بالمبضع قطعت
خصيته و وضعت مسحة منها بين صفيحة و صفيحة ثم طلبت من تلامذتي مشاهدة الحيوانات
المنوية الأرنبية و هي تتحرك برشاقة و ترقص بذيلها الطويل كأنها تساندني الرأي ضد
هذا التمسك الحرفي بالنص الديني. و قلت لهم: منذ الآن، لا تقولوا، قال أستاذ
العلوم بل قولوا شاهدنا بأم أعيننا الحيوانات المنوية في الخصية. أقول المتعصب، وصفا
لزميلي و هذا ليس ثلبا أو سبا أو شتما فيه و العياذ بالله، من سوء حظه أن القرآن و
العلم الحديث في هذا الموضوع بالذات لا يختلفان بل يتكاملان في عقول أولي الألباب
و أهل الذكر من علماء الأجنة الماديين التجريبيين. يبدو لي أن الخلايا الجذعية
الجنينية جمعاء تنشأ في منطقة تشبه صلب الجنين ثم تهاجر شيئا فشيئا و يختص بعضها في
التناسل و تستقر في الخصيتين و قد يكون لعلم الأجنة 2010 رأي أحدث من هذا. أود أن
يتصل بي كل من يختلف معي في هذه المعلومة حتى أستفيد من علمه.
6.
المبادرة السادسة في حمّام الشط:
في أوائل التسعينات، كنت
أنشّط نادي البيئة في إعدادية حمّام الشط. اقترحت على تلامذتي النشاط التالي:
تجولوا في حيّكم و صوروا بالكاميرا كل ما يظهر لكم مخالفا لسلامة البيئة و ابعثوا
الصور إلى رئيس بلدية حمّام الشط و ادعوه في نفس الوقت لحضور الحصة القادمة. فعل
التلامذة ما كلفتهم به على أحسن وجه و حضر رئيس البلدية و مساعده و أدرت بينهما و
بين التلامذة المحتجين حوارا شيقا و ديمقراطيا.
إمضاء م. ع. د. م. ك.
يطلب الداعية السياسي أو
الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي -
أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم
بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و
على كل مقال ناقص أو سيء نرد بمقال كامل أو جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي أو
الرمزي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire