mercredi 8 mai 2024

إشكالية مطروحة منذ بداية التاريخ: هل نجحت الأخلاق الفلسفية والدينية في تغيير حياة البشر إلى الأفضل، أي من السلوك اللاحضاري إلى السلوك الحضاري ؟

 

عادة غير محبّذة من أكثرية المدمنين على شرب القهوة: عادة النقاش الجدي صباحًا.

أمس الأربعاء 30 جانفي 2019، ذهبتُ إلى مقهى الشيحي بحمام الشط كالعادة و"العوايد" على الساعة السادسة صباحًا. شرعتُ في قراءة مقال حول الصين في جريدتي الفرنسية المفضلة "لوموند ديبلوماتيك". بدأتُ في تسجيل الخطوط الكبرى للمقال الذي سأكتبه وأنشره في الغد. مرّت عليّ 120 دقيقة وأنا وحدي أقرأ، هي أسعد أوقات يومي. حوالَي الساعة الثامنة، بدأ الجلساء الاعتياديون في التقاطر ولالتحاق بطاولتي.

ما المشكل إذن ؟ المشكل أن دماغي يغلي ومنشغلٌ بموضوع الصين. فما ذنبُ مَن جاء الأولُ (خميّس حسني) ليرتشف ببطءٍ أولَ قهوةٍ في اليوم ؟ أشغله هو أيضًا بمشكل الصين ؟ ذنبه أنه جلس في طاولة كشكار! وكلما قَدِمَ جليس آخرَ إلا وأعدتُ على مسامعه طرح نفس الموضوع (خمس مرات). وكل مَن سيفتح موقعي الفيسبوكي اليوم فجرًا على الساعة الرابعة صباحًا ويقرأني، أطلب منه المعذرة مسبقًا لأنني ربما أكون سبقتُ قهوته.

 

العاشرة، رجعتُ إلى الدار وحررتُ المقال في ست صفحاتٍ كاملةٍ. قررتُ أن لا أنشره حتى يمر بغربال الفلسفة الذي لا يتسرّب من ثقوبه الدقيقة إلا الجيد من الأفكار خاصة وأن موضوع الأخلاق موضوع فلسفي بامتيازٍ. جاء الموعد، السادسة مساءً، قابلتُ فيلسوف حمام الشط في مقهى الأمازونيا بحمام الشط أيضًا.

أتعرفون ماذا صنع بمقالي الذي تعبتُ في تحبيره ست ساعات، الصفحة بساعة ؟

مقالٌ خلتُه منطقيًّا وبموافقة جلسائي الصباحيين غير الدارسين للفلسفة أكاديميًّا، يعني معرفة درجة 2 (درجة 1 هي الحس العام) ولا أستثني نفسي طبعًا. الفلسفة تأتي في القمة، أي درجة 3، يعني فوق كل الاختصاصات العلمية، الصحيحة منها والتجريبية والإنسانية أيضًا.

ألم أقل لكم أن طاولة مقهى الشيحي الصباحية ناقصة فيلسوف ؟ أنا في الأمانة العلمية أو الأدبية لا أمزح وفي الفكر لا أجامل وأقرّ بجهلي للفلسفة، أقولها صدقًا فيذهب في ظن الآخرين أنه تواضع تجميلي.

بالفلسفة (معرفة درجة 3)، قَلَبَ الفيلسوف مقالي (معرفة درجة 2) رأسًا على عقب.

بعد التعديل والتحوير في مقهى الأمازونيا مساءً، أدفع إليكم بالنسخة الجديدة للحوار الذي دار في مقهى الشيحي صباحًا، دون تدقيق في صاحب الكلمة، أو قِيل الكلام فعلا أو لم يُقل، أو بهذا التسلسل أو غيره:

-        هل الأخلاق الفلسفية والدينية (والدين يدخل في مجال الفلسفة)، نجحت في تغيير حياة البشر إلى الأفضل، أي من السلوك اللاحضاري إلى السلوك الحضاري ؟

-        ماذا تقصد بـ"السلوك اللاحضاري" ؟

-        مثلاً في المقهى: ترمي أعقاب السجائر على أرضية المقهى المبلّطة، تضع منديل أنف (papier mouchoir) على الطاولة أو في المرمدة (cendrier)، تنشغل عن مخاطبك بالإبحار في جوّالك، تحتكر الكلمة أكثر من خمس دقائق، أو تتكلم بصوتٍ عالٍ دون موجَب، هذا السلوك اللاحضاري الأخير آتيه أحيانًا دون أن أشعر ثم أتدارك أمري وأعتذرُ ثم أنسى وأكررها. من باب التحضّر لم أذكر سلوكات لاحضارية أخرى.

-        وخارج المقهى ؟

-        لا تحترم إشارات المرور، لا توقف سيارتك احترامًا للمارة، تضع كيس مهملاتك أمام دار جارك، تغش في كيل السلعة وثمنها، لا تقوم بواجبك على أفضل وجه، إلخ.

-        لا.. الأخلاق الفلسفية والدينية لم تغيّر.

-        صحيح لم تغيّر (Un constat et non un jugement).

فاصل وأعود:

عرضتُ جوابَ جليسي وجوابي المتماثلَين على الفيلسوف، فكان هذا ردُّه: يبدو لي أن الجزمَ في مثل هذه المواضيع الفلسفية الجدلية شيءٌ يتطلب تمحيصًا وأمرٌ فيه نظرٌ. الدين غيّرَ فعليًّا (لكن جزئيًّا فقط) الأخلاقَ إلى الأفضلِ وكذلك فعلت الفلسفة. ألا ترى معِي أن الوازع الديني ما زال حاضرًا وبقوة في "اللاوعي" الشعبي (la masse)، أما في "الوعي" فهو يحضر ويغيب خاصة عند الحِرفيين ومتعاطي الكحول والعاصين عمومًا. صحيح أن الوازع الديني ذهب عند أولياء الأمور ومعه أخلاقهم ذهبت، وكذلك عند رجال الأعمال الجشعين. عند الصنف الأول غلبه حب السلطة السياسية، وعند الصنف الثاني غلبه حب السلطة المالية. أما الفلسفة  فكانت للصنفين الأخيرين بالمرصاد، تكشف نواياهم وتفضح وسائلهم وتنغص عليهم عيشتهم ولا تتركهم يتمتعون بما كسبوه من استغلال الشعب ظلمًا وبهتانًا.

أعود إلى حوار مقهى الشيحي:

-        جزئيًّا فقط.. الأخلاق الفلسفية والدينية غيّرت السلوك إلى الأقرب للإنسانية.. تفاهمنا.. والفضل، في تنبيهنا إلى اكتشاف هذا التغيير الجزئي، يرجع طبعًا للفيلسوف مشكورًا، ولكن في الجزء الذي لم يتغير، سألتُ جليسي: "هل المشكل يكمن في العقلية أو في القانون ؟".

-        في العقلية، طبعًا.

-        ما قولك في الفرنسيين ؟

-        متربّيين، طبعًا.

-        والتونسيين ؟

-        موش متربّيين، طبعًا.

-        ما رأيك إذن في مستثمر فرنسي "متربّي" ويحترم النقابيين في فرنسا، وعندما يأتي إلى تونس يصبح "موش متربي"، يرفت النقابيين ويرشي متفقد الشغل ؟ وما رأيك أيضًا في عامل تونسي مهاجر، في فرنسا "متربّي" ويحترم القانون ويقول لجاره الفرنسي بونجوغ، وعندما يأتي في عطلة إلى تونس يصبح "موش متربي"، لا يحترم إشارات المرور ولا يقول لجاره صباح الخير؟

-        المسألة تعقّدت أكثر؟

-        هي معقدة من أساسها فالبشرْ بشرْ في كل برْ، بشرٌ بجانبه الحيواني الغريزي (خوف، دفاع عن النفس من أجل البقاء، أنانية، شهوانية، إلخ) وجانبه الإنساني (كبح كل الغرائز لتهذيب النفس وجعلِها تليق بإنسانية الإنسان، صراعٌ مرير لكنه جميلٌ ولذيذٌ، صراعٌ ضد الطبيعة الحيوانية فينا بهدف أنسنتها أو إعادة أنسنتها، ومع كل مولودٍ جديدٍ يبزغ فجرٌ جديدٌ، جهادٌ أكبرُ ضد الذات وتجديفٌ واعٍ ضد التيّار، مثَلنا كمثَل سيزيف في صراعه من أجل الوجود).

Le philosophe humaniste Edgar Morin a dit: il faut réhumaniser l`humanité. Et Rousseau a dit: La civilisation, c`est réussir à passer de l`homme de la nature à l`homme de l`homme.

-        وهل السلوك الحضاري وراثي أو مكتسب ؟

-        ألم تسمع آخر ما قلتُه ؟ التحضّر هو شيئٌ لا يُورَّث في الجينات لذلك فهو مكتسبٌ 100%. أما "جيناتُنا، فما زالت أركَيِّيكْ، تعتقدُ المسكينة أننا ما زلنا نعيش في الغابة".

ADN = vieux logiciel biologique) Yuval Noah Harari  Sapiens. Une brève histoire de l`humanité, 2015  

-        والفلسفات والرسالات والإيديولوجيات، ألا تهذِّبُ الأخلاق ؟

-        هذبتها في حياة المؤسسين الأوائل، بعدهم وللأسف خبا لهيبُها وبَهِتَ بريقُها:

Les idéologies sont liberté quand elles se font, oppression quand elles sont faites, Sartre, 1948.

-        حتى الرسُلِ ؟

L`anthropologue Jacqueline Chabbi: La religion construit la société et la société construit sa religion.

يبدو لي، والله أعلم، أن مكارمَ الأخلاقِ التي أسسها وأرساها رسولنا الأكرم، صلى الله عليه وسلم، ذهبت معه وصحابته، رضي الله عنهم، ولم يَبْقَ ذكرُها موجودًا إلا في الكتب أو في القرآن المحفوظِ نرتّلها بُكرة وأصيلا، فصحّ علينا قوله تعالى وأصبح مَثلنا "كمَثل الحمار يحمل أسفارًا..". أما أخلاق مسلمي اليوم تحديدًا -ودون تعميمٍ-  فلا علاقة لها بالأخلاق الإسلامية السمحة إلا بالاسم، "شوية من الحنة وشوية من رطابة اليدين"، أسباب خارجية خارجة عن نطاقنا وأخرى داخلية ونحن مسؤولون عنها، وبين السبببن جدليةُ مستمرة (dialectique et interaction) قد تُولِّدُ انبثاقات غير معروفة مسبقًا (émergences).

-        ما أقسَى حكمك ؟

-        الواقع أقسَى ! ألم أقل لك أن المجتمع يصنع دينَه ؟

-        هل نترك القرآن إذن ؟

-        حاشا أن أقول مثل هذا "الكلام المباح" !

-        صحيح أن التربية الإسلامية لم تحسّن سلوكنا،  لكن هذا مبرِّرٌ غير كافٍ لكي نلغيها أو نهجرها. نتركها تأخذ مجراها في تعليمنا، وعدم تطبيق الأخلاق الإسلامية في الواقع هو حجة على مسلمي اليوم وليس حجة على القرآن، وقد يكون هذا الواقع البائس في عيوننا يخفِي عن إدراكنا حكمة ربانية نجهلها. مَن لم يطبق الأخلاق الإسلامية، فحسابه عند الله وحده يوم القيامة، عدالةٌ ربانية بعيدة عن عقولنا البشرية.

 - "إعيشكْ"، خلّينا في ما هو تحت إرادة البشر: الجزاء والعقاب بالقانون الوضعي (Le domaine du possible humain).

-        هنالك مَن ربّاهم القرآن.

-        صحيح 100%، لكنهم قلة قليلة جدًّا وإلا لَما دَنا واقعُنا من الدرك الأسفل، والاستثناءُ لا يلغي القاعدة. لِنرجع يا صديقي إلى موضوع الصين وكيف تراقب رعاياها رقميًّا بواسطة كاميرات منصوبة في كل الفضاءات العامة (مقاهي، حدائق، طرقات، محطات نقل، إلخ) وتسند لهم أعدادًا في حسابهم الاجتماعي وليس البنكي (Crédit social)، وحسب مجموعهم يُجازون أو يعاقبون.

-        تضعهم في السجن ؟ قُلْ لي: بماذا يُكتسَب السلوك الحضاري ؟ بالتربية أو بالقانون ؟

-        سبق وأن قلت لك "ابعِدنا عن مجال الدين"، أضِفْ له مجال القضاء.

-        بماذا يُكتسَب إذن ؟

-        رئيس الصين يقول: "بالجزاء والعقاب، بالجزرة والعصا نربّي شعبنا ونمنحه الأمن والأمان وبهما الاثنين يحيا الإنسان، نجحنا في تغيير بعض السلوكات اللاحضارية وحوّلناها إلى سلوكات حضارية، حصل هذا في ظرفٍ وجيزٍ من الزمن".

-        مثل ما فعل بافلوف مع كلب بافلوف ؟

-        بالضبط، لكن لِنلطِّفها قليلا ونقول علم النفس السلوكي (La psychologie comportementale) أو المدرسة السلوكية (Le béhaviorisme) المرتكزة على مبدأ المكافأة والحرمان من المكافأة.

-        كيف سنطبق هذا المبدأ اللاأخلاقي ؟

-        هو لاأخلاقي في وسائله لكنه ناجعٌ في نتائجه.

-        وهل الغاية تُبرِّرُ الوسيلة ؟

-        هي في المُطلَق والمنطق.. لا تُبرِّرُ، لكن في الصين يقولون أنها تُبرِّرُ !

-        الخبر كما ورد في لوموند ديبلوماتيك: نُصِبتْ كاميرات متصلة (caméras connectées) في كل مكان لمراقبة رعاياها، ثم معاقبة المخطئ ومجازات الأقل خطأ.

-        وهل يحق للدولة مراقبة رعاياها في الفضاء العام دون علمهم والحد من حريتهم الشخصية ؟

-        اعتراض هام يستحق التفكير، الجزء الأول لا جواب عندي عليه، أما الثاني فلي جوابٌ، وهو الآتي: حريتك الشخصية تقف عند حرية غيرك.

-         وهل المساس بالفضاء العام هو مساسٌ بحرية الغير ؟

-        على اسمه فضاء عام، أي مِلك العموم، والعموم هم أنا وأنت: الطريق العام ملكنا والساحات ومحطات النقل والحدائق العمومية وغيرها من الفضاءات العامة.

-        وهل الشواطئ فضاءات عامة ؟

-        طبعًا.

-        وهل يحق للدولة مراقبة العصافير من رعاياها، عصافير تتبادل القُبَلْ على شاطئٍ معزولٍ في بومْهَلْ، يتبادلونها على مَهَلْ لا على عَجَلْ ؟ (لا وجود لشاطئٍ في بومْهَلْ، الضرورة الشعرية حَكَمَتْ).

-        "سي علاء سَكِّرْ البرنامج" !

-        كليمة واحدة و"انسكّر البرناج": بالتربية الدينية والفلسفية قد نحسّن سلوك البشر لا بالجزرة والعصا. لسنا كلاب بافلوف ولن نقبل أن نكون، والإنسان حر أو لا يكون، وفَشَلَ الصينيون ولو نجحوا ! ويكفينا بلوغ الوسط، لذلك لا تعنينا الأطراف المتطرفة يمينًا أو شمالاً.

Aristote a dit: La vertu est le juste milieu.

قال تعالى : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا".

ملاحظة: قبل مقابلة الفيلسوف، كانت النسخة الأولى من هذا المقال (الملغاة) بمثابة مقدمة لنشر مقال يمجد نجاح الصين في مراقبة رعاياه وتربيتهم بالجزرة والعصا، ولو فعلتُها لَكنتُ متناقضًا مع روح وفلسفة مقالي السابق في ثلاثة أجزاء حول شمولية الرأسمالية الناعمة السائلة (مقال "ڤوڤل"). لا خابَ مَن استشارَ.

خاتمة:

الديداكتيك، اختصاصي، قالت أن المعارفَ لا تغيّرُ القِيمَ، معارفَ علمية كانت أو فلسفية أو دينية.

 

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire