samedi 16 mars 2013

محاولة فلسفية ثانية: هل تكمن الثورة في عدم الثورة؟ جزء 3: "الصحوة الإسلامية" أو شبه الثورة الإسلامية المعاصرة؟ مواطن العالم د. محمد كشكار


محاولة فلسفية ثانية: هل تكمن الثورة في عدم الثورة؟ جزء 3: "الصحوة الإسلامية" أو شبه الثورة الإسلامية المعاصرة؟ مواطن العالم د. محمد كشكار

ملاحظة
نشرت هذا المقال لأول مرة قبل الثورة في 27 أوت 2008 و أعيد نشره بعد الثورة في 14 مارس 2013 مع تعديلات شكلية

الصحوة أو الثورة الإسلامية
سأورد هنا دون تعليق ثلاث شهادات تقيّم هذه الصحوة، الأولى من كاتب عَلماني - و لا شأن و لا مصلحة لأحد بإيمانه أو عدم إيمانه - و الثانية من مفكر إسلامي، أما الثالثة فهي اجتهاد شخصي من عبدكم الفقير - فكريا و ماديا -  محمد كشكار

1.     الشهادة الأولى
 شهادة فيلسوف سوري، مطاع الصفدي، في الصحوة الإسلامية: "في الحقيقة إن ما يسمّى بالصحوة الإسلامية، إنما هي عبارة عن رِدّة نحو الشعائرية الدينية و ليست نحو الإسلام الحقيقي، و هذا ما فصّلته في بحث كان عنوانه "الميراث و التراث". فلو أننا صحونا حقا لكُنّا عدنا و لا نقول عُدنا بل استحضرنا الجهاز النفسي و العقلي و التاريخي الذي أنتج الإسلام ذات مرة في أعماق التاريخ لينتج لنا اليوم ما يناظره
هذا الإسلام من حيث كونه يردّ على مطالب العصر الحقيقة و تحدّياتها. فنحن نستحضر للأسف ميراثا شعائريا و لكننا لا نتمكن من اكتشاف الروح التي خلقت ذلك الإسلام
إننا نقلّد المنتَج أو المنتوج و لكننا نفقد آلة الإنتاج بالذات. فما أسهل أن نرتدي عباءة أجدادنا و ما أصعب أن تكون لنا رؤوسهم
 ثم إن هذه الحركات الدينية هي "حركات تصحير" تريد أن تعود بنا إلى الصحراء، و هي تعبير عن السكونية المعاصرة، بسببها لا يمكننا أن نخرج من دائرة المثالية الكانطية

2.     الشهادة الثانية
 شهادة فيلسوف تونسي، أبو يعرب المرزوقي. أنبه القارئ أنني سجلت بكل أمانة علمية معنى كلام الأستاذ من البرنامج عند بثه و قد يصبح  هذا الكلام عند صياغته كتابيا غير مطابق حرفيا لما قاله الأستاذ بالضبط: بعد موت محمد، النبي (المعصوم في نقطة واحدة و هي  تبليغ الوحي الإلهي أما في ما تبقى فهو بشر مثلنا يخطئ و يصيب), أصبحت الجماعة أي الأمة هي المسؤولة الوحيدة عن الشريعة. فالجماعة إذن - و ليس الفقيه أو السلطان - هي التي تختار بحرية، تطبيق الشريعة و هي التي تراقب التطبيق في نفس الوقت, هي الديمقراطية و دولة القانون و المؤسسات بالمعنى الغربي الحديث للكلمة و ليس بالمعنى العربي المشوّه. إذا احتكر الحاكم سلطة الدين و سلطة القانون فسيصبح لا محالة طاغية...اليوم ازدادت حاجة الناس إلى التديّن أكثر من ذي قبل لأن التديّن هو سموّ على المُغريات المادية المُعاشة و اليوم طغى الاستهلاك و برزت مفاتن المادة أكثر من قبل...البدو أبعد الناس على الشريعة لأنهم أبعد عن التمدّن و فهمهم للدين مناف للشريعة التي لا يرون منها إلا قطع اليد و إقامة الحدود...و للشريعة في الواقع وجهان: وجه تربوي و وجه ردعي. فلو طوّرنا الوجه الأول فقد نستغني عن الوجه الثاني، لأنه عندما يكبُر الوازع الذاتي التربوي الأخلاقي تنقص الحاجة للوازع الخارجي الردعي...يظن الناس أن الشريعة و الطبيعة تمثلان ثنائية و هما في الواقع لا يتقابلان بل يتكاملان. لنضرب مثلا على ذلك: عندما يتجاوز الإنسان في الأكل أو في شرب الخمر أو في التدخين, يمرض جسمه لأنه لم يحترم قانون الطبيعة و في نفس الوقت خالف الشريعة لأنها تنهاه عن مثل هذه التجاوزات...المسلم يعاني من خطرين: خطر الاستغلال الإيديولوجي و السياسي (أصبح الدين أداة للوصول للسلطة و ليس أداة لنشر القيم الدينية السامية) و خطر التمسك بالشعائر دون روح، لن يسلم المسلم إلا إذا تخلص من هذين الخطرين الأخيرين و تجنب ما يفعله بعض المصلين الذين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء و المنكر أو بعض الصائمين الذين لا يمنعهم صيامهم عن التبذير و التبجح و الشهوانية  في شهر رمضان أو بعض المزكّين الذين لا تطهّر زكاتهم أموالهم لأنهم جمعوها بالاستغلال و الاحتكار و الرفع في الأسعار أو بعض الحجاج الذين يحجّون للمتاجرة و المفاخرة و ليس ابتغاءً للتوبة و الرجوع إلى الله

يخضع الإنسان لقوانين الطبيعة مكرها فلا يستطيع أن لا يأكل أو أن لا يتنفس و لكنه يتبع الله بإرادته الحرة مخيّرا و ليس مسيّرا أو مكرها أو عبدا...العلاقة بين الإنسان و الإله هي علاقة بين ذاتين حرتين...قد يسبّب اختلاف الشريعة مع الواقع نوعان من الانفصام لدى الإنسان: انفصام محمود و انفصام مذموم. الانفصام المحمود يرى أن الشريعة تمثل المثال المتعالي عن الواقع الذي نسعى دائما لتحقيقه مع العلم أن الشريعة لم تتحقق كاملة متكاملة في أي لحظة من تاريخ المسلمين منذ الرسالة حتى الآن و لن تتحقق لأنك ستجد دائما من يخالفها عن قصد أو عن عجز أو عن جهل أو عن كفر أو عن إلحاد أو عن مرض. أما الانفصام المذموم دينيا فيرى أن لا حاجة لنا لمثال نسعى لتحقيقه و لن نحققه فنكتفي إذا بواقعنا و نحاول تحسينه و هذه سياسة الرأسمالية الذي ينعتها "فوكوياما" بنهاية التاريخ. انتهت شهادة أي يعرب المرزوقي

3.     اجتهاد شخصي
في الفقرة الموالية، سأحاول التحلّى بالشجاعة الفكرية و أورد أيضا بعض الاجتهادات الشخصية التي اكتسبتها من الثقافة الإسلامية السمعية البصرية في شهر رمضان المبارك و من الكتب الإسلامية رغم وعيي الكامل بحدود إمكانياتي في الاجتهاد لعدم إلمامي بشروطه، من تفقه في الدين و اللغة و التاريخ و الألسنية و الأنتروبولوجيا و غيرها من العلوم الحديثة الضرورية لفهم النص الديني المقدس فهما عصريا و لا نقتصر على الفهم السلفي رغم وجاهته في عصره. سنة  1981 و أنا أستاذ متعاون بالجزائر، قرأت القرآن و تفسير الجلالين  و صحيحي مسلم و البخاري و ظلال القرآن لسيد قطب و شهادة الحق لأبي الأعلى المودودي و نظرات في القرآن للإمام الشهيد حسن البنا و كل أدبيات الإخوان المسلمين، و في العشرية الأخيرة بعد الألفين قرأت لمفكرين عَلمانيين من أمثال عبد المجيد الشرفي و هشام جعيط و محمد الشريف الفرجاني و هاشم صالح و محمد أركون و محمد الطالبي و استمعت لمفكرين إسلاميين من أمثال أبو يعرب المرزوقي الإمام محمد الغزالي و يوسف القرضاوي. تابعت تقريبا كل محاضرات الغزالي في الجزائر من 1980 إلى 1988 و محاضرات المؤتمرات الإسلامية في الجزائر و أتابع بانتظام و حيرة و تعطّش فكري و حس نقدي دروس القرضاوي في برنامج الشريعة و الحياة في قناة الجزيرة و أنام كل ليلة على تلاوة القرآن الكريم في إذاعة الزيتونة التونسية و نشأت و تربّيت في بيئة إسلامية سليمة و متسامحة في قرية جمنة بالجنوب الغربي التونسي، هذا عدى قراءاتي العَلمانية المتعددة للماركسية و القومية و الوجودية و غيرها من الإيديولوجيات و اطلاعي المتواضع على الأدب العربي و الفرنسي و العالمي مع ثقافة علمية أكاديمية في اختصاص إبستمولوجيا البيولوجيا، و التي أعتبرها ناقصة حتى و إن نلت فيها أعلى درجات العلم و التحصيل الإشهادي من أحسن الجامعات الفرنسية و التونسية. زادي الوحيد هو الصدق في النية و الإخلاص في النصيحة. لا أتوجّس خيفة من أحد لأنني لم أتعرض للتهديد يوما واحدا في حياتي من السلطة التونسية بعهدها القديم و الجديد و لا من الاتجاه الإسلامي - الذي لي فيه سابقا و حاضرا أصدقاء طفولة و شباب كثر، لم يفسد الاختلاف الفكري العميق بيني و بينهم للود قضية - و لا من جلسائي في المقهى و أصدقائي المسلمين الممارسين لدينهم فعلا و قولا و لم تقابل آرائي و اجتهاداتي بالاستهجان بل قوبلت بالاستحسان مع تشبث كل واحد منا بفكره ما دام حرا مستقلا ليس مرتزقا أو متملقا للسلطة التنفيذية و لا للسلطة الدينية لكن و مع الأسف الشديد، و أقولها بخجل شديد، تعرّضت بعد الثورة التونسية إلى تهديد صريح و حادّ و عنيف من أحد أقرب أصدقائي اليساريين المنتمين

و "من اجتهد و أصاب فله أجران و من اجتهد و أخطأ فله أجر واحد "، و أنا بطبيعتي قنوع و أكتفي بأجر واحد و أعتمد على حِلمكم  و أخذِكم بيد مجتهد صادق و أمين لكن غير مختص،  و ثقتي في سعة صدركم و قبولكم للآخر كبيرة و غير محدودة، و إن فاتتني أشياء أو فتنتني أخرى أو أخطأت دون إضمار الإساءة و التشويه لأمتي و شعبي و ديني و عائلتي الضيقة و الموسّعة و أصدقائي المسلمين و غير المسلمين و مسقط رأسي جمنة و بلدي تونس و حضارتي العربية الإسلامية و عالميتي غير الإيديولوجية، و صادف و اكتشفتم فيّ اعوجاجا فقوّموه و أصلحوه بالتي هي أحسن يا أولي الألباب و الاختصاص و لا تناصبوني العداء و لا تجعلوني من أعدائكم فأنا منكم و إليكم، شئتم أم أبيتم. الرسالة المحمدية ليست ملكا لأحد و هي موجهة للعالمِين مسلمين و غير مسلمين، و العلاقة بين المخلوق و خالقه في الإسلام فردية  و خاصة و عمودية مباشرة و لا أحد يهدي أو يظلل الآخر فحتى الرسول محمد بن عبد الله، صلى الله عليه و سلم، لم ينل هذه المرتبة الربانية العليا "هداية البشر" الذي اختصها الله عز و جل  لنفسه فقط دون رُسله و عباده الصالحين. لا يملك أي إنسان، مهما بلغ من العلم و التقوى، حق تكفير غيره أو الحكم على نواياه و إنما يكتفي بما ظهر منها من صدق في القول و إخلاص في العمل. لا أعادي و لا أخادع و لا أنافق و لا أجامل أحدا من العالمِين لأنني أحمل كل الحب لكل العالمِين فما بالك بأهلي و عشيرتي و قوميتي و انتمائي المتجذر في وطني المتفرع و المنفتح على كل ثقافات العالم غير المعزولة عن بعضها البعض و لو كره الكافرون

حديث (يقولون إنه ضعيف و أنا أود أن يكون صحيحا لجماليته في اللفظ و وجاهته في المعنى): "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"، أترجمها بلغة العصر: "كن عَلمانيا مائة بالمائة و روحانيا مائة بالمائة"، عَلمانيا بفتح العين، يعني تنشغل بمشاكل هذا العالم المادي المحسوس، المشاكل البشرية التي لا نكاد نلمس حضورها  في جل الخطب الرنانة لجمهرة الدعاة الإسلاميين و ما أكثرهم على الفضائيات العربية. لم أسمع و لو واحدا منهم يتكلم عن النقابة و حقوق العمال أو عن البطالة و الفقر و الجهل و تخلف التعليم في ديارنا و غياب الضمان الصحي و  غياب التداول على السلطة و مصادرة حرية التعبير و منع حرية الصحافة و تقنين التمديد و التوريث و ممارسة التعذيب في مراكز الشرطة و احتراف القمع و فرض قانون الطوارئ و التبعية الغذائية و الثقافية و الصحية و العسكرية في عالمنا العربي و حصار غزة من قبل الأنظمة العربية و الرقابة على ما ينشر في النت و غيرها من المشاكل اليومية التي يعاني منها المواطن العربي المسيحي و اليهودي و المسلم. أما كلمة روحانيا، فأعني بها قرآنيا، تتلو القرآن و تعمل به  و لا تكتفي بقراءته في صلاة التراويح و في الغد تذهب إلى شغلك و تنسى أو تتناسى كل القيم القرآنية من تحابب و تآلف و صدق و مودّة و ترجع صغيرا و صاغرا إلى طينتك الأصلية و تغش في العمل و تتكاسل في أداء واجبك و تحتكر السلع و تزيد في الأسعار و تكفّر الآخرين  و تحاول أن تهدي بالتي هي أخشن و تعطي أبشع صورة على الإنسان المسلم. لو قرأ كل واحد منا القرآن و طبقه لصلح حال الأمة دون حاجة لتغيير ثوري و عنيف و دموي للسلطة. و من هي السلطة؟ قلت في مقال سابق أنها مبثوثة في المجتمع، هي أنت و أنا و أخي و أخيك و ابن عمك و الوزير و الشرطي و الأستاذ و المعلم و التاجر المستقيم و التاجر الذي يسرق أموال الفقراء و الجزار المستقيم و الجزار الغشاش و الموظف المستقيم و الموظف المرتشي و النقابي المستقيم و النقابي الفاسد و الداعية المستقيم  و الداعية المتاجر بالدين أو الإمام الموظف عند السلطة

لماذا لا نقلد محمدا، رسول الله، صلى الله عليه و سلم، و نصرخ صرخته المشهورة عندما فكر علي ابن أبي طالب رضي الله عنه مجرد تفكير في الزواج بثانية و هو متزوج من فاطمة الزهراء ابنة الرسول: "إلا فاطمة يا علي". كلنا أبناء الرسول و كل بناتنا فاطمة و معزّة فاطمة عند الرسول لا تزيد عن معزة ابنتي "عبير" عندي و هي متحجبة و متدينة فأكيد يحبها الرسول، صلى الله عليه و سلم، و لا يفرّق بينها و بين فاطمة و هو المشهود له بالعدل. أصرخ إذن مقتديا بالرسول الكريم، صلوات الله عليه و سلامه، أشرف و أكبر و أعظم و أنبل قدوة في حضارتنا العربية الإسلامية و أقول: "إلا عبير يا أبا بكر (زوج ابنتي اسمه أبو بكر)". لماذا لا نقلده في تسامحه و قبوله للآخر عندما تزوج من يهودية و من قبطية و رضي بهما والدتين غير مسلمتين محتملتين لأولاده؟ لماذا نكفّر و نقصي النصارى و اليهود و نقول عنهم خنازير؟ هل يرضى المسلم بخنزيرة أمّا محتملة لأولاده؟

لماذا لا نقلده في نشره للدعوى بمكة في الثلاثة عشر سنة الأولى بالتي هي أحسن و نحن الآن في القرن الواحد و العشرين قد توفر لنا من علوم الإقناع مما يغنينا عن السيف و لا ننسى أن الإسلام انتشر سلميا في جل بلدان العالم الإسلامي: يقول الدكتور عمار مقدّم  برنامج "دين و دنيا" في قناة "دريم" على الساعة الثالثة عشرة و نصف يوم السبت 28 أوت 2010: "الدين الإسلامي لم ينتشر بالسيف و إنما الإمبراطورية الإسلامية هي التي توسّعت بالسيف و الأدلة التالية تبرهن على صحة هذا الطرح: 1. فتحت مصر بالسيف و بقي الأقباط المسيحيون يمثلون أغلبية السكان في مصر على مدى ثلاثة قرون حتى تأسست الدولة الفاطمية فانتشر الإسلام أكثر. 2. فتحت اسبانيا بالسيف و لم ينتشر فيها الإسلام على مدى ثماني قرون من الحكم الإسلامي. 3. انتشر الإسلام دون سيف في أندونيسيا، أكبر الدول الإسلامية الحديثة عددا، عن طريق التجار المسلمين. 4. انتشر الإسلام في إفريقيا السوداء دون سيف عن طريق أصحاب الطرق الصوفية. 5. انتشر الإسلام حديثا في القرن العشرين دون سيف في أوروبا و بريطانيا و أمريكا الشمالية و الجنوبية و كندا و استراليا. هذا النهج السلمي في نشر الدعوة الإسلامية يتماشى تماما مع إيماني الشخصي الراسخ باللاعنف و قد أراحني وجود هذا النهج السلمي في الإسلام نفسيا قبل أن يقنعني منطقيا؟

لماذا لا نقلد أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، عندما قال في حفل تنصيبه كأول خليفة للمسلمين: "محمد كان له ملاك يهديه أما أنا فلي شيطان يغويني فإن أصبت فأطيعوني و إن أخطأت فأصلحوني"، و ننزع القداسة عن السلطة المدنية و نرسى  دولة القانون و المؤسسات بدل الدولة الدينية التي تحكم باسم الله و الله أسمى من الدولة مليون مرة، دولة مدنية تكون الحظوة فيها للأصدق و الأكفأ قبل الأتقى و إن توفرت الصفتان في شخص واحد فالحمد لله و الشكر لله؟ لماذا لا نفصل الدين عن سياسة الدولة؟ لأن السياسة تفسد الدين و تحطّ من قيمته الروحية و في الوقت نفسه الدين يفسد السياسة بادعاء اكتساب اليقين المُطلق و الرأي الواحد المقدس غير القابل للنقاش. عندما يحتمي السياسي بقداسة الدين، لا نستطيع معارضته و محاسبته و إلا اتهمنا بالكفر و الإلحاد؟ قلت نفصل الدين عن سياسة الدولة و لم أقل عن المجتمع لأن المجتمع مسلم و لكن لا ننكر حق الأقلية في ممارسة شعائرها المسيحية أو اليهودية أو البوذية و حقهم في تولي أعلى المناصب في الدولة، لو وصلوا إليها بكفاءاتهم، كما فعل أكبر قائد حربي عربي، صلاح الدين الأيوبي، عندما استعان بقُواد مسيحيين عرب في حروبه الصليبية ضد الغزاة الأوروبيين المتسترين بالمسيحية و بالحق الإلهي في الاستحواذ الكامل على مدينة القدس  قصد تنصيرها عنوة و طرد سكانها الأصليين من يهود عرب و مسلمين عرب و مسيحيين عرب. تُقاس الديمقراطيات بالمحافظة و تكريس حقوق الأقليات و ليس بفرض رأي الأغلبيات على الأقليات المقهورة

لماذا لا نقلد عمر بن الخطاب؟ رضي الله عنه، في اجتهاده و هو أكبر و أشجع المجتهدين و أفهمهم و أقربهم لمقاصد القرآن عندما طبق مقاصد القرآن و أوقف إقامة الحد على السارق في عام الرمادة، عام المجاعة، لأن شروط إقامة الحد لم تتوفر في ذلك الظرف الاجتماعي الزماني و المكاني؟ لماذا لا نقلده و نطبق القرآن و نشرّع اليوم منع إقامة الحد على السارق لأن عصرنا وفّر لنا من علوم التربية و النفس ما يجعلنا قادرين على إعادة تأهيل القاتل و السارق و إدماجه في المجتمع كمواطن تائب و صالح غير مقطوع اليد؟ لماذا لا نقلده و نطبق ما أمرنا به الله في آخر كل آية حدّ و هو العفو و قد قال إنه خير لنا من القصاص و وعدنا إن عفونا بأجر مضاعف في الجنة؟ لماذا لا نقلده عندما طبق مقاصد القرآن و منع عطايا الرسول على المؤلفة قلوبهم، رغم التنصيص عليها في القرآن الكريم لأن الإسلام تعزز و لم يعد محتاجا لمساندة هؤلاء؟ لماذا لا نقلده عندما منع الصحابة من الخروج إلى الأقاليم حتى لا يستغلوا نفوذهم و يملكوا الأرض و من عليها؟ لماذا لا نواصل اجتهاده و لنا من العلوم الحديثة ما لم يتوفر لعمر رضي الله عنه رغم تفوقه علينا جميعا في الجانب الروحاني؟ لماذا لا نقلده عندما قال قولته المشهورة "أخطأ عمر و أصابت امرأة"، مواطنة عارضته علنا فلم يعاقبها و لم يحرمها من التعبير عن رأيها و لم يقمعها و لم يعذبها و لم يسجنها رغم ضعفها و قوته؟ لماذا لا نقلده و نشرّع اليوم إحلال (من حلال) النحت و التصوير و التمثيل و السينما لأننا أصبحنا الآن في مأمن من عبادة الأصنام و الشرك بالله بفضل قوة إيماننا؟ لماذا لا نقلده و نشرع إحلال الموسيقى الراقية التي تهذّب الذوق و تُريح النفوس كموسيقى مارسال خليفة و عبد الوهاب و فيروز و أم كلثوم و نجاة و بتهوفن و موزار لأن الموسيقى في عصرنا لم تعد حكرا، كما في الجاهلية،  على بيوت الدعارة و جلسات السكر و المجون و لأن قرآننا  ينطق موسيقى قبل المعاني و يصل إلى الوجدان قبل العقل و قد تعلم أكبر الملحنين المصريين أمثال الشيخ زكريا و الشيخ إمام في مدارس تجويد القرآن الكريم؟ إذا كان الشاعر مسلما و الملحن مسلما و العازف مسلما و المطربة أو المطرب مسلما و السامع مسلما، فأين يكمن الضرر؟ و إذا كانت الكلمات راقية و الموسيقى هادئة و الأداء رائع فأين تكمن المشكلة؟ و لنا أسوة في العالم المسلم و الموسوعة، الملمّ بعلوم عصره من فلسفة و علوم دينية و طبيعية و موسيقية، الصوفي الورع التقي الزاهد بالدنيا و الشديد الانصراف عن متعها في المال و الزوج و الولد، أبو نصر محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي الذي كان يعزف الموسيقى و قد عاصر الأمير سيف الدولة في حلب بسوريا في القرن التاسع و العاشر ميلادي و يقال عنه أنه اخترع أو طوّر الآلة الموسيقية المعروفة بالقانون و ألّف كتبا في الموسيقى: كتاب الموسيقى الكبير و كتاب في إحصاء الإيقاع و كتاب إحصاء العلوم  الذي يتضمن جزءا خاصا بعلم الموسيقى؟

لماذا لا نقلد القرآن في شفافيته و حرية تعبيره عندما نشر و نقل لنا عبر أربعة عشر قرن حجج  الشيطان عدو الله و الإنسان و اتهامات أعداء الرسول و تكذيبهم لنبوته و لم يقطع مقص الرقابة الإلهية أخبار المعارضين و وجهات نظرهم. أما سلطتنا اليوم، فهي تجزع من نص بصفحة واحدة، ينشره على النت معارض منفرد للسياسة التربوية ؟

لماذا لا نتحلى بشجاعة عقل السلف الصالح من صحابة و الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة و نتبع منهجية تفكيرهم و استنباطهم للأحكام دون الخروج عن المقاصد القرآنية بعيدا عن التمسك الجامد و المتحجّر بالنص خاصة و أننا نمتاز عليهم لا في الورع و التقوى بل في العلوم الحديثة من ألسنية و أنتروبولوجبا و علوم التربية و علم النفس و علم الاجتماع و إبستومولوجيا و علم الأحافير و غيرها و أقول كما قال مطاع الصفدي في أول المقال: " فما أسهل أن نرتدي عباءة أجدادنا و ما أصعب أن تكون لنا رؤوسهم

الإمضاء
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي أو بالحيلة، لأن الحيلة تُعتبر عنفا مقنّعا و غير مباشر
الكتابة بالنسبة لي، هي مَلْءُ فراغ، لا أكثر و لا أقل، و هواية أمارسها و أستمتع بها، متعة ذهنية لا يمكن أن تتخيلوها
تحية دائمة و متجددة لزملائي المربين: في ألمانيا المعلمون أعلى دخلاً في البلد، وعندما طالب القضاة والأطباء والمهندسون بالمساواة ؛ ردت عليهم ميركل: كيف أساويكم بمن علّموكم؟
قال ويليام بلوم: لو كان الحب أعمى فـالوطنية الشوفينية الضيقة الإقصائية  و المتعصبة فاقدة للحواس الخمس

تاريخ أول نشر على مدونتي و صفحاتي الفيسبوكية الثلاث
حمام الشط في 27 أوت 2010

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire